د. صلاح فضل *
أستأذن القارئ الكريم في العدول مؤقتاً عن قراءة الأقوال الأدبية والنصوص الشعرية إلى قراءة الأحوال العامة والمواقف الثقافية التي تهزنا جميعاً في هذه الأوقات.
وفي تقديري أن ما يحدث في مصر الآن يمثل منعطفاً سياسياً وثقافياً بالغ الأهمية والخطورة، إذ كنا نمر بتجربة مريرة انشطرت فيها مصر إلى سلطة تتجاهل الواقع الحضاري لشعبها، بل تحاول خنقه في إطار مشروعها الوهمي الخارج عن منطق التطور التاريخي، وشعب انساق بعضه إلى جنّة هذا الوهم ثم أفاق على ضلاله وفاشيته وفشله الذريع خلال عام واحد كان كافياً لانتفاضته في موجة ثورية عارمة.
ولكي ندرك جذر هذا الموقف الثقافي في جوهره بوسعنا أن نلمح إلى شخصيتين رئيسيتين قادت كل منهما تيّاراً معاكساً في حركة النهضة المصرية والعربية الحديثة، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين؛ إحداهما نبتت في الأزهر الشريف، وهي شخصية رفاعة الطهطاوي التي أتاحت لها الظروف أن تحتك بشكل مباشر بالحضارة الغربية وتذوق عسيلتها، وكان الشيخ رفاعة إماماً مكتمل البنية الوجدانية والثقافية، فلم يجد حرجاً في امتصاص الغذاء الحضاري في العلوم والقوانين والنظم الاجتماعية وأوضاع المرأة وأشكال الحياة الاجتماعية المدنية، فأسس مدرسة الألسن بعد عودته، وعمل على بعث حركة الترجمة والتثاقف وآمن بعالمية العلم وأهمية التقدم، وساعده مشروع محمد علي في بناء الدولة المصرية على تخليق تيّار الاستنارة الحقيقية في الحياة المصرية والعربية، فتمت عمليات التحديث في التعليم والصحة والمؤسسات والقضاء والجيش والإعلام، وتأصلت على الرغم من المحن الاستعمارية الأليمة حتى تمخضت عن ثورة 1919 وشهدت بناء دولة مستقلة لها دستور وبرلمان.
لكن شيخاً آخر لم يذق طعم الحضارة الغربية ولم يكتف بمشروع التنوير والتحديث تخيل أنه يستطيع تشكيل تيار آخر، يقوم على التبشير بما تصور أنه الدين الحق ومجافاة الإسهام الثقافي والعلمي في حركة الحضارة المعاصرة مركزاً على الجوانب الأخلاقية والتنظيمية هو الإمام حسن البنا، خريج دار العلوم، الذي لم يبرح وطنه ولم يعرف غير ثقافته فوقع فريسة وهم كبير تصور فيه أن تحولات التاريخ وخبرة الشعوب وتطور الأنظمة القانونية والاجتماعية والاقتصادية وتغير خارطة العقل البشري بنشأة العلوم الطبيعية والتطبيقات التكنولوجية، كل ذلك مجرد شوائب دخيلة لا بد من تطهيرها وقسر عجلة التاريخ كي تدور لإعادة إنتاج الماضي فتطمح إلى خلافة انتفى زمنها..
كان هذا الحس التبشيري للشيخ المثالي يصطدم بالواقع فلم تلبث جماعته أن نشبت لها أظفار مسلحة وجهاز خاص يحاول فرض إرادتها بالقوة والدم. وكان التحدي الأكبر لأي تحول ديموقراطي عندنا هو قدرة هذه الجماعات التكفيرية على حشد الجماهير وكسب ثقتهم. وجاءت الموجة الثانية لثورة مصر لتثبت أن الشعب بمختلف فئاته ترفض تغيير هويتها أو انحراف طبيعتها الحضارية ولا تتخلى عن مشروعها في صناعة المستقبل على أساس العلم والتنمية والتطور، مع الحفاظ على قيمها الروحية والدينية كما عرفتها وطورتها.
– الاتحاد الثقافي