الكتابة الإبداعية والدماغ


جيني أوغدن/ ترجمة : آماليا داود

خاص- ( ثقافات )

“العقل يعمل بطريقة غامضة عندما تكتب قصة خيالية “.
هل هنا كاتب لم يتساءل لماذا يمضي آلاف الساعات بالتفكير وكتابة قصص خيالية ، وفي أحسن الأحوال سوف يقرأها آلاف الناس ، هل يوجد ضرورة تطورية موجودة في عقلنا للبحث عن القصص؟.
مؤلف كتاب ” كيف يعمل الدماغ “؛ العالم المعرفي ستيفن بينكر يناقش فكرة أن الموسيقى لا تمنح ميزة البقاء على قيد الحياة ، في حين يمنح الخيال مثل القيل والقال تكيفا بيولوجيا ، ويضيف ” الروايات الخيالية تزودنا بكتالوج عقلي من عقبات افتراضية قد نواجهها في يوم من الأيام و نتائج تلك الإستراتيجيات يمكن أن نطبقها ونعتمد عليها لاحقاً”.
وبالنسبة للكُتّاب، الحقيقة أكبر من ذلك ، ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى عمل الدماغ ؟ وهل يقترح ذلك أنه لدينا نظاما مميزا في أدمغتنا تطور لغرض خلق القصص التي ربما تفيد حياتنا الحقيقية ؟ ولماذا هناك بعض الكّتاب أفضل في اختلاق القصص الخيالية ، وهل هم في الحقيقة أكثر قابلية للتكيف مع تجارب الحياة ؟.
الكاتبة الاسترالية سو ولف في كتابها ” لغز الخادمة ” تحاول الإجابة عن تلك الأسئلة بطريقة شخصية وصادقة لدرجة إنني أحسست بها ، و كعالمة في علم الأعصاب غالباً ما أشعر بالقلق عندما اقرأ رواية ، لكن هذا اختلف عندما قرأت لسو انسجمت فوراً ووجدت نفسي أقرأ لكاتبة وليس كعالمة أعصاب.
بدأت سو بكتابة هذا الكتاب كجزء من أطروحة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية ، “سو” تبذل الكثير من الجهد والعمل الطويل لإكمال رواياتها وهي مثيرة للاهتمام بسبب ذلك ، ففي ” العلاج السري ” وهي رواية عن عجائب العقل البشري الخلاق، اعتمدت في كتابتها على نتائج و نظريات علم الأعصاب عن الإبداع وتوقف التدفق الإبداعي ، والقارئ لسو يكتشف أنها أمضت الكثير من الوقت في الأبحاث لذلك روايتها حقيقية فكأن روايتها هي مذكرات للبطل.
سو كاتبة تبحث في علم الأعصاب والإبداع ، وتأخذنا معها إلى ذلك العالم وتوضح لنا كيف ارتفعت العملية الإبداعية وكيف توقفت ثم ارتفعت مرة أخرى ، معتمدة على تمضية الوقت في المختبر الحقيقي والاستماع والمراقبة و تدوين الملاحظات ، وعندما تتوقف عن الكتابة تسأل نفسها :” ماذا يفعل الكاتب لدماغه ليكتب ؟ وهل فعلت انا شيئاً خاطئاً أثر على عملي؟.
وأنا كمعظم زملائي في علم الأعصاب نميل إلى الاعتقاد أن التفكير هو نتائج الدماغ وهذا شيء معروف لدى الجميع، وهذا ما اكتشفته سو ، لكن عالم الأعصاب انطونيو داماسيو يذهب إلى القول إن العقل نفسه لا يوجد لديه تفكير وإنه يحتاج إلى تعاون مع الجسد من أجل أن يحس و يفكر ، وهذا التفاعل بين العقل والجسد يسبب التفكير ، وحسب ذلك فإن مشاعرنا تأتي من الجسم ، والجسد يتطور عن طريق أفكارنا و العقل عن طريق أفعالنا.
سو تقدم الكثير من الامثلة على كّتاب مثلها يشعرون أن افكارهم الإبداعية مصدرها الجسد مثل المعدة أو الأصابع عوضاَ عن الدماغ ( والذي لا يوجد له إحساس خاص به في الواقع ) وكما تخبرنا عن تجربتها اليومية غالباً المؤلمة ورحلتها في كتابة رواية ، وتقول إنها تفكر وتلاحظ و تحلل العملية الإبداعية الخاصة بها ، وتقرأ بحوث علم الأعصاب عن الإبداع و تشرح اكتشافاتها بطريقة منطقية لي كعالمة أعصاب وأيضاً ككاتبة إبداعية.
و الروايات التي تبدأ بعلاقات غير متصلة هي عملية أكثر انتاجية من العلاقات المتصلة ، حيث يكون الانتباه غير مركز و يتباطأ التفكير المنطقي ، ويتم بذلك تأجيل الترقب والحكم ويمكن إضافة أي عنصر دون تعارض ، وتشبه هذه الحالة محاولة تذكر حلم ، وتشكيل قصة من تلك العلاقات يأتي في وقت لاحق ، وربما ينطوي ذلك على إشراك المزيد من ” التفسير المحكم ” حيث المنطق والبنية لديهم مكان واضح ، وفي نهاية القصة تتضح العلاقات.
ويمكننا هنا ان نناقش نظرية ديماسيو التي تقترح الآلية التي يمكن أن توجه العمليات العاطفية أو (تحيز) السلوك ، و خاصة عمليات صنع القرار ، حيث ردات فعل الجسد هي التي تضيف الأفكار إلى الحالات العاطفية ، وتجعل المشاعر غير محتملة ويتم التركيز على الأفكار لأنها أكثر قبولاً ، وهذا يجعلنا نفكر بالقيود التي تفرض على الكاتب عند التهرب من الأفكار غير المقبولة ، و لذلك قررت سو عند الدخول في نفسية الشخصية التي لديها قيم وتجارب مختلفة أن تفصل نفسها عنها ، وعلى الكاتب أن “يفقد التأويل ” ليفكر مثل الشخصية ، وتعلمت ” سو ” كيف تحرر دماغها لتعمل بطريقة غامضة لتبتكر قصة غنية : غنية بطريقة مليئة بالمعاني أكثر من الطريقة الواعية بالتفكير.
في النهاية سو استنتجت أن علم الاعصاب لم يكتشف بعد كيف يعمل الدماغ لابتكار قصص غنية ومعقدة حسب وجهة نظر الكاتب ، على الأقل خلال تلك اللحظات التي يبدو فيها أن الإبداع يكتب نفسه؛ عملية كتابة الرواية وكيف يعمل العقل لخلق قصة قد يظهر فقط بعد رحلة طويلة حيث نجمع العديد من العلاقات مع بعضها البعض والتي تبرزها بحوث علم الأعصاب ، بالنسبة لقراء “سو” سوف يلاحظون أن الاكتشافات في غموض العملية الإبداعية مختلف عن كتابة رواية وأيضاً مختلف عن طرق الكتابة التقليدية، وأنه شيء ممتع عندما تقدم الكتب غذاء للأفكار واستراتيجيات جديدة لتجربتها، عندما تكون الكتابة ربما أسوأ فكرة خطرت في بالنا.
بالنسبة لي كعالمة أعصاب وكاتبة سردية ، أعتقد أن الكتابة الإبداعية هي أحد أفضل التمارين لمنع شيخوخة المخ ، ومن المعروف أن الشخص الذي يكتب باليد اليمنى يفكر بالجزء الأيمن من المخ وهذا التفكير هو تفكير إبداعي وشامل ، والذين يفكرون بالجزء الأيسر من الدماغ هم منطقيين أكثر ويخضعون للمخططات ، والجزء الأيمن هو أفضل لرؤية العالم من منظور أوسع وربما أفضل من الصورة المرئية ، الجزء الايسر هو المهيمن على اللغة ، لكن ادعاء علماء النفس بأنهم يستطيعون تعليمك كيفية الرسم والإبداع عن طريق استخدام الجزء الأيمن هو شيء غير صحيح وغير حكيم؛ فالعقل عبارة عن اوركسترا سيمفونية حيث يعمل كل جزء بالتنسيق مع الأجزاء الأخرى ، وربما يرتفع صوت الكمان في المعزوفة لكن يبقى صوت الآلات الأخرى في الخلفية ليعطي المعنى الكامل لمعزوفة متناسقة، وبالنسبة للدماغ بشقيه الأيمن والأيسر هذا ما يحدث فيعملان معاً من أجل دماغ سليم ، والكتابة الإبداعية هي مثال لهذه العملية ، فاللغة تأتي من الشق الأيسر والصورة تأتي من الشق الأيمن ، وفصل أنفسنا عن الشخصية كما اقترحت سو هو عمل الجزء الأيمن من المخ ، في حين أن العلاقات المحكمة لاحقاً تحتاج إلى ربط وهذا ما يحدث في الجزء الأيسر.
لكن في جميع مراحل التفكير وجميع مراحل كتابة القصة أعتقد أن شقي التفكير يعملان معاً ، قراءة الروايات السردية والخيالية يحث شقي الدماغ على العمل على الأقل إذا كان القارئ متورطاً بالرواية ، ومتعة تلك العلاقات تضاف إلى الخبرة الجسدية والعقلية للقارئ والكاتب ، والتي تؤخر من عملية شيخوخة المخ التي غالباً ما يمر بها الإنسان بنسيان الأسماء أو مفتاح السيارة أو اأن وضع السيارة ، وبحوث علماء الأعصاب بدأت تثبت أهمية النشاط الفكري المستمر للدماغ وعملية ” استخدام أو فقدان ” الأفكار ، وهناك من تجربتي الشخصية تأكيد على ذلك؛ وهي تجربة غير خاضعة للضبط فبينما أحاول في محادثة عادية تذكر كلمة ما يبدو لي أثناء الكتابة أن حدوث ذلك أقل بكثير في معظم الأحيان ، وذلك غالباً يحدث لأن دماغ الكاتب يعمل لإيجاد الكلمات المناسبة عندما يكون تركيز الكاتب عميقاً في الكتابة ، وتكون علاقة الكلمة بالصورة علاقة سريعة وتظهر الكلمة المناسبة في الوقت الذي نحتاجها ، وتوجد لذلك الكثير من الدلائل في علم دراسة الذاكرة .
وبالنسبة لمحبي القصص، من يهتم بفهم العملية الإبداعية على أية حال ؟ فالمتعة كافية لنا.
________
المصدر : psychology today

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *