“عــالــم إيــزابيـــل أللينـــدي السحـــري”


ترجمة : أحمد الزبيدي

ربما يكون السبب الأهم للكتابة هو منع تآكل الزمن، وبذلك فان الذكريات لن تذروها الرياح. نحن نكتب لنسجل التاريخ، ونسمي كل شيء باسمه. نكتب ما يجب أن لا ينسى. ولكني أعود فاسأل، لماذا أكتب الروايات؟ ربما لأنني جئت من أمريكا اللاتينية،أرض الناس المجانين والمتنورين ، بلاد الكوارث الجيولوجية والسياسية، بلاد واسعة جدا وعميقة ،جميلة جدا ومخيفة، حيث الروايات فقط يمكن لها أن تصف تعقيداتها الساحرة، الرواية مثل نافذة ، وهذه النافذة مفتوحة على منظر طبيعي لا نهاية له. نستطيع أن نضع في الرواية جميع علامات الاستفهام، ونستطيع تسجيل الحقائق الأكثـر تطرفا، وأكثـرها شرا و قبحا، أكثـر الوقائع غرابة وأكثـرها روعة –التي لا تعتبر أمرا مبالغا فيه في أمريكا اللاتينية،لأن هذا هو البعد الحقيقي لواقعنا.نستطيع عن طريق الرواية أن نقوم بتنظيم وهمي للفوضى. و يمكننا أن نجد الحل لمتاهات التاريخ. و أن نقوم برحلة إلى الماضي، لنحاول أن نفهم الحاضر و نحلم بالمستقبل. في الرواية يمكننا استخدام كل شيء: شهادات الناس عن الاحداث، والوقائع التاريخية، والتجارب، والخيال، والأسطورة والشعر وأدوات اخرى يمكن أن تساعدنا على فك أسرار عالمنا واكتشاف هويتنا الحقيقية.

وبالنسبة للكاتب أو الكاتبة التي تغذي نفسها بالخيال والعاطفة ، فهي تتمتع بتميز كبير كونها قد ولدت في قارة رائعة مثل أمريكا اللاتينية ،فنحن لا نضطر في أمريكا اللاتينية أن نتوسع في خيالنا. ودائما ما كان النقاد في أوروبا والولايات المتحدة يقومون بالتركيز على الأشياء التي لاتصدق في روايات أمريكا اللاتينية، يتساءلون كيف يجرؤ المؤلفون على اختراع تلك الأكاذيب التي لا تصدق عن الشابات اللواتي يطرن إلى السماء ملفوفات في ملاءات. او الأباطرة السود الذين يقومون ببناء الحصون من سمنت ودماء ثيران مخصية،عن الخارجين على القانون الذين يموتون من الجوع في منطقة الأمازون والأكياس المليئة بالزمرد على ظهورهم،عن طغاة العهود الغابرة الذين كانوا يصدرون الأوامر بأن تجلد أمهاتهم عاريات أمام الجنود والطغاة الجدد الذين يأمرون بتعذيب الأطفال أمام آبائهم وامهاتهم؛ عن الأعاصير والزلازل التي تقلب الدنيا رأسا على عقب. وعن الثورات التي تحدث بالمناجل، والرصاص،وعن القصائد والقبلات. و مناظر الهلوسة المجنونة.
من الصعب جدا أن أشرح للنقاد أن هذه الأمور ليست نتاج خيالنا المريض. إنها مذكورة في تاريخنا. نستطيع أن نجدها كل يوم في صحفنا.و نسمعها في الشوارع؛ ونعاني منها مرارا في حياتنا الخاصة. فمن المستحيل أن نتحدث عن أمريكا اللاتينية من دون الإشارة إلى العنف. نحن نعيش في أرض التناقضات الرهيبة وعلينا البقاء على قيد الحياة في أوقات من العنف الرهيب. التناقضات و الظلم، هما من أروع مكونات الأدب، و بالنسبة لنا، نحن مواطني هذا الواقع، فإن الحياة معلقة دائما بخيط رفيع للغاية.
الشكل المرئي الأول و الأكثر وضوحا للظلم، هو الفقر المدقع عند أغلبية السكان، بالمقارنة مع الثروة الهائلة التي تمتلكها قلة صغيرة جدا من السكان. في قارّتي يتعايش معاً عالمان متناقضان، الأول ذو مظهر مشروع ومنطقي نوعا ما ، مع ادعاء مزيف بالحضارة والكرامة. والآخر ذو مظهر مأساوي ومظلم، لا نريده أن يظهر إلى العلن و لكنه يهددنا دائما. هناك العالم الظاهر والعالم الحقيقي – هناك أحياء لطيفة حيث يلعب الأطفال الشقر بدراجاتهم الهوائية والخادمات يصطحبن الكلاب الأنيقة للنزهة، وهناك أحياء أخرى فقيرة تتنشر فيها القمامة، حيث الأطفال السود يلعبون عراة وقد اصبحوا بلداء من الجوع. هناك مكاتب من الرخام والصلب حيث يناقش المدراء الشباب اوضاع البورصة، وهناك القرى المنسية حيث لا يزال الناس يعيشون ويموتون كما لو انهم في العصور الوسطى. هناك عالم الخيال الذي يصنعه الخطاب الرسمي، وعالم آخر من الدم والألم والحب، حيث كافحنا من أجله لقرون في أمريكا اللاتينية علينا جميعا البقاء على قيد الحياة على الحد الفاصل بين تلك الحقيقتين . ديمقراطياتنا الهشة موجودة طالما أنها لا تتداخل مع المصالح الإمبريالية. معظم جمهورياتنا خاضعة ومطيعة. مؤسساتنا والقوانين غير فعالة. قواتنا المسلحة تتصرف في أحيان كثيرة كمرتزقة لفئة اجتماعية متميزة تدفع الأتاوات للشركات متعددة الجنسية . نحن نعيش في أسوأ أزمة اقتصادية وسياسية واجتماعية منذ الغزو الاسباني لأمريكا .
عدم المساواة الاجتماعية تتسع كل يوم، ولتجنب تفجر الغضب العام فان القمع يزداد أيضا يوما بعد يوم. الجريمة والمخدرات والبؤس والجهل موجودة في كل بلد من بلدان أمريكا اللاتينية، والجيش هو التهديد المباشر للمجتمع والحكومات المدنية. نحن نحاول أن نظهر اننا ثابتون 
بينما أقدامنا عالقة في مستنقع من العنف والاستغلال والفساد والإرهاب من الدولة والإرهاب من أولئك الذين حملوا السلاح ضد الوضع الراهن. قارتنا أمريكا اللاتينية هي أيضا أرض الأمل والصداقة والحب.
والكتّاب يخوضون في هذه المياه المضطربة. إنهم لا يعيشون في أبراج عاجية. و يستطيعون إبعاد انفسهم عن هذا الواقع القاسي.
في مثل هذه الظروف ليس هناك وقت ولا رغبة بالأدب النرجسي(الذي يتحدث عن الذات). عدد قليل جدا من كتابنا من يفكر في كتابة مناجاة لنفسه . الأغلبية ترغب بشدة في التواصل مع المجتمع.
أنا أشعر بأن الكتابة هي تجسيد الأمل، نوع من الاقتراب والتواصل مع الآخرين . الكاتب ذو النوايا الحسنة يحمل مشعلا ليضيء به الزوايا المظلمة. – وبشعاع خفيف من الضوء يمكن له أن يكشف عن بعض الجوانب الخفية للواقع، للمساعدة في حل غموض الواقع وفهمه، وبالتالي الشروع، إذا كان ذلك ممكنا، في تغيير وجدان بعض القراء. هذا النوع من الكتاب لا تغريهم الشهرة ولا تفتنهم المحافل الأدبية المتميزة. فكلا قدميهم ثابتتان بحزم على الأرض، ويمشون جنباً إلى جنب مع الناس في الشوارع. لأنهم يعلمون أن المشعل صغير جدا والظلال هائلة. وهذا ما يجعلهم متواضعين .
هذه مجموعة اخرى من الاسئلة 
س.في نهاية روايتك ( عن الحب والظلال) يتغيّر بطلاها ايرين وفرانسيسكو تماما . صعدا الى السيارة، ونظر احدهما إلى الآخر، وكل منهما يتساءل من هو ذاك الشخص. لم يتعرف احدهما على الآخر جسديا ، لكن أرواحهم تعرفت احداها على الاخرى. هذا مؤشر مهم على أن الرواية كتبت بواقعية شديدة .
ج . في روايتي(عن الحب والظلال) اتهمت بانني كنت عاطفية وسياسية أيضا. ولكنني أشعر بتعاطف مع ذلك الكتاب. أولاً وقبل كل شيء، لأن القصة حقيقية. القصة الرئيسية تتعلق بجريمة سياسية ارتكبت في تشيلي، وأجريت بحثا عنها. الشخصيات حقيقية. كما أن ذلك الكتاب منحني ويلي(زوجها الثاني- م) وجعله يدخل الى حياتي. فقد قرأ ويلي هذا الكتاب، ووقع في حبه ، وانتهى به المطاف الى أن يقع في حبي أنا . وأخيرا، لأنه منحني معرفة كم يمكن أن تكون قوة الكلمة المكتوبة وكم يمكنك أن تغوص في ذلك العالم الذي تتناوله وتكتشف الأشياء التي كان من المستحيل أن تعرفها لو لم تكن لديك تلك الوشيجة بالمعرفة الشاملة التي تحصل عليها من خلال الكتابة.
س:قلت ذات مرة أنك جئت من خلفية محافظة جعلتك تجدين صعوبة في كتابة المشاهد المثيرة. وبالمقارنة بين وصفك لمشهد ممارسة الحب بين فرانسيسكو وايرين الذي كان مجازيا بشكل كبير،و جميل جدا وشفاف- مع نفس المشاهد في الكتب اللاحقة، فإنه يبدو من الإنصاف القول إنه لم يعد لديك ذلك التحفظ ، وأنك قد طورت القدرة على الكتابة بشكل حسي صريح . هل هذا صحيح ؟

ج:. لا، أعتقد أنه كان ينبغي أن يحصل ذلك مع تلك الرواية . كل كاتب لديه طريقته التي يكتب بها. وكل قصة لديها طريقة خاصة تروى بها. تحدد القصة النبرة التي علينا أن نروي بها الأشياء. فرانسيسكو وآيرين هما شابان يافعان جدا رغب أحدهما بالآخر في البداية ثم وقعا في الحب. وفي الوقت الذي كانا يمارسان فيه الجنس، كانا يعيشان الحب فعلا. كما أنهما للمرة الأولى في حياتهما يصادفان وحشية الموت والتعذيب والقمع، والعنف. وممارسة الحب جعلتهما يعودان من الجحيم الى الحياة، إلى جنة الحب. والأحداث اللاحقة سوف تمعن في تدميرهما ،. ولم يكن امامي سوى ان أكتب المشهد بتلك الطريقة وإلا فحتى أنا نفسي لن أستطيع إدراكه تماما، أنه مثل أسطورة يوريديس: أورفيوس تنزل إلى الجحيم لتعيد حبيبها إلى الحياة.
س. ذكرتِ في محاضرة لك انك لن تكتبي بعد الآن أية قصص قصيرة.هل أنت مصرّة على عدم العودة إليها ؟
ج:. لا أعرف. لم يسبق لي أبدا أن قلت إنني لن أفعل مثل هذا الشيء. تأتي القصص القصيرة إليك بأكملها. أما الرواية فهي عمل وعمل، وعمل، وعمل ثم في يوم واحد يكون الامر قد انتهى. كل شيء قد انتهى. ولكن القصة القصيرة هي شيء تصاب به، مثل الاصابة بالانفلونزا. القصة القصيرة تتطلب الإلهام. وفجأة، تكون لديك ومضة من الصفاء تمكنك من رؤية الحدث من زاوية أخرى غير متوقعة تماما. شيئا لا يمكنك أن تخلقه. يحدث معك احيانا، ان تذهب إلى مكان ما، وترى بعض الناس يرقصون، وتفهم بشكل سريع العلاقات بين هؤلاء الناس، أو يبدو أنك تتصور شيئا ما لا أحد آخر في الغرفة يمكن أن يراه. عندها ستكون لديك قصة قصيرة.
س:هل لك أن تحدثينا عن قصص إيفا لونا؟
ج. كانت تلك القصص مكتوبة بصوت البطلة إيفا لونا، ، و هي القصة التي تروي كيف يجد رولف كارل فتاة صغيرة في الوحل ويساعدها. كانت القصة مكتوبة من وجهة نظره. هذه القصة كانت قد حدثت بالفعل، في عام 1985 في كولومبيا. كان هناك ثوران لبركان يدعى نيفادا رويز، وغطى الانهيار الطيني قرية بأكملها. مات الآلاف من الناس. و لم يعثر على معظم الجثث، وفي النهاية أعلن المكان كله مقبرة، أرض مقدسة. من بين العديد من الضحايا كانت هناك فتاة صغيرة، في التاسعة من عمرها، وتدعى عميرة سانشيز. هذه الفتاة، التي كانت ذات شعر مجعد داكن اللون قصير جدا وعينان سوداوان ضخمتان، ظلت تتعذب لمدة أربعة أيام، ومحاصرة في الوحل. ولم تتمكن السلطات من أن ترسل مضخة لسحب المياه وإنقاذ حياتها. ومع ذلك، استطاعت وسائل الإعلام جلب كاميرات التلفزيون بواسطة طائرات الهليكوبتر والطائرات والحافلات. في جميع أنحاء العالم، لمدة أربعة أيام، كان بإمكان الجمهور مشاهدة هذه الطفلة وهي تتعذب.
س:أنت تكتبين باللغة الإسبانية ولكنك تعيشين في دولة لغتها السائدة هي الإنجليزية وهي الولايات المتحدة وأنا مندهش بقدرتك على الاستفادة من شيء ترى غالبية دول العالم أنه غير مفيد وتجعلينه ميزة. فمعظم الناس يرون ان استخدامهم للغة ثانية غير الانكليزية يجعلهم مهمشين.
ج:. ولكن هذا أمر عظيم! من ذا الذي لا يريد أن يكون في الاتجاه السائد؟ منذ بضعة ايام سمعت شيئا رائعا على شاشة التلفزيون عن مشاكل هذا البلد التي سوف تواجهه في السنوات العشر المقبلة ،الجريمة والعنف وانعدام القيم، وتدمير الأسرة، وحمل المراهقات والمخدرات والإيدز. ثم يقول أحدهم شيئا غير عادي. “هل لاحظت أن المهاجرين الجدد ليس لديهم هذه المشاكل؟ لأنهم جاءوا إلى هذا البلد مع نفس الأفكار ونفس القوة التي جاءت مع أجدادنا العظام “ان تكون مهمشا يشبه كونك مهاجر جديد. إذا امكنك ان تحيل التهميش إلى شيء إيجابي، بدلا من ان تعتبره شيئا سلبيا، فان ذلك مصدر رائع للقوة.
س: كثيرا ما نتحدث عن الصوت النسوي في الأدب، وهذا هو المنظور الذي جعلك تكتبين بنجاح كبير. هل كان من الصعب في روايتك (الخطة اللانهائية )ان تكتبي بلسان رجل؟
ج:. كلا، أنا لا أجد أن ذلك صعبا على الإطلاق. لقد كتبت أيضا من وجهة نظر رجل وبلسان رجل في رواية(بيت الأرواح). استيبان ترويبا يروي أجزاء من الرواية. مع رواية (الخطة اللانهائية) كان الامر سهلا لأن زوجي كان هو من يرشدني. ثم أدركت أن هناك أوجه من التشابه اكثر من الاختلافات عندما يتعلق الأمر بالجنس (رجلا ام امرأة). في الأساس، فإن البشر متشابهون جدا، ولكننا منغمسون في الخلافات بدلا من تسليطنا الضوء على أوجه التشابه في ما بيننا.

المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *