محمد الحمامصي
يرتحل المؤلفان الروسيان دينيس تشيكالوف وفلاديمير كوندراشوف في كتابهما الموسوعي “تاريخ الثقافة العالمية” والذي قام بنقله عن اللغة الروسية إلى العربية المترجم عماد محمود طحينة، وصدر عن مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، من خلال استعراض شامل ومفصّل للظروف التاريخية التي واكبت نشأة وتطور الثقافة، مؤرخين للثقافات العالمية منذ الثقافة البدائية فالثقافة المصرية القديمة ثم الهندية والصينية وأميركا الوسطى واليونانية والرومانية والبيزنطية فالثقافة العربية وثقافة أوروبا في القرون الوسطى وثقافة بلاد ما بين النهرين، وانتهاء بثقافة الأزمنة الحديثة، وهما خلال ذلك يسعيان إلى إعطاء صورة لهذه الثقافة ماديا وروحيا أو تلك وأبرز علمائها وكتابها ومنجزاتها عامة للثقافة الإنسانية، لذا جاءت فصول الكتاب مرتّبة وفقاً للتسلسل الزمني لمحطات تاريخ البشرية.
يبدأ المؤلفان الكتابة بمحاولة وضع تعريف للثقافة حيث اختلفت رؤى المفكرين والعلماء في تعريفها مشيران إلى أن “مفهوم الثقافة يتضمن النشاط (السلوك) والاستمرارية والتراكم (التجميع) فيما يتعلق بالمفهوم الأخير تجد الاشارة إلى أن الخبرة المهمة اجتماعيا تعتبر منهج النشاط البشري وهي لا تنقل فقط، وإنما تتراكم أيضا، لذلك فعملية التنمية الثقافية تحمل طابعا تراكميا. وتعتبر الخبرة والتقاليد (الماضي) والابتكار (الحاضر) عناصر مهمة للثقافة. إذن تفترض الثقافة نقلا غير جيني للخبرة من فرد إلى آخر. وينبغي أن تكون هذه الخبرة مثبتة في بني مادية غير بيولوجية مثل الكتب أو الرسوم الصخرية”.
ويرى المؤلفان أن منجزات الحضارة العربية أثرت على المراكز الثقافية في أوروبا القرون الوسطى ولفترة طويلة من الزمن كانت اللغة العربية هي السائدة في العالم الإسلامي، ففيها أنزل القرآن، ووفقا للتعاليم فقد حظرت لفترة طويلة ترجمة الكتاب المقدس إلى لغات أخرى، لأنه يجب على جميع المسلمين المتعلمين معرفة اللغة العربية التي نقشت فيها كلمات الله. مؤكدا أن العالم العربي الإسلامي أصبح مركزا للعلم والفلسفة (الكندي، الفارابي، ابن سينا، الغزالي، ابن رشد، وابن جبير، وابن ميمون) وحظي النشاط العلمي في البلدان الإسلامية في فترة القرن الثامن ـ القرن الثاني عشر بالتقدير العالي، نظرا لاعتباره وسيلة للارتقاء بالانسان من الناحية الأخلاقية. وحصلت العلوم الطبيعية تدريجيا على الاستقلال في علاقتها مع الدين.
ويلفت المؤلفان إلى أن الهند القديمة تنتمي إلى البلدان ذات الثقافة العالية، فالهنود القدماء كانوا على دراية بعلم الفلك، إذ بقيت أدلة على أن عالما هنديا قديما خلص بشكل مستقل إلى استنتاج عن أن لدى كل من الشمس والأرض محور خاص للدوران، وكان لدى الهنود كتابة تقوم على 50 رمزا، وهي أسهل من المسمارية أو الهيروغليفية. وكان النحو واحدا من أهم العلوم التي قدسها الهنود.
وفي الهند القديمة اخترعت الأرقام التي اعتدنا على تسميتها بالعربية، بيد أن العرب اقتبسوها من الهنود، وعن طريق العرب عرفتها الشعوب الأخرى، كما اخترع الهنود لعبة الشطرنج. وفي الهند القديمة شيدت المباني الرائعة، والتماثيل الجميلة للحيوانات والبشر. واشتهرت الهند دائما بالرقصات والأغاني وكان لدى الهنود أدب غني ومتنوع، فقد حفظ كتاب الارشادات والنصائح والحكمة، وكان يسمى بالكتاب التعليمي للأمراء، هذه هي مجموعة من القصص من 5 كتب “بانتشلتانترا” كليلة ودمنة وتعود النسخة الأولى إلى القرن الرابع قبل الميلاد، فضلا عن كتب الغربان والبوم وفقدان المكتسب والسلوك الطائش والملاحم مثل ماهاربهاراتا ورامايانا.
ويقول المؤلفان إن النزعة الفردية تعد السمة المميزة لثقافتنا اليوم، ففي حالة ما بعد الحداثة، ولا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك، إذا كان كل واحد منا يؤلف السرديات الصغرى لنفسه وللحالة الموجودة، “يعيش كل واحد منا على تقاطعات مسارات العديد من هذه الجزئيات، إن سقوط سمعة التقاليد هو نفسه تناثر السرديات الكبرى، والفردية مرتبطة مباشرة مع ضرورة توليف السرديات الصغرى. وعليه مرة أخرى يمكننا أن نرى العلاقة الوثيقة لما بعد الحداثة كاتجاه في الوعي الثقافي الذاتي مع تطور العلم والصناعة، وكذلك مع الفردية كسمة مميزة لثقافة أيامنا”.
بدون احترام الشخص الآخر، وبدون الاعتراف به كصاحب حقوق غير قابلة للتجريد، يكون تشكيل شخصية متكاملة ومتطورة أخلاقيا مستحيلا. النزعة الفردية كما تظهر في حالة ما بعد الحداثة، هي بعيدة عن هذا الموقف تجاه القريب. إن إنسان حالة ما بعد الحداثة الهادف إلى أغراض عملية بحتة يفتقر إلى أية حوافز لرؤية الشخص الآخر أكثر من كونه أداة لبلوغ أهدافه. ويصبح من الواضح أنه ينبغي أن يقود الدافع الأخلاقي الإنسان هنا أيضا. ونرى تناقضا آخر بين المطالب التي يوجهها المجتمع إلى الإنسان في حالة من الحداثة والمواقف الأخلاقية لوجود الفرد”.
وفي ختام رحلتهما الثقافية والفكرية والعلمية في الثقافات العالمية في مختلف الحضارات العالمية رأى المؤلفان أن تغير التكنولوجيا بتطورها المستمر حياة الإنسان، ومع تطور تقنيات المعلومات ستحدث تغييرات في وضع الفرد أيضا. ويتمثل الجانب المهم لهذه المشكلة في موقف الفرد في مواجهة الفرد في مواجهة تقنيات المعلومات الجديدة تماما غير المتوفرة حاليا. ومن المعقول افتراض أن ظهورها وانتشارها سيطرحان أسئلة جديدة تتطلب إجابات جديدة. ومن الصعب التكهن بماهية هذه التقنيات، ولكن ليس هنالك شك في أن إنشاءها هو أكثر من ممكن.
واليوم تجري بالفعل دراسات تهدف إلى تصميم التلفزة التفاعلية المدمجة بشكل كامل مع الحاسوب. ولم يشغل بعد ما نشر إلى اليوم من نتائج لهذه المشاريع المواقع الريادية في مجال تقنيات المعلومات (علي سبيل المثال الارسال التفاعلي)، ولكن من الممكن أن يتغير هذا الوضع في المستقبل، وذلك بوضعه تحديات جديدة أمام الباحثين. ومع ذلك فإنه يبدو من الخطأ اختزال الدراسات البعيدة في تحقيق بسيط للتغيرات التي تحدث في السياق الثقافي.
وتبرز الحاجة إلى استعراض وتحليل الاتجاهات المميزة لهذا التطور. وعلى المدى البعيد يدور الحديث عن دراسة تشكيل البنية الجديدة لتشريع السرديات الكبرى ومدى مساهمتها في تشكيل ووجود الشخصية، أو على العكس من ذلك تبرير استحالة تشكيل مثل هذه البنية. والاتجاه التالي الذي يمكن للبحوث المستقبلية أن تتطور فيه هو تحليل مشكلة الشخصية في البلدان المتطورة صناعيا التي لا تعتبر بلدانا من الطراز الغربي.
يؤكد المؤلفان أن “تقنيات المعلومات في أيدي الانسان هي بمثابة النار التي قد تحرقه وتدمر بشكل تام ليس الشخص نفسه فحسب، وإنما عالمه كله أيضا، ولكن في الوقت نفسه عند استخدامها بشكل مناسب تكون قادرة على تحسين حياة الناس جميعهم على وجه الارض بشكل كبير “. ثم يتساءلان “ما هي الطريق التي ستسلكها البشرية وهل ستتبع بشكل أعمى التقدم غير المنضبط للمعلومات، الذي يمكن أن يقود العالم إلى الموت، أم أنها ستتعلم كيفية السيطرة عليه والاستفادة منه مع التركيز على القيم الأخلاقية ـ الإنسانية والمثل العليا ـ كل ذلك يتوقف في نهاية المطاف على البشرية نفسها.
يذكر أن مؤلفي الكتاب أكاديميان روسيان بارزان، إذ يعتبر دينيس تشيكالوف واحداً من أشهر الروائيين الروس المعاصرين، وهو صاحب عدد من المؤلفات في الفلسفة والعلوم الاجتماعية، من بينها “القاموس الفلسفي الحديث”، و”تاريخ الأديان”، ونشر في موسكو وسان بطرسبرج العديد من الروايات والقصص البوليسية وقصص الخيال العلمي؛ أما فلاديمير كوندراشوف فهو أستاذ جامعي وباحث علمي بارز في مجال نظرية الثقافة منذ أكثر من عشرين عاماً، وله مجموعة من الأبحاث العلمية، أهمها “الثقافة الإثنية – التاريخ والنظرية”، و”الدراسات الثقافية بوصفها منظومة معارف”.
أما مترجم الكتاب فهو عماد محمود طحينة، مترجم وصحافي من سوريا حائز على درجة الماجستير بدرجة الشرف بتخصص تدريس اللغتين الروسية والإنكليزية من جامعة اللغويات بكييف وإجازة في الترجمة المحلّفة من وزارة العدل السورية، ويعمل حاليا في كلية اللغات والترجمة في جامعة الملك سعود بالرياض، حيث يدرس اللغة الروسية والترجمة لأكثر من خمسة عشر عاماً، وله مجموعة غنية من الترجمات والكتب المنشورة باللغتين الروسية والعربية، وصدر له عن مشروع “كلمة” كتابان: “سياسة الثقافة أو ثقافة السياسة: تجربة فرنسا” و”علم الترجمة المعاصر”.
ميدل ايست أونلاين