الاستراتيجية الثقافية في الأردن
د. باسم الزعبي
نظمت وزارة الثقافة مؤتمراً وطنياً للثقافة في حزيران 2012، كان معولاً عليه الخروج باستراتيجية وطنية للثقافة، ولعل العنوان الفرعي للمؤتمر يدلل على ذلك: «نحو استراتيجية وطنية للثقافة».
وكانت الخشية خلال التحضيرات للمؤتمر، أن يتحول هذا المؤتمر إلى مجرد ندوة عادية في الثقافة إذا لم يؤسس أو يطرح آليات تنفيذية لإعداد استراتيجية ثقافية، والمعلوم أن إعداد الاستراتيجية يكون من خلال بحوث ودراسات، واستقصاءات، وتحليلات، وجلسات عصف ذهني، ومشاركات واسعة على المستويين المؤسسي والفردي، وهي تحتاج جميعها إلى وقت كافٍ، ولا يمكن لمؤتمر تقدَّم فيه أوراق بحث على مدى يومين أو ثلاثة أن يخرج باستراتيجية للدولة، على أهمية ما يمكن أن يقدمه الباحثون في أوراقهم المشاركة في المؤتمر.
وحدث ما جرى توقّعه، فقد انتهى المؤتمر وخرج بتوصيات، سيكون مصيرها كسابقاتها، وسوف تُنشر الأوراق والتوصيات على الأرجح في كتاب، يصدر بعد حين، عندما تكون الحكومة التي عُقد المؤتمر في عهدها وبرعاية رئيسها قد تغيرت، وحلت محلها حكومة أخرى، سيكون لها بالتأكيد أجندات أخرى، وهكذا ستضاف أوراق المؤتمر وتوصياته إلى رفوف المكتبة، لتكون مرجعاً لا للمسؤولين كما يُفترَض، بل للباحثين في أفضل الأحوال، وسنبقى نتحدث عن الاستراتيجية الوطنية في المجال الثقافي دون أن نراها.
إن وجود استراتيجية وطنية للثقافة، ذات أهداف محددة، وتنبثق عنها برامج وآليات عمل محددة، وتخضع لمراجعة وتقييم من جهات مسؤولة ومحدّدة المسؤولية، لم يعد ترفاً أو طموحاً غير واقعي أو أمراً فائضاً عن الحاجة في عالمنا المعاصر.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك تحديات تواجه بلدنا وشعبنا، وهي تحديات متعددة الجوانب، والجانب الثقافي منها أساسي، ولم يعد أحد ينكر أهمية الدور الثقافي في التنمية سوى الجهلة. يبرز دور الثقافة في تهيئة العقول للمساهمة الفاعلة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة، وفي تطوير القدرات والخبرات، وفي إيجاد صناعات ترفد الاقتصاد الوطني، وفي إثراء الحياة الروحية للناس وتحقيق السعادة لهم، وفي الحفاظ على قيم المجتمع الأصيلة، ونشرها لتربية الأجيال عليها، خصوصاً قيم الحرية والعدالة وحب العمل والإخلاص فيه… التي يؤمل منها جميها أن تنقل مجتمعنا خطوات كبيرة على طريق التقدم، وتحافظ عليه متماسكا متآلفا، آمنا.
غياب الاستراتيجية الوطنية في المجال الثقافي من شأنه تهديد الأمن الوطني، فالمجتمع يُترك في هذه الحالة عرضة لكل رياح التأثير، لرياح السموم أكثر منها للنسمات المنعشة التي تحيي الروح وتنعشها، ويبقي المجتمع عرضة للتفكك على الصعيد القيمي، ما يشكل تهديدا لتماسكه الاجتماعي، الذي يعدّ العامل الأهم في تحقيق الأمن الوطني، ورفع روح الوطنية والمواطنة، وتحفيز أبناء المجتمع على العطاء والبناء.
بمراجعة سريعة لأبرز الظواهر الاجتماعية في مجتمعنا التي انتشرت في ظل غياب دور فعلي وحقيقي للثقافة مرتكز إلى استراتيجية حقيقية وفاعلة، نجد أنها ظواهر لها بعد ثقافي مهم، ولعله يكون البعد الأساسي، ومنها: ظاهرة الفساد، والعنف المجتمعي، والتعصب، والبلطجة (إرهاب «الكمالية» وعصابته)، وضعف الانتماء الوطني، وضعف الوعي السياسي، وانتشار الفكر الظلامي، وفكر الإرهاب، والتكفير.. إلخ.
الاستراتيجية الثقافية والأمن الوطني
هناك علاقة وثيقة بين الاستراتيجية الثقافية والأمن الوطني. فتَرْك المجتمع من دون خطة استراتيجية في المجال الثقافي تقوم على حماية هوية المجتمع الثقافية، يتركه عرضة لرياح التأثير والتغيير التي تهب عليه. الدولة هي المسؤولة في نهاية المطاف مسؤولية مباشرة وأساسية عن تنمية الانتماء الوطني، وزرع قيم المواطنة والحرية والعدالة وحب العمل والإخلاص ونشرها وتعزيرها إلى جانب القيم المرغوبة في المجتمع التي من شأنها أن تشكل الحاضنة الثقافية، والمحفز، والحامي لتماسك المجتمع وترجمة خطط الدولة التنموية.
مسؤولية إيجاد استراتيجية للدولة في المجال الثقافي تقع في الأساس على الجهة الرسمية لمعنية بهذا الشأن، وهي وزارة الثقافة، ولأن الشأن الثقافي ليس شأن وزارة الثقافة بمفردها، بل شأن كل المجتمع ومؤسساته الثقافية ومثقفيه المسكونين بالهمِّ الثقافي، يصبح لزاما على الوزارة إشراك جميع هذه الأطراف في صياغة الاستراتيجية، والاحتفاظ لنفسها بالدور القيادي المنظم، والإشراف والمتابعة والتقييم.
لا شك أنه لا يمكن أن تكون هناك استراتيجية في غياب دور لمنظمات المجتمع المدني، أو لمؤسسات الدولة ذات العلاقة، مثل التربية والتعليم، والتعليم العالي، والأوقاف، والإعلام، والتوجيه المعنوي والجامعات. فالاستراتيجية المطلوبة هي استراتيجية دولة لا استراتيجية مؤسسة منفردة. وهي استراتيجية يمكن أن تنبثق عنها سياسات قد تشمل أكثر من مؤسسة رسمية. فالاستراتيجية الثقافية لا يمكن أن تتحقق بعيدا عن إدخال تعديلات ضرورية في المناهج المدرسية، والخطط الجامعية، وسياسات الجامعات، خصوصاً في مجال البحث العلمي والأكاديمي، ولا يمكن أن تتحقق بعيدا عن إعادة النظر في الخطاب الديني، ودور المسجد، وكذلك الخطاب الإعلامي ودور المؤسسات الإعلامية، وغير ذلك.
إن نقطة الضعف الأساسية في المؤتمرات والندوات، التي عُقدت أو أقيمت على هامش هذا الموضوع كلها، أنها كانت تُعقد في حدود وزارة الثقافة، لذلك فقد بقيت الأفكار والمقترحات لإحداث تنمية ثقافية في أغلبها على الورق، فكثير من المقترحات المهمة كانت تتطلب اشتراك جهات رسمية عديدة لتحقيقها ضمن مسؤولية ومرجعية رسمية ومؤسسية واحدة.
على سبيل المثال، لا يمكن أن أصنع» نجوما» في الثقافة (وقد أصبحت صناعة النجوم من الصناعات التي تعود على الدول بعائدات مالية ومعنوية طائلة) دون إجراء تعديلات في المناهج المدرسية والجامعية، تجعل الأجيال أكثر معرفة بالرموز الفكرية والعلمية والأدبية والفنية، ودون تشجيع البحث العلمي والأكاديمي، ودون توجيه البحوث والدراسات نحو أعلام البلاد في المجالات الثقافية المختلفة، وتوجيه البرامج الإذاعية والتلفزيونية كذلك، ودون التزام المبدعين بإبراز قيم الخير بتجلياتها المختلفة في أعمالهم، والإسهام في عملية تنوير المجتمع، وتهيئته ليكون أكثر فعالية وعطاء..
المتطلبات الأساسية لإعداد الاستراتيجية
من أبرز المتطلبات لإعداد استراتيجية ثقافية، توفر الوعي بأهمية هذه الاستراتيجية، وتوفر الإرادة السياسية لدى الحكومة، ممثلة بوزارة الثقافة التي يحتاج وزيرها إلى الدعم الكافي من مجلس الوزراء في هذه المهمة.
ومن المتطلبات: تحديد الأهداف، وهذا تقوم به الأطراف المعنية بالاستراتيجية. لا يمكن أن تكون هناك خطط متفق عليها، واستعداد للالتزام بها، وحرص على تنفيذها، من دون وجود أهداف واضحة ومتفق عليها.
ومن ذلك أيضاً: توفر قاعد بيانات ومعلومات في كل ما يتعلق بالشأن الثقافي، مثل مستوى التعليم، وأنواعه، وتوزيعه على الفئات المختلفة وفي المناطق المختلفة، ونسبة القراءة بين فئات المجتمع المختلفة، وإنتاج الكتاب في الأردن، وإنتاج الأبحاث والدراسات، ودور السينما والمسرح ونسبة ارتيادها، وأعداد الفعاليات الثقافية ونسب ارتيادها والفئات التي ترتادها، ونسب النصوص الثقافية المختلفة في المناهج المدرسية.. إلى غير ذلك من المعلومات التي في غيابها لا يمكن تقديم تحليل موضوعي للبيئة الثقافية بما تشمله من نقاط قوة ونقاط ضعف، وفرص وتحديات.
ومن الضروري الاستعانة بفريق خبراء متخصص قادر على تنظيم العمل، وتحديد موازنة للمشروع، إذ إن عملاً من هذا النوع يحتاج إلى وقت طويل، وجهد كبير، وعمل فِرَق لا فريق واحد، واستعانة بمراكز دراسات وإحصاءات لإجراء استطلاعات وجمع معلومات وبيانات… إلخ، وهذا العمل في المحصلة يحتاج إلى موازنة كافية لتنفيذه