*حسين بن حمزة
لم يغِب الحضور الإنساني يوماً عن لوحات أسماء فيومي (1943). ولعلنا هنا لا نتحدث عن صفة خارجية أو ملمح إجرائي ما في تجربتها التشكيلية الطويلة، بل نشير إلى مسألة جوهرية تتدخّل في بناء لوحتها وتأليف عناصرها. ظهر هذا الحس الإنساني في بدايات الرسامة السورية على شكل تشخيصات تعبيرية ثم تجريدات غنائية واعدة بتأثير من أستاذها الإيطالي غيدو لا ريجينا (1909 – 1995) أثناء دراستها في كلية الفنون الجميلة في دمشق، ولكن ما قدمته في معرضها الأول عام 1966 سرعان ما طغت عليه المناخات التي تلت نكسة حزيران 1967، ووضعتها أمام أسئلة واقعية وإنسانية ومحلية ضاغطة أكثر.
الحضور الإنساني نفسه تكاثف أكثر داخل الإحساس العام للهزيمة والخيبة والانكسار، وباتت الأشكال البشرية واللطخات اللونية تحظى بجرعات إضافية من الأداء العاطفي والوجداني في أعمالها التالية. الواقعيات التعبيرية والغنائية طبعت المحترف السوري كله تقريباً. وتجربة أسماء فيومي هي واحدة من التجارب الأساسية التي بدأت في النصف الثاني من الستينيات مع أسماء مثل أسعد عرابي وفائق دحدوح وصخر فرزات، وكان ذلك بعد رسوخ تجارب عدد من الرواد الذين سيتركون بصمات قوية ومستمرة على منجزات المحترف السوري كله تقريباً. هذه البصمات وما تلاها صنعت «هوية» الفن التشكيلي السوري، وهي هوية انشغل ممارسوها بالواقع وتعبيراته الممكنة أكثر من أي طموحات تجريبية أخرى. التجريب نفسه ظل يتحرك على تخوم تلك الواقعية أو لنقل تلك الواقعيات التي تفنّن الرسامون والنحاتون السوريون في تظهير مهاراتهم وهواجسهم وطموحاتهم فيها. وسيتأكد لاحقاً وفي أزمنة راهنة، أن المحاولات التجريبية للأسماء الشابة أيضاً ظلت مدينةً لواقعية راسخة وثرية ومتعددة التعبيرات. تجربة أسماء فيومي موجودة هنا في قلب هذه الواقعية التعبيرية التي ساهمت هي في صناعة وتظهير جزء منها. مساهمةٌ عوّلت صاحبتها كثيراً على الإنصات إلى الواقع وتحولاته، وعلى التقاط النبض الإنساني وعذابات الناس وأحلامهم. الناس هم الذين حضروا بكثافة في شغل فيومي. لا نتحدث هنا عن واقعية أكاديمية أو انعكاسات ميكانيكية للواقع في اللوحة طبعاً، بل عن مروحة واسعة من التجريب داخل واقعية خصبة ومتنوعة الخيارات والجماليات. واقعية تُحضر معها الفن والسياسة، وتستجيب للمتغيرات المجتمعية والفردية للإنسان، وتتدخل بقوة في الصياغات الأسلوبية أيضاً.
داخل هذا السياق، يبدو معرض أسماء فيومي الجديد «بلا عنوان» الذي تحتضنه «غاليري أيام» في بيروت، استمراراً لما راكمته تجربتها التي لا تزال على صلة وثيقة بما راكمته واقعية المحترف السوري في العقود الماضية أكثر من صلتها بالتجارب المستجدّة التي انغمست في متطلبات سوق الفن المعلومة، وسياسات الغاليريات والمزادات الكبرى. توصيفٌ مثل هذا يعني أن الرهان (الصعب) على تلك الواقعية لا يزال ممكناً، وإن كان هذا الرهان بات يضيق أكثر فأكثر لصالح تجارب منحازة أكثر لوسائط فنية معاصرة ومستقبلية.
لا يزال في استطاعتنا أن نلحظ ملامح وجزئيات من أعمال سابقة للرسامة في لوحاتها الجديدة. كأن هذه الجزئيات لا تزال قادرة على تمديد خدمتها لصالح تلك النسخة الواقعية ذات التعبيرات الثرية. جزئيات تدعونا إلى حصر انتباهنا في ممارسات لونية تعيد الاعتبار لتعبيرات الواقع ومجرياته القاسية على «إنسان اللوحة» الذي لا تحتاج هويته السورية إلى توضيحات إضافية. الإنسان السوري هو الحاضر في اللوحات المنجزة بقياسات كبيرة. العزلات الفردية والحميميات الثنائية وحالات الأمومة والعائلة التي سبق أن احتلت مساحة واسعة في معارض أسماء فيومي، تتعرض هنا إلى كسور وتصدعات حادة كنتيجة طبيعية للوضع السوري المتفجر. الأزواج والأمهات والأولاد هاربون من الواقع المضطرب إلى فضاء اللوحات في رحلة نزوح مأساوية طويلة. المعرض الذي يحمل عنوان «بلا عنوان» تأويلٌ آخر لعذابات ملايين السوريين المهجّرين الذين فقدوا عناوينهم الأصلية، بينما بعض اللوحات تحمل عنوان «الشاهد»، وتنتمي إلى سلسلة لوحات بالاسم نفسه بدأت فيومي بإنجازها منذ بدايات الحدث السوري عام 2011. الشاهد هنا هو الضحية في الوقت نفسه، واللوحة هي شهادة على الخراب والدمار. ولكن رغم الدلالات المباشرة للخطاب الذي تحمله اللوحات، إلا أن ذلك لا يغيّب مهارة فيومي في تأليف هذه اللوحات. ننتبه مثلاً إلى الخطوط الدائرية التي تصنع بؤرة وهمية نحتاج إلى الابتعاد قليلاً لكي نعرف أنها ترسم الوجوه البشرية داخل هذه البؤرة المحاطة بحلقات لونية على شكل انفجار أو حالة ضاغطة. الوجوه المتطاولة أحياناً، والواسعة التضاريس أحياناً، والممحوّة أحياناً، تجمع في طياتها التعبيرية بين التشخيص القوي والتجريد الهامشي. والأخير يساهم في ترويض وتلطيف الترجمات المباشرة والفورية لموضوع اللوحات، ويمنح الرسامة مساحة فنية وجمالية للتنفس في مواجهة الحالة السورية الضاغطة.
______
*الأخبار