أمجد ناصر
(ثقافات)
قصور في الصحراء؟ قد يبدو هذا غريبا بعض الشيء. فالقصور تقام، عادة، في المدن.
انها شارة المُلك وعلامة السلطان.. او رمز رفاه المدينة وقد تراكبت، بعد شبوبها عن الطوق، طبقا فوق طبق. لكن هذه الظاهرة الاردنية تجد تفسيرها في تاريخ المكان بوصفه طريقا اجباريا للتجارة بين اطراف العالم القديم. فمن الهند والجزيرة العربية كانت تتدفق سلع تلك الايام الي اوروبا، محمولة على ظهور الجمال، سالكة طريق التجارة القديم المسمى “الطريق السلطاني” أو “طريق الملوك”. تنسب قصور الصحراء الى الأمويين، ولكن هذا النسب، على ما يبدو، ليس سوى الحلقة الاخيرة (والازهى) في سلسلة المصائر الحضارية التي عرفتها هذه القصور. فالأبحاث الاردنية في هذا الشأن، وهي قليلة في كل حال، ترجع اصل معظم القصور الصحراوية الى العهد النبطي، ثم الى العهد الروماني بعد سقوط الحاضرة النبطية البتراء بيد الرومان في القرن الاول الميلادي، والغاية منها في كل العهود السابقة على الامويين واحدة: اقامة محطات استراحة (او قلاع عسكرية) على طريق التجارة وحمايته من القبائل التي كانت تغير على القوافل وتنهبها.
ومع مجيء الاسلام وقيام الخلافة الاموية، كان “الطريق السلطاني” قد كفَّ عن ان يكون شريان التجارة العالمية، واضمحلت الحواضر التي عمرت الاردن الجغرافي الحالي ردحا طويلا من الزمن. لكنه اكتسب اهمية استراتيجية جديدة في الصراع على الخلافة بين الامويين من جهة، ومَنْ التفَّ حول آل البيت من جهة ثانية. فهو موطن عدد كبير من القبائل العربية التي تقاطر الطرفان على خطب ودّها، حتى انه يقال ان ميسون زوجة معاوية بن ابي سفيان، صاحبة القصيدة الشهيرة التي تسببت في طلاقها، هي بدوية اردنية.
ولفهم الاهمية الحيوية لهذا المجال يكفي أن نذكر أن الدعوة العباسية انطلقت من منطقة “الحمُيمة” في جنوب الاردن.
الصراع على تأليف قلوب القبائل واستمالتها ليس، على الاغلب، سوى سبب واحد لاعادة الاعتبار للصحراء وقصورها. فالامويون الذين اصبحوا، في اعوام قليلة سادة العالم القديم واستقروا في عاصمتهم الامبراطورية دمشق، ظلوا يحنون الى الفضاء الاول الذي انطلقوا منه: الصحراء.
هكذا استعادت الصحراء الاردنية بعض اهميتها السابقة، فأعيد ترميم قصورها القديمة او انشئت قصور جديدة فيها ولكن لاغراض اخرى غير تلك التي انشئت القصور القديمة من اجلها، فصار بعضها اشبه بـ Health Farm في ايامنا، او مجرد اماكن للهو والقصف اللذين، ربما، لم يكن خلفاء بني امية قادرين على ممارستهما في عاصمة الخلافة ، وهذا ما تعكسه المرافق الجديدة التي لم تعرفها هذه القصور سابقا، وكذلك الرسومات التي تزين جدران بعضها، خصوصا درَّتها: قصر عمرة.
يتحدى هذا القصر – الحمام الفهم الشائع في خصوص تحريم الاسلام الفن التجسيدي، وتصوير البشر. فالتحريم، الذي لا يسنده نص قطعي، قد يتعلق بالأوثان وما تنطوي عليه من معان دينية سابقة على الاسلام، وليس الغايات الجمالية التي يهدف اليها العمل الفني.
لا يبدو قصر عمرة ، في عهده الاموي، قلعة، فتصميمه ومرافقه الداخليان يعطيانه شكل الحمام، رغم ان مظهره الخارجي لا يعكس، ابدا، ما يمكن ان يكون عليه من الداخل. فهو ذو شكل قببي بسيط بينما داخله يشع بالفريسكو الملون الذي قد يكون الاول من نوعه في الاسلام.
كل جدرانه وقببه مزينة بالرسومات، وهي ليست اية رسومات.
المثال الاول علي ذلك تلك اللوحة التي تراها وانت تدلف الي ردهة القصر وتصور خليفة (هل هو الوليد بن عبد الملك باني القصر؟) جالسا على عرشه، فيما على الجدار الجنوبي هناك لوحة لستة ملوك من رجالات تلك الايام تمكن الباحثون من تحديد هوية اربعة منهم هم: رودريك ملك القوط (اسبانيا)، كسرى ملك الفرس، النجاشي ملك الحبشة، والامبراطور البيزنطي.
الاثنان الباقيان يعتقد انهما يصوران امبراطور الصين وملك الترك .
هناك رأيان حول دلالة هذه اللوحة الغريبة المرسومة على جدار حمام في الصحراء الاردنية، الاول يقول ان الخليفة الذي امر برسمها (الوليد بن عبد الملك) اراد ان يصور نظراءه في حكم العالم يومذاك.
انه ملك كبير مثلهم.
يحكم رقعة من العالم أكبر مما لديهم.
اما الرأي الثاني، وهو قد يكون الأرجح، فيرى ان اللوحة تصور الملوك الذين هزمهم المسلمون حتى تلك اللحظة.
ولكن ماذا بشأن امبراطور الصين وملك الترك (لا ادري من هو المقصود بذلك) اللذين لم تصل ارضهما خيول المسلمين؟
لم اقع على تفسير مقنع حول ذلك.
ولكن لعلها نوايا الخليفة الاموي الذي كان يأمل ان تضم مملكته، الأوسع حينها في العالم، ارضهم.
اما المثال الثاني الذي تقدمه لنا لوحات الفريسكو في القصر فهو للرغد والرفاه والمتعة.
انها الاعمال التي تصور نساء عاريات مستلقيات في لوحات الفريسكو تعكس ما يمكن ان تشاهده في قصر روماني، ولكن بين هاته النساء هناك واحدة عارية ما فوق الجذع ذات مقاييس (ابعاد) في الرسم تكاد تنتمي الى زماننا. ولكن لم تكن لوحات هذا الخليفة “الابيقوري” كلها عن القوة والصيد والحسيّة بل انه لم ينس أن يرسم تصوَّره للجنة!
* شاعر وإعلامي من الاردن