معلقات من بيت واحد


*شوقي بزيع

يصعب أن تحوز المختارات الشعرية التي يتولى شعراء ونقاد ومهتمون انتقاءها وجمعها من بين أطنان الكتب والدواوين الشعرية على رضا القراء جميعاً، وهو أمر طبيعي ما دامت الرؤية إلى الجمال ليست واحدة عند الجميع، وما دامت لكل قارئ ذائقته الأدبية والفنية التي تختلف عن الأخرى . ومع ذلك فإن الرواة والنقاد والشعراء العرب القدامى لم يترددوا في رفد المكتبة العربية بعدد من الكتب الشعرية المختارة التي شكل ديوان الحماسة لأبي تمام واسطة عقدها الأبرز، وقد يكون “ديوان الشعر العربي” الذي اختاره أدونيس في أربعة أجزاء ووضع له مقدمة وافية، أحد أهم الأنطولوجيات المعاصرة وأكثرها تنوعاً وشمولاً والتقاطاً للُّقى الشعرية العربية على امتداد العصور، لذلك ليس غريباً أن تكتسب المختارات التي وضعت قبل خمسة عقود من الزمن، ذلك القدر من الشهرة وذيوع الصيت وأن تحتل مكانها الرئيسي فوق رفوف المكتبات العامة والخاصة في الوطن العربي . ذلك أن صاحب “أغاني مهيار الدمشقي” قد بذل جهداً لا يستهان به في اختيار القصائد المهمة والمتميزة، وفي تخليصها من الإفاضات والزوائد .

على أن هاجس الإفاضة والحشو والشروح الزائدة في القصيدة العربية لم يغب عن بال الشاعر الذي ظل ينقح أعماله الشخصية مرة إثر مرة، ويعمل على تعديلها وتنقيحها مع كل طبعة جديدة لدواوينه، لا بل إنه حذف بعضها بشكل نهائي كما هي حال مجموعته الأولى “قالت الأرض” .
هكذا ارتأى أدونيس أن يشتغل على مختارات أخرى لا تكون نواتها القصائد والمقطوعات المتميزة، بل البيت الشعري المفرد بما هو إضاءة خاطفة ومكثفة لمعنى من المعاني أو مشهد من المشاهد، والمساحة الزمنية التي يحتلها “ديوان البيت الواحد في الشعر العربي” هي المساحة نفسها التي احتلها الكتاب السابق “ديوان الشعر العربي” . إذ إن الشذرة الأولى المختارة تبدأ في الجاهلية مع الشنفرى والمهلهل التغلبي، فيما تنتهي الشذرات الأخيرة مع إبراهيم اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، وخليل الخوري .
من المفيد والممتع في آن أن يتمكن عشاق الشعر ومتابعوه من الحصول دون كبير جهد على خلاصات الخيال الشعري العربي ولآلئه الثمينة .
والأمر اللافت هنا هو أن أدونيس لم يتوقف فقط عند الأسماء اللامعة والكبيرة التي يحفظها الكبار والصغار عن ظهر قلب، بل هو ينحاز للشذرة أو اللمعة وحدها بصرف النظر عن شهرة صاحبها أو عدمها، فنحن نقرأ شذرات لامرئ القيس، وعمر بن أبي ربيعة، والمتنبي، وابن الرومي، وأبي العلاء، جنباً إلى جنب مع دويد بن زيد الحميري، وأبي فرعون الساسي، ونصر الهيتي . وفي هذا الكتاب سنقرأ أبياتاً شهيرة وذائعة الصيت مثل بيت تميم بن مقبل: “ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ/ تنبو الحوادث عنه وهو ملموم”، أو بيت أبي تمام “نقِّل فؤادك ما استطعت من الهوى/ ما الحب إلا للحبيب الأول”، وسنقرأ بالمقابل أبياتاً جميلة وعميقة لم تسبق لنا قراءتها، أو لم تأخذ طريقها إلى الشيوع، مثل قول السَّري الرفّاء: “والحسن ضدان، لا أدري إذا اجتمعا/ أنواره فتنتي أم غياهبُهُ” . أو قول الأديب الغزي: “كالشمع يبكي ولا تدري: أَعَبْرَتُهُ/ من صحبة النار أم من فرقة العسل؟” . أو قول ابن حمديس: “جريحٌ بأطراف الحصى، كلّما جرى/ عليها، شكى أوجاعه بجريرة” .
لو أردت بالطبع أن أعدد اللمعات واللقى المبثوثة في هذا الكتاب لوجب أن نستعيد معظم الأبيات الواردة فيه، إلا أن الكتاب، على أهميته، لا يمنعنا من إبداء الملاحظات التالية: يخلو الكتاب، أولاً، من مقدمة مقنعة أو من توطئة نظرية تلقي الضوء على الهدف من جمعه وإعداده، وعلى المعيار الجمالي الذي احتكم إليه الشاعر في عملية الاختيار . صحيح أن الصفحتين اليتيمتين اللتين استهل بهما الشاعر مختاراته تشيران إلى بعض المعايير المتصلة بالإيجاز والعمق والحكمة، ولكن ما ورد غير كاف ولا يفي بالغرض، في ظل العدد الكبير للأبيات وتفاوت قيمتها الدلالية والجمالية .
والأمر الثاني يتعلق بكون الكثرة الكاثرة من الأبيات مأخوذة من كتاب أدونيس الآخر “ديوان الشعر العربي”، بما لا يضيف الكثير إلى ذاكرة القارئ، الذي ألفت بعض الأبيات وحفظت بعضها الآخر، وكل ما حدث أن البيت المنتقى قد انتزع من المقطع الذي انتقي بدوره في العمل السابق، والأمر الثالث يتعلق في ضرب فكرة البيت الواحد عبر بعض الاختيارات التي تضم بيتين أو أكثر أحياناً، وكان الأجدى في رأيي الالتزام بالفكرة نفسها حتى النهاية . إلا أن هذه الهنات الهينات لا تقلل أبداً من قيمة الكتاب، كما من قيمة الجهد والذائقة الأدونيسيين اللذين مكَّنا القراء العرب من الاستمتاع بأجمل ما تركه شعراؤهم من لمحات ولمعٍ وكنوز .
_____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

هموم قروية في رواية «الحورانيّة» للأردني مجدي دعيبس

هموم قروية في رواية “الحوارنية” للأردني مجدي دعيبس موسى أبو رياش تتقاطع هموم المجتمعات بين …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *