احمد جاسم حسين
تعدّ ليديا ديفيس واحدة من أهمّ كتّاب القصّة العالميين، إذ إنها قد هزّت غالبية القناعات والأفكار المسبقّة المتعلّقة بفنّ القصّة. تأثّرت ليديا كما تقرّ هي نفسها بصموئيل بيكيت الذي درست أسلوب جملته وإيقاعها، وبفرانز كافكا وغيرهما. إلا أنها طبعت فنّ القصّة ببصمة لا تمحى. وهي أيضًا مترجمة غزيرة الإنتاج فقد ترجمت ميشيل فوكو وغوستاف فلوبير وغيرهما من اللغة الفرنسية. وهذا أوّل حوار لها باللغة العربية
* ما دور وسائل التواصل الاجتماعي: الواتس أب، والفيسبوك، وتويتر وأنستغرام، في التشجيع على كتابة النصّ السردي القصير جداً؟ أيهما أفاد من الآخر؟ وما آفاق العلاقة بينهما؟
هناك علاقة وثيقة جداً بين هذه التقنيات التي ذكرتها، وما آلت إليه حال السرد في العالم. لكن يجب أن ننتبه، هذه التقنيات وألوان التواصل الاجتماعي الأخرى، يتمّ تطويرها بطرق عدة ولأسباب تجارية وسوى ذلك، في حين إذا تحدّثنا عن السرد فيجب أن ننتبه إلى أنه لا توجد غرفة متخصّصة بتطويره أو مختبر يُجري عليه تجارب علمية، بحيث يجب أن يؤول إلى صورة ما خلال فترة قصيرة. الأدب ابن الحياة، يتطوّر في تلك البيئة الحاضنة له، وليس في الغرف الضيقة. يسعى الكاتب غالباً في ما ينتجه إلى تقديم إضاءة على الحقيقة، عبر التواشج بين ما يدور في رأسه من أفكار، وما يعيشه أو يتخيّله. وحين أقرأ نصاً سردياً قصيراً، أبحث عن بعض الحقيقة والأفكار الضرورية والكثير من الفنّ.
* يرى بعض المتابعين أن فلسفة النصّ القصير المعاصر، نوعٌ من العودة إلى الحكمة المكثّفة القديمة، وربّما الرغبة في استعادة طفولة النفس البشرية في تأكيد أن خير الكلام “ما قلّ ودلّ”، وبالتالي ثمة منحنى إنساني يشيع حالياً يشجّع على كتابة النص القصير.
أظنّ أننا نحتاج إلى كلّ أنواع الكتابة القصيرة والطويلة، قصص تروى على شكل قصائد طويلة. وكذلك ثمة ضرورة لا تنتهي للملاحم والروايات والمسرحيات وكذلك الحِكم. فالإنسان يحتاج إلى المشي الطويل وكذلك إلى المشي القصير، كلّ ذلك ضروري لاستمرار الحياة. كلّ نوع من أنواع الأدب، يقدّم قيمة مختلفة من قيم الحياة، لذلك تتكامل هذه الأنواع في حياتنا. لا أحسب أن الصراع ضروري بين الأجناس الأدبية كما يحدث بين القناعات في عالمنا المعاصر. الآخر في الأدب يجب أن يقبل الآخر، لأن الميدان ها هنا، ميدان جمال وفنّ، وكلّ فن بالضرورة يجب أن يفتح أبوابه على الفنون الآخرى.
* كتابة التفاصيل اليومية، إحدى أبرز اهتماماتك، غير أنك لا تلتفتين إليها بشكلها المباشر، بل بشكلها الفلسفي لكن من عين أدبية. ما الذي يجعلك تتحمسين لكتابة مثل هذا النمط من الكتابة؟ وكيف تستطيعين أن تفصلي عيني الناقد عن عيني الكاتب أثناء كتابة القصة؟
الآن، تغيّرت الأمور بالنسبة إلي، أحاول المواءمة بين ألوان من التعبير الذي أكتبه، وتشغلني كثيراً قضية الحوارات بين أنماط مختلفة من الشخصيات، حيث يتيح لي هذا النمط، فرصة الحديث عن أصوات متعدّدة وأفكار مختلفة، هذا يمتعني ككاتبة، أن أستطيع التعبير عن المختلفين وليس عن المتفقين فحسب، أسعى للمحافظة على التغييرات في أسلوب الكتابة.
كنت معتادة على مراقبة عناصر الحياة اليومية. وحين كنت صغيرة، كنت طفلة خجولة، أقف على حافّة النشاط، وليس وسطه، فأنا بطبيعتي أميل إلى الملاحظة والمشاهدة، وحين أقوم بفعل الكتابة أعود إلى النشاط.
أما الفصل بين عينيْ الناقدة وعينيْ الكاتبة؛ فيجب أن أكون ناقدة سلبية لنصوصي فترة من الوقت؛ حتّى أستطيع إعادة النظر في ما أكتب، لذلك يعطيني الناقد الذي يعيش في وجداني الفرصة للقراءة، واقتراح مقترحات مفيدة للنص الإبداعي الذي كتبته. ورحلتي مع النصّ الذي أكتبه تكون ذهاباً وإياباً، وفي رحلة الذهاب والإياب يحضر مرّة المبدع ويحضر تارة الناقد.
* تطرح نصوصك المكثّفة مشكلة الأجناس الأدبية وجدواها، إذ إن كثيرين يرون أن ما كتبته يدخل في الشعر، وإن كان سرداً. أريد أن أستمع إلى رؤيتك حول مستقبل الأجناس الأدبية، ومستقبل الأدب عامّة، في ظلّ هيمنة الصورة؟
أنظر إلى المستقبل بعين التفاؤل، أظنّ أن الأنواع المنفصلة في المستقبل ستستمرّ في الازدهار، وسيكون هناك المزيد والمزيد من الاهتمام لخلق أنواع جديدة تفرضها طبيعة الحياة، ويبقى عالم الكتابة عالماً فنياً إبداعياً بغض النظر عن الجنس الأدبي، المهم أن يكون الأدب أدباً أولاً، ثم نتحدّث في قضية النوع والجنس الأدبي، فالأدب هو مزيج من الخيال وغير الخيال.
سأذكر مثالاً اطلعت عليه حديثاً: هناك ستة مجلدات للكاتب النرويجي “كارل اوفي كناسغارد” في السيرة الذاتية، يستمدّها كلّها مباشرة من حياته الخاصة، مما يستطيع تذكره، لم تترجم إلى أي لغة بعد، وكذلك هناك رواية النرويجي “داغ سولستاد” وهي رواية جديدة تعود إلى القرن السادس عشر حيث يتحدّث عن عائلته، فيعود بعيداً إلى تلك الفترة لكنه يسميها رواية.
الخلاصة: تسعدني الكتابة بأي شكل أحبّه، ويمكن أن تكون النتيجة التي أكتبها قصة تقليدية أو شيئاً يشبه القصيدة، لا مشكلة عندي في ذلك.
* الكثير من القصص القصيرة جداً، صدرت في الثقافة العربية، هناك أكثر من ألف مجموعة أُنتجت خلال الخمس والعشرين سنة الماضية، وكذلك أكثر من عشرين كتاباً نقدياً، هل سمعت عنها شيئاً أم قرأت بعضها؟ أم أن التلقّي الغربي للثقافة العربية اكتفى بكتابين هما: ألف ليلة وليلة والنبي لجبران خليل جبران؟
يقف عدم ترجمة هذه القصص أو الكتب إلى اللغة الإنجليزية حاجزاً في وجه عدم قراءتنا لها. ومن المهمّ للكاتب العربي أن يُترجم كتابه إلى اللغة الإنجليزية كي يصل إلينا. ثمّة اهتمام بتعلّم اللغة العربية في الولايات المتحدة الأميركية، لكن ذلك يُبقي الكتب العربية في إطار ضيّق. آمل أن يصبح الوضع أفضل مما هو عليه الآن، وأتفق معك في أنه لا بدّ أن يتمّ الاهتمام في هذه المجموعات القصصية ما دامت بمثل هذا الحضور والتميّز كما تقول. من جهتي قدّمتُ لمجموعة قصصية لكاتب سوري هو أسامة العمر. لا شكّ في أن معرفتي قليلة عن الأدب المنتج باللغة العربية، لأنني لا أجيدها. لكن من سيقوم بمهمة نقل الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نبحث عن إجابة له.
* حصلت على عدد من الجوائز” آخرها جائزة البوكر. ماذا تضيف الجوائز لكاتب مثلك، لديه تاريخ طويل من الكتابة والنشر والشهرة؟
أنا مسرورة جداً لحصولي على جائزة مان بوكر العالمية قبل عامين، على الرغم من أنني دهشتُ لحصولي عليها، إذ عادة ما يكون الفائز في هذه الجائزة كاتباً يكتب بطريقة أكثر تقليدية، أو لنقلْ كاتب تقليدي. نعم، كانت الجائزة علامة فارقة في مسيرتي الأدبية. فقد أقبل فجأةً عدد كبير من الناشرين الأجانب على ترجمة أعمالي ونشرها. ولكن بطبيعة الحال، الجائزة، أية جائزة لا ينبغي أن تغيّر الوضع الأساسي للكاتب. إذ إن كتابة القصّة عملٌ صعبٌ. للقصّة متطلباتها الفنية والفكرية، وكذلك لها رؤيتها الخاصّة بها، وقد تفشل وقد تنجح، وهي في كلّ الحالات جزءٌ من عالم الكتابة المدهش الذي يوجد فيه جوانب معلومة وجوانب مجهولة. فقد تكتب نصاً تحسب أنه نصّ ناجح جداً، فلا يحقّق ما أملته منه، وقد يحدث العكس، هذا هو عالم الفنّ.
* أنت من الكتّاب الذين يرون في الترجمة نافذة حياة، غير أن ترجماتك بقيت محصورةً في لغة المركز، حيث اللغة الفرنسية وسواها. وأنت بنفسك قمت بترجمة عدد من الكتب النقدية عن اللغة الفرنسية وغيرها، ولم يتمّ الالتفات إلى ثقافات الشرق مثلاً. ما دور الترجمة في تكوينك النقدي والفكري؟ وما أثرها في التفاعل بين الحضارات؟
نعم، ترجمتي المركزية هي عن اللغة الفرنسية؛ حيث ترجمت العديد من الكتب، والآن أنا مسافرة إلى فرنسا. ومعك حقّ، ترجماتي الأخرى، وهي قصيرة، وصلت إلى لغات أخرى غير لغات المشرق هي عن: الإسبانية، البرتغالية، الألمانية، السويدية، والنرويجية.
الترجمة بالنسبة إلي، ليست نقل كتاب من لغة إلى لغة أخرى، بل فكرة الترجمة، وهي بالنسبة إلي متعة كبيرة، أقوم بها بمحبة عالية، وأعيشها بصفتها تجربة حياة ومثاقفة. الأميركيون، حيث المجتمع الذي أعيش فيه، في كثير من الأحيان أحاديو اللغة، لذلك لا بدّ من أن يُترجموا المعارف والفنون والآداب التي تنتجها الثقافات الأخرى، على الرغم من أن هناك الكثير من الاهتمام في تعلّم اللغات بشكل جيد في المدارس الأميركية. لكن ربما، المشكلة هي أنه بمجرد خروجنا من المدرسة، لا يوجد أي استخدام حقيقي لإتقان اللغة الأجنبية لدينا، وهو أمر ضروري حتى نتمكّن منها، لذلك نفقد تدريجياً القدرة على القراءة والتحدّث بلغة أخرى، على عكس كثير من الأوروبيين الذين يجيدون أكثر من لغة.
والترجمة عمل مهمّ جداً من أجل ثقافة صحية، ونحن بحاجة إلى العديد من الثقافات المختلفة القادمة الى منطقتنا، لتؤثر فيها وتثريها قدر الإمكان. يجب أن نكون على علم بمجموعة كبيرة ومتنوعة من طرق العيش والتفكير في العالم، وألا نكتفي بما حولنا فحسب.
هناك الكثير الكثير من الروائيين وكتّاب المقالات والنقّاد والصحافيين والشعراء الممتازين غير المترجمين، يكتبون بلغات عديدة لكننا لا نقرأها في الولايات المتحدة. بعض كتاباتهم تُترجم في النهاية، لكنَّ كثيراً من الأعمال المثيرة لا تُترجم، وليس سبب ذلك إهمال المترجمين لأعمالهم الأدبية فحسب، بل لأن الكثير منهم (أعني في الأغلب الروائيين والشعراء) يكونون شديدي الاختلاف والتميز والتجذّر في ثقافاتهم؛ فتصعب ترجمتهم أو تستحيل، وها هنا يغدو تعلّم اللغات الأخرى ضرورة لتحقيق فعل الاكتشاف.
* ثمّة مقولة أقرب إلى الرسوخ في عالمنا المعاصر اليوم مؤداها: الكاتب الكبير غالباً ما يكون قارئاً نهماً، نرجو أن تحدثينا عن حكايتك مع القراءة؟
سؤالك هذا ذكّرني بقراءاتي في طفولتي المبكّرة حيث مكتبة أبي الكبيرة. لقد بدأتُ رحلة القراءة في سنّ مبكّرة قبل العاشرة، إذ قرأت لكلّ من لورا إنغلز وسي إس لويس وفرانسيس هودغسن بيرنت وغيرهم كثير.
هناك كتب لم أقرأها وكان يجب أن أقرأها مثل كتب “دون كيخوته” و”تريسترام شاندي”. فالحياة لا تتيح لك قراءة كلّ ما تريده. وهناك كتب يجب أن تقرأها، ويصعب أن تقرأها دفعة واحدة، مثلما حدث معي في قراءة “عوليس” حيث قرأته على مراحل. صحيح أنني عانيت كثيراً معه، لكن في النهاية قرأته.
في السرد مثلاً أحب قراءة “ليون تولستوي” وناثانيال هاوثورن” و”إرنست همنغواي” وكذلك أقرأ لكتّاب معاصرين باللغة الإنجليزية وسواها من اللغات الأخرى التي أحببتها.
وثمة كتابات أبدأ بقراءتها، لكني أنشغل بقراءة سواها. ولا شكّ أنك إبّان رحلة القراءة تلك التي تعيشها، ستمرّ بخيبات أمل مثلما حدث معي أثناء محاولتي مساعدة ابني في قراءة “هاري بوتر”. لكنني وجدته غير ممتع بالنسبة لي، وهو عكس إحساسي حين قرأت “فيليب بولمن” في سلسلته “الخامات المعتمة”، وخاصة “البوصلة الذهبية”.
يمكنك أن تقول عني: إنني قارئة عنيدة، أحبُّ تحدِّي قراءة الأدب بلغاته الأصلية، لذلك تعلمت عدداً من اللغات، لا سيما اللغات التي لا أعرفها جيداً، تلك طريقة جيدة للتدريب اللغوي، وللاكتشاف، والمثاقفة والتعرّف إلى الآخر.
العربي الجديد