رواية جمال ناجي «موسم الحوريات»: سرود تكرس الحبكة الفنية والتوتر الدرامي


*هاشم شفيق

برع الروائي الأردني من أصل فلسطيني جمال ناجي خلال السنوات الأخيرة في كتابة روايات فيها مسحة عالية من عناصر التشويق والإغراء الفني والغوى الخيالي، مما أهّله لوصول اثنتين من رواياته إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ـ العالمية وجائزة الشيخ زايد، عدا نيله جائزة الدولة التقديرية عن روايته «مخلفات الزوابع الأخيرة» في العاصمة الأردنية عمان.

روايته الجديدة «موسم الحوريات» هي من الروايات التي تنتسب إلى ذلك العالم المشار إليه أعلاه، رواية الغوى والفتنة الخيالية وعالم البراعة، القابل إلى تكريس الحبكة الفنية والتوتر الدرامي في بناء سرود تشي بأجواء بوليسية، حيث هناك دائماً عقدة في النسيج البنائي للعمل الروائي، تقابله حبكة ملتوية لا تعطي نفسها إلا في السطر الأخير من الرواية.
هذا هو ما لمسته جمالياً وأنا أتقدم في النسق القرائي من رواية «موسم الحوريات» التي رَبَتْ على الثمانين حلقة مروية، كل حلقة يتولاها رواة معدودون شكلوا العماد الأساسي لمدوّنة السرد الروائي، وهؤلاء الراوون هم من بنوا متن المرويات وصاروا البناة المركزيين للعمل، فغاب الهامش ليتسيّد متن المشهديات العديدة، ولكأنك أمام عمل ميلودرامي يقوم على المفاجآت والضربة اللازبة في كشف تلك الحلقات المروية على ألسِنة ابطال هم عماد هذا العمل، وقد تقاسموه بالتساوي ليكونوا سواسية أمام الضوء وفي قلب المشهد المحكي ببراعة فائقة من قبل رواته، وهم على التوالي: ساري ابو أمينة سكرتير الباشا فواز، سماح شحادة زوجة الباشا، منتهى الراية خطيئة الباشا عبر علاقة عابرة، أبو حذيفة قائد في مجموعة جهادية، ضرار الغوري مجاهد إسلامي. هؤلاء هم من شيّدوا هذا العالم الواسع في»موسم الحوريات»، عالم سيدور في فضاءات مكانية مختلفة بين الأردن والعراق وسوريا والهند وأفغانستان وفرنسا. 
خلال تضاعيف الرواية وعبر سياقها الفني المترع بالأحداث والوقائع والمشاهد التفصيلية تظهر شخصيات ثانوية، تنهض من العتمة لتحتل المركز وتسوس النسق الروائي المنتعش بإحداثيات ومهمات وأعمال قتالية، وأخرى تقنية تعتمدها الحركات الإسلامية المتطرفة، هذه الشخصيات ستصبح أولى ومركزية على لسان الرواة الاربعة، لتشارك في بناء الرواية النسقية الحافرة بعدها التعبيري في اتجاهات فنية وأسلوبية ذات محاور نموذجية، أهمها المحور السايكولوجي، وقد تجلى ذلك في شخصيات القنفذ والباشا فواز والباشا الكبير والعرافة عروب والحكيم الهندي، وهم من الشخصيات الثانوية التي صعدت من القاعدة إلى القيادة أو من المتن إلى الهامش لتتسيّد السرد الروائي وثيمته الفنية، فشخصيات مثل الوليد ونائل وشرحبيل الاسم الثاني للوليد، وأبوعبادة والقائد الثقفي وأبو أنس وياسين هم أيضا مَن سيدعمون هذا البناء البانورامي الذي أماط اللثام عما يدور في عالمنا العربي من أحداث مأساوية جُلى.
تتلخص رواية «موسم الحوريات»، وهي كناية عن المجاهدين الحالمين بحور العين في الجنان اللواتي يسعون في أفناء ذاتهم من أجلهنّ، وتسلط الضوء على العقل الظلامي الذي يتبنّى هذه المشاريع الوبائية، كما حدث مع بعض شخصيات هذه الرواية، مِثل الوليد والقنفذ وشرحبيل وضرار الغوري والقائد الثقفي وأبو عبادة وغيرهم من الشخصيات التي ترد في هذا العمل.
لعل النول الذي تلتف عليه خيوط الرواية بنسيجها المتقن وحبكتها الجمالية وعقدتها البنائية المتقنة، يتمثل بذلك اليوم الذي صادف فيه عيد ميلاد فواز باشا، وهو رجل ثري يدير شركات وأسهماً ومحلات تصريف في عموم الأردن وكذلك في سوريا وبغداد والكويت.

من هذه الزاوية تنطلق الرواية لتبني عالمها التراجيدي المتواتر، يوم يسعى سكرتير الباشا أن يُجِّمل هذا اليوم للباشا، بمفاجأته بعروب قارئة الطالع والبخت والكف، هذه العرّافة المغربية التي ترتبط بعلاقة عملية ذات بعد رؤيوي بالحكيم الهندي هاراشا الذي يعيش في منطقة المعابد «أجانتا»، وهي ضاحية تابعة لمدينة بومباي يلفها السكون والهدأة والغابات والمنحدرات، إلى هناك سيذهب السكرتير ساري أبو أمينة الذي ورط نفسه في قضية من المتاهات والطرق الملتوية التي تلتف كالأفعى على حياتهما كليهما، أي الباشا وسكرتيره، والعقدة تتمثل في كشف عربوب العرافة لمستقبل الباشا الذي ستقرأه له في ذلك الحفل الباذخ من تلك الليلة، وهو يتلخص في ظهور شخص اسمه الوليد وهو يتحدر من صلب الباشا، ليقتله وتنتهي حياته على يديه. انه قدره المرسوم ولا يستطيع أحد تغييره، ولا يعرف به الا هاراشا الحكيم الذي سيسافر إليه فواز وسكرتيره ساري في تلك القرية الهندية، ليلتقي بالحكيم الذي سيترجاه من أجل تغيّير مسار قدره عبر هيمنته على السلطان والكهنوت، لكن الباشا سيعود خائباً بعد أن يرى الحكيم الهندي، فهو أيضا لا يستطيع بقوته الرؤيوية تلك تغيير هذا المصير المهلك قائلاً له: «الصعوبة في حالتك انك جئتني من بلاد يتكثف فيها نشاط السماء، يا بني حيث يكون نشاط السماء كثيفاً فإن التدخل في القدر يصير مستحيلاً».

بعدعودة الباشا وسكرتيره ستبدأ الأقدار تعمل ليس في صالحهما، لأن منتهى الراية ستظهر لتحكي قصتها مع الباشا، الذي خان عبرها زوجته سماح شحادة التي أحبها وأحبته، ليكون الباشا الثاني، حيث كوّنته من ثروة والدها الباشا الكبير.
منتهى الراية كانت تعمل في شركة صاحبها الباشا فواز ويديرها رجل يطلق عليه الرواة الأربعة وهم سماح شحادة وهي زوجة الباشا وساري أبو أمينة وهو سكرتير أعمال الباشا وحافظ أسراره ومنتهى الراية وهي موظفة بسيطة تعمل على الآلة الطابعة وترتب شؤون الشركة، وهي ضحية الباشا وضرار الغوري الجهادي في تنظيم إسلامي، هؤلاء الرواة يسمون مدير أعمال هذه الشركة «القنفذ»، وهو رجل تحرّكه مصالحه، لا ضمير له، متلوّن ومتلاعب وشرير وقبيح المنظر والتصرفات، هذا القنفذ سيتآمر كثيراً فهو الأداة التي تنفذ وتتآمر، وسيكون لمنتهى الراية العائق والحجرالكبير الذي ستراه دائماً أمام حياتها كي يسد الطرق عليها أنّى أدارت وجهها.
وكالعادة وكما يحدث أحياناً في الحياة العامة، سيتحرّش المدير بمنتهى الراية، وهي فتاة على قسط من الجمال والقوام والذكاء، ولكنها ستصد القنفذ الشرير رادعة أفعاله، وهو بدوره سيزيد الشغل عليها، وحين يعجز عن ذلك يدخل المدير العام الباشا ملاطفاً موظفته بكلام عام وعابر. هكذا سيبدو في البداية إلى أن تستلطفه، نتيجة طابع اللياقة المرهف في التعامل. ثمّ تمرّ الأيام إلى أن يُرشّح القنفذ موظفته منتهى الراية للذهاب في دورة عمل إلى باريس. تفرح منتهى وتفاجأ بالمهمة الجديدة التي ستجعلها ترى بلاد الموضة والسين وبرج إيفل، فتجهز نفسها وتصعد الطائرة لترى إلى جانبها في درجة رجال الأعمال الباشا فواز، لا تصطدم بمرآه، بل تجد ذلك طبيعياً لرجل أعمال ناجح تتعلق جل مهماته بالسفر. في فندق واحد سينزلان، غرفة تجاور غرفة إلى أن يحصل المكتوب لمنتهى فتفقد بذلك نفسها ووعيها لتسلمه بكارتها، مستسلمة كلياً لخداع الباشا البارع في تعامله مع النساء بغية الإيقاع بهنّ. ستعود منتهى حائرة ومنكسرة وخائبة، وغبّ يوم من وصولها ستكتشف تلك الخديعة التي حِيكتْ لها عبر القنفذ لتسقط في حبائله، بعدها ستغرق في دوامة من التفكير والتوهان والعزلة، حتى تحمل من فواز باشا ولده «الوليد» الذي سيكون قدر الباشا كما قالت العرافة عروب.
في تلك الأيام الحرجة والصعبة، ستسقيل منتهى من الشركة لتنسى الماضي كله، وعبر أمها وصداقاتها ستجد لها عريساً في الأربعين، هي كانت في الثلاثين، ستتزوجه وتخدعه بوضع دم على شرشف الزواج متظاهرة بأنها عذراء، ونائل عريسها الجديد النهم إلى الفراش، بعجالته وتعطشه للجنس ستنطلي عليه تدابير تلك الخِدعة.

حين مرّ شهران على الحمل، ستفاتح منتهى أمّها بذلك، تتفاجأ الأم وتندب حظها وحظ ابنتها، لكنها ستنقذها يوم تأتي بقابلة تُرتّب يوم ولادة وليد على أنه سبيعي ابن السبعة شهور وليس التسعة، ستلد منتهى الوليد ويكبر في كنف نائل، حتى يصل سن العشرين ويكمل الجامعة في كلية الشريعة، يفتح والده نائل محلاً لبيع الملابس ليعيشوا منه، الوالد سيصبح أصولياً فجأة ليحوّل محل بيع الملابس إلى بيع ملابس دينية، الوليد سيتغيّر أيضاً ويعزل نفسه وسيضحى يلتقي شخصيات متشددة في المساجد، حتى نبرة صوته ستتغير، فيقرر السفر والالتحاق بالمجاهدين في أفغانستان. 
ستمرّ الأحداث سُراعاً، ليموت نائل، ويلتحق بعدها الابن بسوريا، الباشا فواز سيصبح هنا، حسب ما يحسبه عقل الباشا، هدف ولده الوليد، سيبحث الباشا عبر ساري أبو أمينة عن ولده وعن منتهى، فيرسل في طلبها ويتوصل عبر أعوانه إلى معرفة مكانها ومكان ولده والتآمر عليه لغرض قتله، قبل أن يقتله هو أي ولده الوليد، الذي سيستشهد في عملية داخل سوريا بعد أن يكتشف أفعال أمّه منتهى عبر صور ورسائل القنفذ إليه. بدورها منتهى وبعد سلسلة من المفاجآت والتوترات الدرامية، ستتوصل إلى كل شيء، حتى وشاية القنفذ لزوجها نائل بأن الوليد هو من رجل آخر وبأن نائل هو من دفع بولدها الوحيد إلى الجهاد.

البنيان في «موسم الحوريات» متماسك، ومشدود ويحمل في نسيجه رسالتين هامتين، الأولى هي ضد الإرهاب الذي ينادي بالقتل وهدر الدم، والثانية موجَّـهـة إلى عالَم الغيبيّات الذي لا يستطيع التحكم بمصائر البشر، في زمن العلوم الإنسانية الحديثة وتحوّلاتها الكبرى.
موسم الحوريات»» جمال ناجي: 
دار بلومزبري ـ 
مؤسسة قطر للنشر 2015
عدد الصفحات 286
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *