الكــــــــاتــــــــــــــب


خوصي لويس غونثاليث (بويرتو ريكو)/ ترجمة: توفيق البوركي

خاص- ( ثقافات )

عندما استيقظ الكاتب، صبيحة ذلك الأحد، كان نور الشمس قد تسلل عبر النوافذ المواربة وغمر الغرفة بضيائه. انتصب الرجل جالسا على سريره، تمطّى وتتثاءب ببطء، ثم قام بعدها، انتعل خفيه ولفّ نفسه في رُوبٍ حريري أزرق أنيق وخرج إلى الصالة.
– لاورا..
– نعم يا سيدي. أجابه صوت امرأة شابة قادمٍ من مطبخ في أقصى المنزل.
– أين الجريدة؟
– على الطاولة بالقرب من الكنبة يا دون لويس.
جلس لقراءتها قبل أن يأخذ حمامه الصباحي، لكن عينيه المثقلتين بالسهاد لم تُسعفاه لمواصلة القراءة. أنبأ الخادمة بما يريد تناوله في وجبة الإفطار، ليتجه بعد ذلك نحو الحمّام والمنشفة حول عنقه.
استغرق وقتا طويلاً في الاستحمام، يتسلّى بمنظر رغوة الصابون البيضاء تتكاثف كلما قلّب قطّعة الصابون بين يديه. بعد أن نشّف جسده، حلق ذقنه بدقة وإحكام، وهو يتأمل شاربه الأشيب وقد بدا له أنيقا إلى أبعد الحدود. في الأخير وضع قليلاً من الكولونيا بين راحتيه ودلك وجنتيه برفق.
جلس إلى المائدة بعد أن ارتدى كامل لباسه، فقدّمت له الخادمة كأسا من عصير التُرُنج، أعقبته بطبق من البيض المقليّ مع شرائح فخذ الخنزير المملّح، وبعدها كوب قهوة بالحليب ( مملوء عن آخره كما يُحب) وخبز محمص مع مربّى الخوخ.
أشعل سيجارة، عندما قدمت الخادمة لتنظيف المائدة، تابعها ببصره في أثناء عودتها إلى المطبخ. كانت شابة خلاسية في العشرينات من عمرها على أبعد تقدير، تمشي وردفاها المكتنزين يهتزان في تناغم دونما قصد.
لم يستطع كاتبنا كبح جماح الاستظهار الشعري فأنشد:
هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً
لا يُشْتَكى قِصَرٌ مِنها ولا طُولُ
يا له من شاعر زميلي هذا!! هذه مواضيع عادية لا ضير منها في مناسبات كهذه. لكن الإيقاع ذا معنى واختيار الكلمات كان صائباً.
عندما عادت الشابة إلى المائدة تحمل مَنْفَضَة للسجائر، أطفأ دون لويس سيجارته في الفنجان وأمسك الفتاة من يدها:
– لاورا..
كانت ردّة فعل الفتاة غريزية، في محاولة ضعيفة منها لتخليص يدها من قبضة السيّد.
– ماذا هناك؟ تساءلت وفي صوتها نبرة احتجاج.
– لاورا، أنا لم انتبه قطّ… أريد أن أقول بأني لم أنتبه إليك بشكل جيّد. هل تعلمين بأنك جميلة جدّا. 
– أوه، دون لويس لا تقل مثل هذه الأشياء بحق العذراء. قالت ذلك وهي تحاول سحب يدها لكنه لم يُفلتها.
– لم لا، ما دمت أقول الحقيقة؟
– ليس الأمر كذلك يا دون لويس، دعني أذهب.
أحاط الرجل خصرها بذراعيه وهو يقول: “لاوريتا -وجانب من وجهه يتحسس نهديها النافرين- هيّا إلى غرفتي، لن نتأخر كثيراً.
أفلتت الشابة من قبضته أخيرا.
– دون لويس!!!
قام الرجل واقفا.
– تعلمين أن سيدتك في الخارج عند إحدى قريباتها، ولن تعود إلا في صباح الغد. هيّا لبي طلبي، انظري سأُقدِّمُ لك هديّة.
غطت الفتاة وجهها بكلتا يديها، وذهبت تنتحب إلى المطبخ، بينما بقي هو واقفا إلى جانب المائدة، وقد أحسّ بشكل مفاجئ بنبض الدم في صدغيه.
– يا للقروية الجاهلة، قال، سأحاول معها خلال الأيام القادمة، وإن لم تذعن فالشارع في انتظارها وانتهى الأمر.
ألقى نظرة إلى ساعة يده، كانت عقاربها تشير إلى التاسعة والنصف، عبر النافذة لمح زرقة السماء الصافية، وأشعة الشمس تنعكس على الأشياء داخل الغرفة فتخُط رسوما غريبة.
أشعل سيجارة ثانية، واقتحم غرفة المكتبة (كانت في الأصل مخصصة للأطفال الذين لم يُرزق بهم، ومع توالي الأيام بدأت الكتب تغزوها شيئا فشيئا)، وأغلق عليه الباب بالمفتاح، طاف ببصره على الرفوف الممتلئة بالمجلّدات، وتنفس بعمق، شأن من كان في معبد، فشعر بشيء من الارتياح، كما العادة، لدى رِؤيته للمجموعة الخاصة بكلاسيكيات الأدب الاسباني، التي كانت في السابق في مِلكية صديقه الصحفي الكبير فرانسيسكو سالاس.
ففي اليوم الذي كان يحتضر فيه، بعد مُضي أشهر من المرض، ذهب لعيادته، لكن سالاس لم يعد يستطيع التعرّف على أحد، وهكذا بقي بجواره في الغرفة لبعض الوقت.
لما همّ بالانصراف، قالت زوجة المريض وهي تغالب خجلها بمجهود باد للعين:
– المرض الذي ألّم بِبَاكُو** أتى على كل مدخراتنا، وأنا الآن في وضع يلزمني فيه مبلغ 80 بيزو لتأمين مصاريف الدفن.
حرّك الكاتب رأسه بلا مبالاة، وهي اللحظة التي اصطدمت فيها عيناه بالرف الذي صفّ عليه فرانسيسكو، بحُب كبير، مجموعة كلاسيكيات الأدب الاسباني.
– سيّدتي يبدو أن بمقدوري مساعدتك.
– لا أدري كيف أشكر لك صنيعك، لقد كنت دائما نعم الصديق لباكو.
– أنا مستعد أن أدفع الثمانين بيزو التي تحتاجينها في مقابل امتلاك تلك المجموعة. ما رأيك؟
نظرت المرأة ناحية رف الكتب، وكانت تتأمل تلك الأسماء المنقوشة بالذهب على كعوبها المتقنة التغليف، ثم غمغمت: 
-لكن هذه المجموعة كلّفت حوالي 1000 بيزو، وهي كما ترى في حالة جيدة، وأنت تعلم أن فرانسيسكو…
مدّ الرجل يده إلى قُبعته، كإشارة على انتهاء الزيارة، فسارعت المرأة إلى الموافقة:
– حسنا يا دون لويس، أمام وضع كهذا…
قال، وهو يعُدّ الأوراق المالية داخل حافظته قبل إخراجها:
– فيما بعد سأرسل من يأتيني بالكتب.
(لم يكن يعلم، ولن يعلم أبدا، أنه في تلك اللحظة كان يتحدث مع أرملة)
الآن يجلس الكاتب إلى مكتبه، وأمامه صورة لعمه الأعزب المتوفى، الذي ورث عنه ثلاث دور للكراء(مكنته إيراداتها من التفرغ للأدب)، وضع أمامه أوراقه البيضاء، ثم أمسك بالريشة وأسند رأسه على اليد الأخرى.
مضت نصف ساعة ولم يتمكن من كتابة جملة واحدة مُتّسِقَة، فقام من مكانه غاضبا، وأمارات الصداع النصفي بدأت تظهر عليه. أشعل سيجارة أخرى وبدأ من جديد في تفحص الكتب المصفوفة على الأرفف. قال في نفسه: “سأقرأ قليلا، ربما قد أشعر ببعض التحسن”.
عبر الشارع تتناهى أصوات مكتومة، بالكاد استطاع التمييز بينها: نداءات الباعة، زعيق منبِّهات السيارات، صراخ طفل…وفي اللحظة التي كان يتجه فيها صوب أحد الرفوف، سُمع داخل الغرفة بوضوح تام، دويّ عيارين ناريين، لكن سمع كاتبنا، الذي استغرق كليا في قراءة فقرة متناغمة في غاية التعقيد لمارسيل برُوست، كان غير قادر على إدراكه.
في الزاوية القريبة، التي لا تبعد عن بيت الكاتب إلا بحوالي 50 متراً، اصطفت مجموعة تضم عشرة رجال منذ الساعة السابعة صباحا، وجيوب سترات العمل التي يرتدونها، تبدو منتفخة بشكل غريب، مما أثار انتباه العدد القليل من المارة في تلك الساعة. 
كان أحد هؤلاء الرجال – وهو شخص نحيل، قصير القامة، لا تظهر عليه أمارات الشباب – ينتقل بين باقي أفراد المجموعة، متحدثا بصوت خفيض وإشارات محدودة، ورفاقه يُصدّقون على كلامه بإيماءات من رؤوسهم وأحيانا حتى دون النظر إليه.
الوقت يمرّ ومعه يزداد عدد المارّة في الشارع: نساء وصبايا في كامل زينتهن عائدات للتو من قداس في الكنيسة، خادمات خرجن لابتياع جريدة أو خبز للإفطار، رجال ذاهبون لمتابعة مباراة بيسبول وحماسهم الزائد يفضح انتماءاتهم، مرّت أيضا بعض السيارات في طريقها إلى بعض الفضاءات الخضراء أو باتجاه الشاطئ. أما العمال فبقوا حيثما هم غير آبهين بما يحدث.
حوالي الساعة التاسعة والنصف لاحت شاحنة محملة بالرجال قادمة من أقصى الشارع وكان برفقتها شرطيان لحمايتها، فانتشر العمال، الذين كانوا في زاوية الشارع، بعد تلقيهم أمرا ممن يبدو زعيمهم، وشكلوا حاجزا امتد من الرصيف إلى الرصيف. توقّفت الشاحنة في مواجهتهم، بعض السابلة أيضا وقفوا لمتابعة ما يجري:
كانت هيئة القادمين على متن الشاحنة مطابقة لمن كانوا متواجدين في الشارع. توجه أحد الشرطيين ناحية المجموعة الأولى:
– لنر ما الذي يحدث هنا؟
تقدم زعيم العمال بشكل سلمي:
– كلّ ما نريده، هو التحدث مع الرفاق هناك في الأعلى، وهذا شيء على ما أظن لا يخالف القانون.
أجاب الشرطي بعد لحظة تردد:
– إذا كانوا يودون الاستماع إليكم، فلنتحدث لكن دون خطابات، نحن على عجلة من أمرنا. لن نسمح بعرقلة السير.
-لا مشكلة، رد الزعيم، وكانت الشاحنة متوقفة على يمينه.
– حسنا، حسنا. هيّا فلتُنهِ الأمر بسرعة.
وكان العامل قد اتجه صوب المجموعة التي على متن الشاحنة:
– أيها الرفاق، إنهم يأخذونكم لتشغلوا الوظائف التي تركناها تلبية لنداء الإضراب، وقد استعانوا بحماية الشرطة ليُفلتوا من رقابتنا رغم أن اليوم عطلة.
أيها الرفاق، إذا بقيت هذه الوظائف شاغرة، فسيضطرُّ أرباب العمل للرضوخ لمطالبنا، التي هي في الأساس لقمة عيش فلذات أكبادنا.
تبادل الشرطيان نظرات سريعة شزرة، بينما واصل المتحدث كلامه:
– لكن لو حدث العكس، فسنبقى بلا عمل، وسنجد أنفسنا عاجزين أمام أرباب العمل. أيها الرفاق، أنتم أيضا عمال مثلنا، وإن لم نناضل متّحدين، سنظل طوال حياتنا نصارع الفقر. أيها الرفاق، ما يحصل لنا اليوم قد يطالكم غدا. فلتنضموا إلينا.
بدأ عمال الشاحنة يتهامسون فيما بينهم، في حين كان المرابطون في الشارع يصرخون:
– انضموا، انضموا…
– انزلوا يا رفاق..
تدخل أحد الشرطيين بشكل مفاجئ:
– إنكم تضيعون وقتكم، لا أحد منهم سينزل. تقّدم أيها السائق..
في تلك اللحظة، صاح أحدهم من الأعلى، وكان خلاسيا ضخم الجثة، خشن الصوت:
– أنا سأنزل يا هذا..
وقفز إلى الأسفل، حيث تلقّاه الآخرون بحماس كبير:
– ونعم العمل!!
– إلى الأسفل، هيّا كونوا رجالا..
عاد الشرطيان إلى تبادل النظرات الخاطفة، في وقت كان الخلاسي يصرخ في رفاقه:
– ماذا تنتظرون، هّيا انزلوا !!
على جنبات الشارع، بدأت زمرة من المتتبعين في التوسع شيئا فشيئا. كرر الشرطي أمره للسائق بالمسير، والذي صادف للتو زعيق أحد عمال الشاحنة:
-انتظر، أنا أيضا سأبقى.
كانت الشاحنة قد واصلت مسيرها، فكرّر العامل صراخه:
-توقف، سأنزل، اللعنة توقف..
تقدّمت الشاحنة اتجاه من يعترضون طريقها، فأُرغِمُوا على التنحي جانبا كي لا تدهسهم عجلاتها، وصراخهم متواصل في السائق والشرطيين:
-دعوه ينزل، دعوه ينزل !!
كان زعيم المجموعة التي بالأسفل يصرخ بدوره، وقد أخرج من جيبه حفنة من الحصى، سدّدها آمرا البقية:
– الآن يا رفاق.
وانهال وابل من الحجارة على الشاحنة، أجبرت حشد الفضوليين على الابتعاد بسرعة. توقفت الشاحنة بعدما أصاب الهلع سائقها الذي تمدد على أحد المقاعد الجانبية.
بدأ العمال في النزول من الحافلة على عجل، وقد حاول أحد الشرطيين منعهم، لكنهم أفلتوا أنفسهم وتشتتوا في كل الاتجاهات.
في تلك الأثناء، كان الشرطي الآخر قابعا وراء أحد رَفارِفِ الشاحنة، ثم أخرج مسدسه بتمهل وعيناه تبحثان عن زعيم المضربين. صوّب بتأنّ، ثم أطلق النار مرتين طق..طق.. 
أمسك الضحية بطنه فاغرا فاه، ثم خرّ بعدها على الأرض. فرّ الجميع بعد دوي الرصاصتين، في اتجاه الزوايا القريبة، ثم تقدم الشرطيان، وسط الشارع الفارغ، صوب الضحية. قام مطلق النار بتفحص الجثة وتحسسها بمقدمة حذاءه، فلم تبدر منها حركة.
-قتلته، قال الشرطي الآخر.
-إيه، لكن انظر إلى جيوبه.
بدأ الآخر في تفتيش الضحية دونما رغبة، فأخرج قطعا نقدية، ومنديلا أسوداً وبعض الحصوات ثم حافظة جيب قديمة، بها صورة امرأة، وبطاقة انخراط في عمال البناء، صادرة باسم أغابيتو أُليبُو، قبل أقلّ من عام.
– اذهب وأخبرهم بالحادثة، قال الشرطي الأول، فليس من مهامنا رفع الجثة.
بدا له، حينذاك، أن زميله وعيناه مصوبتين نحو الجثة، غير مستعد لتنفيذ الأمر، فسأله بغلظة:
– ما بك؟
– لا شيء، هذا الرجل…
– ما به؟
– لم يكن مسلحا.
– أ هذا ما اكتشفته الآن؟؟!! أخبرني، متى التحقت بسلك الشرطة؟
– منذ ستة أشهر.
– تخيّلتُ ذلك، ما ينقص أمثالك من الخريجين الجدد، هو حدث شبيه بما وقع خلال ذاك الأحد الأسود***، لتتعلموا كيف تتصرفون مع أمثال هؤلاء الغوغائيين. هيّا غادر المكان قبل أن يعود الناس للتجمهر هنا.
في تلك الأثناء توقفت سيارة من نوع بويك زرقاء اللون، كانت مارة عبر الشارع، كانت على متنها امرأة شابة. أطلّت برأسها من النافذة الجانبية، صرخت لدى رؤية الجثة، ثم غطّت عينا صبي أشقر كان في حضنها، يحاول بكل ما أُوتي أن يسترق النظر إلى الخارج، وقالت للسائق:
– واصل المسير يا خورخي، واصل..
بعد أن ابتعدوا قليلاً عن مكان الحادث، قالت:
– بحق العذراء، من المؤكّد أنه كان لصّاً.. يا إلهي.. وفي وقت مبكر كهذا..!! قريبا جدّاً لن نجد مكانا للعيش في هذا البلد..
وكانت أولى طلائع الذباب قد بدأت تجثم على وجه الميّت.
هناك في مكتبته، أعاد الكاتب المجلّد الذي انتهى من تصفحه إلى مكانه على الرّف، وكأنّ اللغط المتنامي من الجوار لم يُسبب له إزعاجا يُذكر. سطوة الغيظ، لا زالت تتملّكُه، في غياب موضوع تصلح الكتابة عنه، غمغم وإحساس داخلي بالعجز ينخره رويدا رويدا:
– اللعنة !! لم قُدّر علي العيش في بلد لا يحدث فيه شيء مطلقاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
*البيت الشعري لكعب ابن زهير من قصيدته الشهيرة “بانت سعاد”، وهو أقرب لمعنى البيت الذي ورد في القصة.
**بَاكُو: اختصار لإسم فرانسيسكو. 
***في إشارة لمجزرة مدينة بونثي، التي ارتكبها بلانتُون وينشيب الحاكم العسكري الأمريكي للبلاد بتاريخ 21 مارس 1937، ضد متظاهرين في مسيرة سلمية تنديدا باعتقال الزعيم الوطني بيدرو ألبيثُو كامبوس. وقد راح ضحية هذا التدخل الهمجي 19 قتيل وأزيد من 100 جريح.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *