*زليخة أبو ريشة
ليس التبشير حكراً على المسيحيّة، بل يمكن أن ينتسب لأيّ دين من الأديان، وأي مذهب من المذاهب الدينية أو الفكرية أو السياسية. والمقصود لدي اليوم هو التبشير المذهبي القائم على قصد وغاية لتحويل أفراد من مجتمع ما إلى مذهب آخر وحشد المغريات لذلك، من مثل حوافز المنح التعليميّة والمكافآت العينية والمالية والتوظيف وغيرها، ولأهداف سياسيّة بعيدة. ولذا فإني أرى أن قد آن الأوان فعلاً لمراجعة جذرية لهذه المؤسسة التي تقوم بها الأجهزة المختصة سواء أكانت حكوميّة أم أهلية. سواء أقام بها الأزهر أم غيره مما يحمل وسماً إسلامياً، كالمواقع الإلكترونية والفضائيات والجمعيات غير الحكومية ودول بعينها مثل إيران وتركيا والسعودية. فالمواطن والمواطنة العربيان لا يحتاجان إلى من يدعوهما إلى الدين الإسلامي بشقّيه السُنيّ والشيعي ما دام ولد كلاهما على دين أبيه (لا أمه)، وما دام من الميسور عبر المراجع الفقهية المتاحة التعرّف إلى هذا الدين أو التعمّق فيه.
وإذا كانت مؤسّسة التبشير تختلفُ عن مؤسسة الوعظ والإرشاد (أو ينبغي لها أن تختلف)، فإنهما معاً على درجة عالية من الانتقاص من قيمة العقل البشري والتحضّر الإنساني، إذ تفترضان الجهل المطبق لدى المجتمعات التي ينتعش فيها. فنظرة تاريخية إلى حقبة التبشير الأوروبي، مثلاً، ستدعنا نرى أنه اتجه إلى مجتمعات بكرٍ وثنيّة غالباً، ليس لديها حظّ من الحضارة ومفرداتها، غارقة في الأميّة الفكرية والكتابية، مما شكّل بيئةً سهلة للتأثير الديني الذي فعلَ فِعلَه عبر المدارس والعيادات الطبيّة التي أنشئت لتحبيب هذه الشعوب البائسة بالمسيحيّة. وإذ ثمة قصص جليلة لأشخاص أجلاء ضحوا بحياتهم من أجل خدمة الأفارقة في الجوع والجهل والمرض، إلا أنّ التبشير بمجمله لم يكن سوى مخلب من مخالب الاستعمار الحديث، وهو كذلك في كل وقت وآن، بغضّ النظر عن الدين الذي يحثّ على اعتناقه، أو المذهب الذي يُدعى إليه.
ومن جهتها، ليست مؤسسة الوعظ والإرشاد، ابتداءً من دروس ما بعد العشاء ودروس الجمعة ومراكز تحفيظ القرآن، وصولاً إلى آخر خطبة دينيّة في تجمُّع ما، ومروراً بمناهج التربية والتعليم، سوى تبشير حرفيّ مذهبيّ بقراءة واحدة للإسلام، تنادي إلى اعتناق إسلام مظهريّ إخوانيّ أو سلفيّ، بعيدٍ بعد السماء عن الأرض، عن الجُمَل الأخلاقية التي ينبني عليها الدين أساساً. فخلوّ هذه المؤسسة من البعد الأخلاقيّ والتأسيس عليه، يجعل التّبشير السطحيّ هدفاً أخيراً لها. وهو مما يرينا بالنتائج االظاهرة للعيان والتي يستحيل حصرها، كيف آل الأمر إلى شعوب جرارة من الملتحين والمحجّبات، ينقصها إلى درجة مفزعة تدبّر المسؤوليات الجسام في إدارة حتى أعمالها الخاصة بخلقٍ وضمير. وإلا كيف يسرح الفساد والغشّ من أعلى إلى أسفل وفي كلّ اتجاه؟ وكيف لهذه الشعوب الجرارة أن تستجيب لأنظمتها الفاسدة عندما يتعلَّقُ الأمر بمظاهر الدين؟
استمعتُ يوماً إلى مبشّر إسلاميّ على إحدى الفضائيات يتحدّث عن نتائج تبشير دولته في أفريقيا، ويورد قصةً عن عجوز باعت عنزتها التي تتعيَّشُ منها لتشتري راديو فيه مسجّل تستمع منه إلى خطبِ المشايخ والدعاة. وأنهى حديثه مهلِّلاً “الله أكبر” إعجاباً بتأثير التبشير في فتح القارة الأفريقيّة!
أليس المطلوب الآن إيقاف كل مظهر من مظاهر التبشير بأيّ دينٍ أو مذهب كان، ما دامت الأنظمة والفلتان الثوريّ العابث يسمحان بالتبشير لإيران، ولتركيا، ولنصرالله، ولداعش وللنصرة ولغيرها من مفاهيم السلفية والإخوان والقاعدة؟ مع احترامٍ مطلَق لحقّ الإنسان في تغيير عقيدته بقناعة ذاتية أينما كان.
أقترح عقوبات مغلّظة لكل من ثبتت عليه أو عليها تهمة التبشير لأي دين، وليُلقَ عندئذٍ القبضُ على هؤلاء (المدفوع لهم بالعملة الصعبة) الذين يصولون ويجولون في الحواري وبين البيوت داعين إلى دروسهم الإسلاميّة التي تفوحُ منها الكراهية والتعصّب، فالمرحلة القادمة لا تحتملُ أي خطاب بعيداً عن الأخلاق والتعايش والمواطنة.
دعونا لا نفقد الأمل…!
______
*الغد