«الإشهار والصورة» محاولة في صناعة السلعة الثقافية


علي حسن الفواز

ترحيل الثقافي إلى الاجتماعي هو القوة الأكثر نعومة في توصيف (السيمولوجيا الاستعمالية) وفي تحقيق مكاسب وظيفية لهذين الحقلين المختلفين، إذ تجترح لهذا الثقافي وظائف غير لسانية، وتجترح للاجتماعي قوة تداولية فاعلة..

هذا الترحيل سيكون جوهرا فاعلا في الإشهار، وفي تعزيز فن التعبير عن الأفكار والبضائع والسياسات، وفي وضعها ضمن سياق جديد، وإكسابهما هوية وخطابا لهما ضرورتهما في إثراء التواصل والتداول، وفي توسيع مديات الإشهار الإعلاني، باتجاه تحقيق الفائدة والمتعة والربح والتعرّف..
الصورة هي القوة المركزية في سيمولوجيا الترحيل، ليس لأنها تختصر نسق العلامات وبلاغة الكلمات، بقدر ما أن تعالقها عبر فكرة الإعلان والإبانة سيجعل حمولتها الدلالية أكثر سهولة وأكثر قربا إلى حاجات الإنسان وإشباعاته.
كتاب «الإشهار والصورة/ صورة الإشهار» لدافيد فيكتروف ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، الصادر عن منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف/ الرباط 2015يضعنا أمام فكرة تبادل المنافع الثقافية، ما بين ثنائية الإشهار والصورة، وأمام القوة فوق اللسانية التي تملكها الصورة عبر قصدية إشهارها، وعبر ما يمكن أن تبيحه في لعبة الاستعمال الثقافي، وفي استخدام التقانات المجاورة التي يملكها الإعلان، بوصفه فنا له شيفراته في الإشهار، وفي التعبير الرمزي القائم على وجود حوافز تدفع للشراء والامتلاك والمتعة..
يطرح هذا الكتاب أسئلة حول الوعي الاستعمالي لاقتصاديات الإشهار، وكيفية ترجمة أنظمتها المسيطرة، التي قد تدفع وتبرر الحديث عن اقتصاديات الثقافة ذاتها، فيما لو فكر (إشهاريو) الصناعة الثقافية في وظائفية الإعلان والتعريف والتسويق.. كما أن هذا الكتاب يأخذ منحى الكشف عن كل المقاربات التي تحكم الفضاء التعبيري للصورة ولاستعمالاتها في المجال الإشهاري، ولوضع فكرة الإشهار عن السلعة أمام نوع من البلاغة الشكلية، والخصائص التي تستدعي صياغة لـ(الجملة الصورة) وللرسالة والقناة، بوصف أن هذه التقانة التعبيرية تقوم على أساس تفكيك اللفظ والشرح باتجاه وضع المستهلِك والمشتري وحتى القارئ أمام مفارقة تنطلق من «أن الصورة لا تستثير فحسب، ولا تشرح البعد اللفظي من خلال إضافة جزئية بصرية تتعرف عليها العين في ما هو مودع في التسميات والتعليق المصاحب، إنها مستقلة في طرائق الإقناع والإبلاغ، وفي استثارة ما توده من انفعالات، إنها لغة بنحوها وتركيبها وتآليفها الدلالية المتنوعة».
توسيع مدى التأثير الثقافي قد يكون دافعا لوضع السيمولوجي الاجتماعي داخل مجال مفتوح للاستعمالات المتعددة، ولوضع فكرة الاستهلاك، بما فيها الاستهلاك الثقافي أمام توصيفات وتعريفات مثيرة، لأن الإشهار بوصفه إعلانا تحوّل إلى خطاب، وإلى رسالة بالمعنى الياكوبسني، وهو ما يستدعي تغيير الوظائف، وزاوية النظر لاستعمالها خارج البلاغة التقليدية، وخارج الخطاب النمطي، إذ تجاوزت هذه الصنعة حيزها اللساني إلى صناعات مجاورة في السينما في والعمران وفي الكتاب والأزياء وأدوات التجميل وادوات الجنس والإكسسوارات والعرض والملصق، وصولا إلى تكريس القيمة الثقافية الاستعمالية للسوق بوصفه ظاهرة اجتماعية وثقافية وسلوكية وللظاهرة السياسية عبر الانتخابات والترويج للأحزاب والجماعات..
ضم الكتاب مقدمة للمترجم وتمهيدا تعريفيا مع ثلاثة أجزاء. تناول الجزء الأول تعريفا للإشهار وللأدبيات الكثيرة التي تناولته، وللتصورات الأساسية التي وضعته في سياق الصناعة والتواصل والاستهلاك، فضلا عن تقديم نظرة تاريخية للإشهار بدءا من القرن الثامن عشر وبداية ظهور الصحف الكبرى في بريطانيا وانفتاح صفحاتها للإشهار، من أجل تغطية الزيادات في الضرائب، مرورا بكل التطورات الحادثة بنشر الإعلان وامتداده إلى مؤسسات صناعية وتجارية واستهدافها لجمهور واسع، وانتهاء بتحول الظاهرة الإشهارية إلى بنية اجتماعية واقتصادية لها وكالاتها ومؤسساتها الحديثة واستثمارها للعلوم والتقانات، لاسيما بعد أن «أدرك الفاعلون في ميدان الإشهار منذ مدة هذه الحقيقة، فقد استعانوا مع بداية القرن العشرين بمتخصصين في العلوم الإنسانية- من اقتصاديين وعلماء اجتماع- من أجل توجيههم في تصور وسائل انتشار الإرسالية). 
ويضع الكاتب عنوانا فرعيا لـ«انتصار الصورة» في سياق قراءته للتحولات السريعة والخطيرة التي حدثت في تقانات الصورة ووظائفها، إذ أن التمثيل الصوري- كما يرى- أسهمت في تشكيل تصورات جديدة عن السلعة والفكرة، وعن تحول الإشهار إلى قوة دافعة قوامها الصورة في تحسين مستوى الإرساليات، وفي إبراز الجانب الثقافي التعبيري والوظائفي للصورة في أن تكون مصدرا للمعرفة، وكذلك مصدرا لتطوير قطاعات معينة، بما فيها القطاع الإعلامي والقطاع التجاري..
الجزء الثاني من الكتاب «الاتجاهات الكبرى في البحث» اعتمد فكرة المقاربات في قراءة الأسس التي يعتمدها الإشهار، والتي تتبدى عبر البحث في خطاب التأثير، وفي التحفيز، إذ هو جزء من السيكولوجيا، بوصفها صناعة للصورة الذهنية، وفي إثارة الانتباه، وعنصرا للتذكير، وفي بناء قيم وأفكار جديدة حول السلع التي يمكن الحصول عليها، فضلا عن كونه جزءا من (التصور السميولوجي) ومن بنيته الفكرية ورسالتها، التي استلهمت ما خصصه رولان بارت حين درس بلاغة الصورة في الإعلان الصحافي، وكذلك ما لعبه (جو آنيس) في كتابه «من دراسة التحفيز إلى الإبداع الإشهاري والنهوض بالبيع» من تحولات انعكست على بلورة فكرة واضحة لـ(الإرسالية الإشهارية) في مستواها اللساني والمستوى التقريري، والمستوى العلاماتي، وكذلك في طبيعة وظائفها التعبيرية/الانفعالية، والإفهامية/ التشاركية، والميتالغوية «وهدفها شرح المفاهيم المستعملة في الواقعة الإبلاغية».
والوظيفة الشعرية، وعلاقة بذلك بالمنهج والتأويل وبخصوصية التقانة الإعلانية، والتقانة التصميمية والتحريرية التي يقوم بها المحرر والمصمم، أو صانع النص البصري، وكذلك ما يمكن أن يتضمنه (نحو الصورة) وتعالقاته الصرفية والتعبيرية، التي يضعها الكاتب بمستوى «ما يعادل فئة الضمائر»، حيث تركيب الممارسات التي يقوم بها الباث والمستعمِل بوصفها سرديات قصدية للخطاب التي يتم إسقاطها على الصورة، والتحفيز على حيازة مضمون له (بلاغة الصورة الإشهارية) وله القدرة على تحويل الصورة إلى ما يشبه (النص) الخاضع لسلسلة من العمليات التي تحفزه، وتُهيئه وتُسبغ عليه من المحسنات البصرية ما يجعله أكثر قابلية للإثارة والتوافق والتذكير والفعالية والإلهام والقوة..
وحمل الجزء الثالث من الكتاب (حصيلة وآفاق) تصورات الكاتب ومحاولاته «في أفق تحديد مضمون الوصلة الإشهارية»، التي تنطلق- كما يرى- من خلال مقاربة الاختلافات الموجودة بين التصورات من «حيث القيمة المهيمنة، ومن حيث المرجعية الثقافية والموقف الإبداعي، ومن حيث السجل في الوقت ذاته». وكذلك من خلال مقاربة (الاتفاقات) بين التصورات التي تركز على تحديد هوية (صورة الإشهار) واهمية (البعد الرمزي للصورة) وهذه المقاربة تثير حولها العديد من الأسئلة التي تخص معرفة الصورة، وتخص جدواها وأهميتها، وكيفية توظيفها واستنفار حمولتها الرمزية والتعبيرية وأنساقها اللاوعية، أي بالشكل الذي يجعلها أكثر إثارة وأكثر تفاعلا مع سيمولوجيا المجتمع والسوق واللذة، وبما يتيح لها أن تقدّم فكرة ومعلومة، وأن تختصر أكبر كمية ممكنة من المادة اللغوية، وأن تضع الصورة الإشهارية والنص الإشهاري أمام نجاح سيكولوجي، وأمام متعة فائقة ومثيرة، وأمام نزوع إستهلاكي للمادة/ السلعة وأمام إشباع داخلي للفضول والرغبات..
هذا الكتاب لا يمثل إضافة مهمة للمكتبة الترجمية، ولحُسن اختيار سعيد بنكراد لمادته حسب، بل يمثل أيضا دافعا منهجيا وحافزا لإعادة قراءة النص الثقافي بوصفه المقابل التعبيري والرمزي للصورة لكي نكون أكثر انفتاحا على السوق الثقافي، بما فيه سوق الكتاب وسوق المهرجان وسوق الفيلم وسوق التجريب، وباتجاه تحفيز العقل الثقافي/ صانع النصوص على مواجهة خطيرة في مجال الصراع مع الأفكار الدوغمائية التي تروّج لبضائعها من خلال مؤسسات/أسواق، ومن خلال تكريس عنفي لذهنية التحريم والمقدس، وعبر الترويج للتاريخ والجماعة والفقه المحدد بوصفه إعلانا مقدسا للموت النبيل، وتكريها بقيم الحداثة بوصفها مروقا وكفرا وزندقة وخروج عن قيم وتقاليد (سوق الأمة)..
القدس العربي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *