بول قطّان
أشرق علينا هلال رمضان هذا العام بـ”عرابين”: جمال سليمان وسلوم حداد.
الأول يعود بعد طول غياب إلى عرينه. يرجع بعد “هجرة” إلى حظيرة الدراما السورية بمعية المخرج حاتم علي، الذي سبق ووقّع معه أعمالا عديدة مضيئة، لعل أبرزها “التغريبة الفلسطينية” و”صلاح الدين الايوبي”.
والثاني نجم مخضرم واسم لامع ينضح إناء موهبته وخبرته بما فيه.
الأول جبل والثاني جبل. لكن، هل يكفي وجود جبلين تمثيليين ليرفع كل منهما على كتفيه دراما رمضانية تخوض رهان الاقتباس… بل تحدّيه؟
أكثر من أربعين عاما مرت على رائعة “العراب” لفرنسيس فورد كوبولا المستقاة من رواية ماريو بوزو والتي تحولت بصمة لا تمحى في الذاكرة الهوليوودية. واليوم، يجرب علي وزميله المخرج المثنى صبح محاكاة هذا العمل غير المألوف عبر “تعريبه” أو “تشريقه” اذا صحّ التعبير.
في “عراب” صبح، ننعم النظر إلى سلوم حداد بسحنته الرصينة وجبهته الواسعة ونبرته الزاحفة من حنجرة عريضة، فيتراءى لنا الهرم مارلون براندو. يثأر احد أبناء “مختار المختار” لأبيه في الحلقة الأولى ويردي جليسيه بالرصاص، فيما شقيقاه يتقلبان خارجا على نار القلق. لكن، ليس المنتقم سوى الابن الذي أرغم على الغوص في رمال أسرته المتحركة بعدما نأى بنفسه طويلا عن دهاليزها ودسائسها. انه نفسه آل باتشينو في الجزء الأول من الملحمة السينمائية. حضر بالبزة العسكرية إلى زفاف شقيقته مصطحبا فتاته (ديان كيتون) ليعرفها إلى أفراد الأسرة، وسرعان ما صدر عليه الحكم بأن يرث امبراطورية المال والدم.
يزاوج صبح بين الحاضر والماضي. يقلب صفحات العائلة عائدا بنا الى زمن الأغوات ومواسم زيت الزيتون الذي يدخل المعاصر، فتعتصر معه قلوب تطاردها الفاقة وأخرى تطارد الثروة والنفوذ. هنا، ينساق المشاهد تلقائيا إلى الجزء الثاني من “عراب” كوبولا، إلى أزقة صقلية وحقولها وبيوتاتها. تلك الجزيرة الغناء التي أنجبت فيتو كورليون (روبرت دي نيرو) وكانت شاهدة على جريمته الأولى، قبل أن ينتقل وعائلته الصغيرة الى نيويورك ليصنع معجزته.
يبدو “عراب” صبح، في جوانب عديدة منه، استنساخا للفيلم الاصيل حتى يكاد يعجز عن رسم هوية خاصة. ليس الاقتباس موطن ضعف ولا هو من المحرمات، وقد ألفناه في المواسم الرمضانية الأخيرة متكئا على واقعة او فكرة اجنبية المصدر. وسواء وفقت الاعمال السابقة في ما سعت اليه او لم توفق، لا نحسب ان “العراب” حقق ما يصبو اليه، ولا نخال أنه ترك أثرا عميقا لدى المشاهد العربي رغم ما رصد له من امكانات بشرية وتقنية ومالية لا يستهان بها. ويبقى أن مشاركة الفنان عاصي الحلاني وتجسيده أحد الأدوار الرئيسية لم تكن عاملا مساعدا، وخصوصا أن ظهوره التلفزيوني الأول في إنتاج يضم سوادا كبيرا من أصحاب الباع والمحترفين.
في المقلب الاخر، يبدو المخرج حاتم علي أكثر حرفية في التعامل مع فكرة الاقتباس. صحيح أنه افتتح عمله بمشهد عرس ابنة المعلم “أبو عليا” مستعيدا المشاهد الأولى من “العراب” الاصيل، الا أنه انتهز هذه المناسبة ليجعل بطله يختلي بالمحتفى بها ويروي في بضع دقائق قصة مجده وثروته مقدما اليها النصائح، من دون أن يعود صورة وصوتا الى سالف الايام العسيرة التي عاشها كبير الاسرة مع والده “درويش الضيعة”.
حاول المخرج أيضا أن يضفي على شخصية “عرابه” بعدين جديدين:أنهأولا رجل الأعمال الداهية الذي لا يرتضي لنفسه تكديس المال الملوث مهما كان مصدره. من هنا، العقاب الشديد الذي أنزله بابن شقيقه “يامن” لما حاول أن يفتح على حسابه ويتاجر بالممنوعات. وهو ثانيا الآمر الناهي الذي يأبى في وعيه ولا وعيه أن يرثه أحد. صحيح أنه أحاط نفسه بأقرب المقربين اليه من أبناء وأشقاء وحتى أبناء أشقاء ليعاونوه في إدارة الامبراطورية المالية، لكنه لا يثق إلا بحكمته وفطتنه. هو المحق على الدوام وهم المخطئون. وليس وسط هذه الجمهرة شخص واحد يستأهل أن يكون يده اليمنى مقدمة للحلول مكانه.
في “العراب: نادي الشرق” أيضا محاولة واضحة لـ”تعريب” الحوادث وتقريبها من الجمهور انطلاقا من الاضاءة على حقبة الانفتاح الاقتصادي الذي عاشته سوريا أوائل الالفية الثالثة. يومها، برزت طبقة جديدة من المتمولين تحاول سحب البساط من تحت أقدام “الحرس القديم”. ومن أركان هذا الحرس “أبو عليا” الذي يجد خيوط اللعبة تفلت من بين يديه بعدما تعوّد التحكم فيها.
وبعد… شهر الصوم ثلاثون يوما ولا يصح الا تلتزم الدراما الرمضانية هذا المعيار الزمني. لكن، ليت “العرابين” تمردا على تلك القاعدة إكراما لعنصر التشويق وتفاديا لشرك التطويل.
النهار