عاشور الطويبي
في طريقه إلى البيت من المدرسة، الراوي الصغير لـ المكتبة الغريبة، يجد نفسه يخمّن كيف كانت تجمع الضرائب في الإمبراطورية العثمانية. يدخل إلى المكتبة المحلية ليرى بنفسه إن لديها كتاب عن الموضوع. هذه غلطته الأولى”.
هكذا يبدأ هاروكي موراكامي الكتاب/ الرواية “المكتبة الغريبة” الصادرة عن “هارفيل سيكر”. وهي غريبة فعلا شكلاً على الأقل. فالغلاف المقوى بلونه البنفسجي الذي يغطي جزءه العلوي اسم موراكامي بدون هاروكي، ويغطي أغلب الجزء الآخر بطاقة الاستعارة المألوفة في المكتبات العامة بلون سماوي فاتح وعليها تواريخ استعارات سابقة. أمّا الغلاف الخلفي فهون بنفس اللون وأعلى قليلاً من المنتصف توجد هذه العبارة بلون أبيض: كل ما فعلته أني ذهبت إلى المكتبة لاستعارة بعض الكتب.
“يُقادُ إلى مكان قراءة خاص في متاهة تحت المكتبة بواسطة رجل عجوز. يجد نفسه مسجوناً مع رجل يرتدي جلد خروف، ويعد كعكات رائعة، كذلك توجد فتاة، قادرة على التكلم بيديها، للمؤانسة. أمّه ستقلق لعدم عودته في موعده للعشاء ويبدو أنّ للرجل العجوز شهية لأكل أمخاخ الأولاد الصغار. كيف سيهرب؟”
المكتبات العامة أو الخاصة بما تحتويه من مجلدات تنبعث منها روائح كائنات غريبة ومألوفة. مدن تظهر على السطح بلمسة إصبع. قرى لا تدخلها شمس ولا يؤنس ليلها قمر. سماوات يسقط منها الجراد والفيلة، وأحياناً في غفلة عن أعين حراسها المتعبة تُسقط أمطاراً لا تلبث أن تغوص عميقاً في رمال تلمع من حباتها أضواء بلون الشعير الملقى في المخازن المعتمة.
مكتبات عامة تولّى رعايتها ورّاقوا بغداد ودمشق، حلب وإسطنبول، طرابلس الغرب والقاهرة المحروسة، صنعاء وتمبكتو، قرى فزّان وأغاديس.
مكتبات عامة تولّى رعايتها بورخيس ومانغويل امتلأت بالمجلدات ذات الكتابة الغريبة من أرض ميزوبوتامية وفلسطين، جلبها رجال بلحيّ وعرق مشبع بالدهن يرطنون بلغات الشمال الذي يكثر فيه الثلج والصمت.
“أمّي ومنذ صغري كانت تقول لي، إذا جهلت أمراً ما، امض إلى المكتبة العامة وابحث عليه”.
المعرفة لا بدّ أن تكون موجودة في شيء ما، في مكان ما. لا بدّ أن أحداً ما قد سأل ذات السؤال وأرهق نفسه في البحث عن إجابة، قد يكون تركها كاملة أو مبعثرة هنا وهناك. إمضِ وابحث، ليس لديك غير أن تفعل ذلك أو تستلقي في قبرك بلا نوم نادماً على أنك لم تعرف؟ هل تريد أن يحدث لك ذلك؟!
لا يخدعنك ضوء الشمعة، هي لم تكتمل وأنت لم تنته من هذا الكتاب الغريب!
“وبعد وقت طويل عاد الرجل العجوز، حاملاً ثلاثة كتب. كانت غاية في القدم – رائحة الورق العتيق فاحت في الهواء.”أشبع عينيك بهذه” قال الرجل العجوز بمتعة. “لدينا نظام الضرائب العثماني، مذكرات جامع ضرائب عثماني، وانتفاضات الضرائب وإخمادها في الإمبراطورية العثمانية. مجموعة مميزة، عليك أن تعترف بذلك”.
الأب يحكي عن قسوة ونهم جامعي الضرائب الأتراك. كانوا يأتون مرة في العام، يدخلون القرية على صهوات خيولهم المطهمة بالفضة تلهب بلمعاتها عيون الفقراء.
على شيخ القبيلة أن يكون المضيف، إعداد وليمة كبيرة تبقى رائحتها في هواء القرية لأيام.
من لا يقدّم ما يقرّرونه من ضريبة يعلّقونه في شبكة في نخلة عالية.
كانوا يأكلون السحت وأمّه، ولا ترمش لهم عين.
قيل همساً أنهم يطلبون أيضا النبيذ المحلي و(بلا كلمات) فتيات صغيرة بطعم اللوز المعسل. كانوا أكثر كفراً من إبليس.
“أخيراً، المتاهة انتهت عند باب ضخم حديدي. على الباب عُلّقت لوحة تقرأ ” حجرة القراءة”. كان المكان ساكنا كمقبرة في ليلة ميتة”.
المتاهات تؤدي إلى متاهات أو غياب أو جنون. عليك أن تبحث بين طيات المتاهة عن فرح خفيف وشفيف تكاد تحمله على سبّابة اليد الواحدة. لكن إحذر من أن تتخطّفه الكائنات المتربّصة والهمسات الشديدة الرجفان. كن أنت الكتاب وقلّب صفحاتك بعيداً عن الليل والنهار.
اختر سردابك ولغتك. أنت وحدك من يفعل ذلك ولا تلم غيرك إن ضعت في متاهات تقود إلى متاهات.
صانع أقفال ماهر، صانع مفاتيح ماهر.
“عند الساعة السابعة شخصٌ يدقّ على الباب. دقّة خفيفة صغيرة”.
هل استطعت يوماً القبض على الوقت؟ قال لي وهو يضرب بقدمه الأرض بقوة.
ربما نراه مرّة كالماء يسيل بين شمس قادمة وشمس هاربة!
أو لعلك تمنيّت أن تراه جبلاً عالياً تغطّيه الثلوج!
أو أطفالاً يكبرون، تسقط أسنانهم ومن أيديهم تفوح روائح الحلوى الزكّية!
أو حكايات عتيقة تنام هادئة تحت سرير الشيخ الذي لم يتلو صلواته واقفاً!
سيرجع الولد تمسك بيده الفتاة التي جسدها لا تمنع مروره الحيطان والأسوار. سيجد أمّه قد أخفاها النوم في حضنه، فارداً أمامها حزنها الكبير.
سيرجع الولد إلى ساحة المدينة المغتصبة من الملثمين، لن يقدر على عدم رؤية الرأس المقطوع يشخب من عروقه الدم الغزير.
* المقاطع بين قوسين مقتطفات من كتاب “المكتبة الغريبة” للروائي هاروكي موراكامي من ترجمة عاشور الطويبي.
العربي الجديد