علي جازو
في عام 2009، ألقى الروائي التركي أورهان باموك ستَّ محاضرات في جامعة هارفارد. تناولت المحاضرات أسئلة حول “كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية؟” و”سيّد باموك هل حدث حقاً كلّ هذا معك؟” و”الشخصية الأدبية، الحبكة والزمن” و”الكلمات، الصور والأشياء” و”المتاحف والروايات” و”محور الرواية”.
اعتمدت المحاضرات على التمييز الذي وضعه الشاعر الألماني فريديريش فون شيلر بين الشاعر الساذج والحسّاس في مقاله الشهير “عن الشعر الساذج والحساس”.
كان هدف باموك من وراء اختيار مقال شيلر مدخلاً لمحاضراته “الوصول إلى مفهوم أعمق لما توصّل إليه شيلر” ونقل حقل التمييز من الشعر إلى الرواية. هكذا يستند باموك إلى مقال حول الشعر، وصفه توماس مان بأنه “أجمل مقال كُتب في اللغة الألمانية”، ليوضّح ويقدّم أفكاره حول الرواية بعد تجربة امتدت قرابة أربعة عقود.
يتحدّث باموك في هذه المحاضرات – التي صدرت أخيراً عن “دار الجمل” بترجمة ميادة خليل – عن أسلوبه في كتابة الروايات، غير أنه لا يطرح أفكاره بشكل شخصي. لقد أراد تقديم أمثلة واقعية من حياته الشخصية كروائي، إضافة إلى ما عرفه وقرأه عن روائيين آخرين.
يصف باموك بدقة مشاعر القارئ الساذج والحساس، ويقارنها بتجربة الكتابة الروائية. فالقارئ والروائي الساذج هو حسب تعريف باموك، ذاك الذي لا يشغل نفسه بالجوانب الفنية في كتابة وقراءة الرواية.
بينما على العكس من ذلك، القارئ والروائي الحساس (العاطفي أو المتأمل) يولي اهتماماً كبيراً للأساليب الفنية الروائية والطريقة التي يعمل بها عقل القارئ. يخلص باموك إلى أن “الحالة المثالية هي التي يكون فيها الروائي ساذجاً وحساساً في الوقت نفسه”.
إن “خلط الواقع مع الخيال”، أو مزج الحقيقة مع الحلم، تُعد من أهم الأسباب التي تجعلنا نقرأ الروايات، ومع ذلك فالهدف من قراءة الرواية يختلف من قارئ إلى آخر، وكل قارئ يتخيّل صوره الخاصة عن الرواية.
هكذا تكون الراوية خطاباً حقيقياً ومتخيّلاً تستهدف القارئ كفرد، في الوقت الذي يكون فيه القارئ مختبراً لقدرة الرواية على تحفيز مخيلته عبر اكتشاف الخيال والصدق في أحداث الرواية.
يقارن باموك أيضاً ويوضّح العلاقة بين فن الرسم كصورة حسية ومشاهد وتفاصيل الرواية كصورة سردية، بين السينما وخيال القارئ، وبين القارئ وزائر المتحف، وبين المتحف والرواية.
إلى ذلك يقدّم صاحب “اسمي أحمر” في هذه المحاضرات نظريات ومصطلحات سردية بشكل سهل وذكي، مُدعّمة بأمثلة واقعية روائية، تمنح كل مهتم بالرواية المعلومات التي يرغب في معرفتها عن عالم الروائيين.
معظم الأمثلة، التي يستند إليها باموك في محاضراته، تعود إلى رواية القرن التاسع عشر، وخصوصاً تولستوي في رواية “آنا كارنينا”، وبلزاك في “الكوميديا البشرية”، ودستويفسكي في “الأخوة كارامازوف”، وبروست في “البحث عن الزمن المفقود”.
يرى باموك أن “الأحكام الأخلاقية هي ورطة لا مفر منها في الرواية”، ذلك أننا كقرّاء نُصدر أحكاماً أخلاقية على اختيارات وسلوكيات أبطال الراوية، وفي نفس الوقت، نقيّم الكاتب على أحكامه الأخلاقية في ما يتعلق بشخصياته.
يعتقد باموك، في هذا الجانب، أنه ينبغي ألا ننسى أن الحصيلة الأفضل لفن الرواية لا تكون من خلال محاكمة الناس، لكن من خلال فهمهم: “عندما نقرأ رواية، ينبغي أن تكون الأخلاق جزءاً من المشهد، وليست شيئاً ينبع من أنفسنا ويستهدف أبطال الرواية”.
يورد الكاتب التركي مقارنة لمّاحة في الفرق بين كل من تولستوي ودوستويفسكي اللذين كتبا في الزمن نفسه وداخل الثقافة نفسها. فالمعرفة أو الحكمة التي يقدّمها لنا دوستويفسكي الذي لا يهتم كثيراً بالجوانب المشهدية، لا تحاكي خيالنا البصري، لكنها تحاكي خيالنا اللفظي.
بالنسبة لقوة الرواية وفهم النفس البشرية، تولستوي عميق أحياناً مثل دوستويفسكي، على الرغم من أن جزءاً كبيراً من حكمة الأول تختلف في طبيعتها عن حكمة الثاني. تولستوي لا يخاطب فقط خيالنا اللفظي، لكن – حتى أكثر – خيالنا البصري.
خارج مركز الحضارة الغربية، حيث نشأت وتطوّرت الرواية، حاول الروائيون مواجهة نوع من الخيال المقبول على نطاق واسع، وتجنبوا المواجهة مع الحقيقة المحضة لواقع بلدانهم. لقد أرادوا استخدام التخيّل كدرع تحميهم من قمع الدولة، وفي نفس الوقت التصريح بالحقيقة. هذه الحالة التي تتركز فيها آراء متناقضة – هي حلول عملية في ظل القمع الاجتماعي والظروف السياسية – قادت إلى أشكال وأساليب روائية جديدة.
هناك جانب خاص جداً في ما يتعلق بكتابة وقراءة الروايات، وهو الجانب الذي يتعلق بالحرية، تقليد حيوات أخرى، وتخيّل أنفسنا، حسب باموك، على أننا شخص آخر، من خلال الرغبة في ابتكار كثير من الأنماط المحتملة للأبطال، الرغبة التحرّرية الأساسية التي تجعل قراءة وكتابة الروايات مشوّقة، إضافة إلى الطموح الذي يجعلنا ندرك حدود قدرة شخص على فهم شخص آخر.
العربي الجديد