كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

(ثقافات)

كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

 

* د. خالد السلطاني

قليلة نوعا ما الكتب المؤلفة التى تتناول احوال العراق معرفيا وتاريخيا واجتماعيا، وسياسياً والاقل منها تلك التى تتحدث عن الاحوال ذاتها زمن الديكتاتورية. وهو امر يؤسف له، طبعاً، لما يزخر به هذا البلد من احداث اثرت عميقا على مصائر ناس عديدين سواء الساكنين في حدود العراق ام في خارجه القريب واذ تحدثنا عن الفترة الاخيرة من تاريخ هذة البلاد العريقة، فاننا لا نجد ثمة ادبيات كثيرة تتعاطي مع تلك الحالة، رغم صنوف الالام والمحن والفواجع والمعاناة الكثيرة والمتعددة التى صادفها العراقيون ووقعت على رؤوسهم في العقود الاخيرة (عدا بعض الكتب القليلة مثل “جمهورية الخوف” لكنعان مكية، الذي نشر كتابة سنة 1989، باسم “سمير الخليل” باللغة الانكليزية وترجم لاحقا للعربية ونشر باسم الكاتب الحقيقي سنة 2009، وكتاب المعمار رفعة الجادرجي وبلقيس شرارة، وهو “جدار بين ظلمتين” الذي صدر سنة 2003، وغيرهما من الكتب الجادة الاخرى، التى تناولت سلطة الاستبداد وشرحت الديكتاتورية ووسائلها القمعية). معلوم ان وجود مثل تلك الكتب ونشرها على نطاق واسع، يعد ظاهرة ايجابية (..وضرورية ايضاً!) لجهة توثيق احداث المرحلة التى مرت بها البلاد، كما ان حضورها في المشهد الثقافي يعمل بمنزلة “اجراس” تنبيه لتفادي تكرار تلك العذابات مرة آخرى. على ان كتاب “في حديقة الملك: سيرة مكان” <الذي نعرض له في هذا المقال> (والصادر في 2016، بيروت، 266 صفحة من القطع المتوسط) لمؤلفتة “ميادة العسكري” (1964 -2015)، لا يدعي لنفسه الغوص عميقا في الشأن السياسي العراقي ومشاكله الكثيرة والمعقدة، لكنه مع هذا اراه من الكتب الممتعة والنادرة التى تناولت المرحلتين الاساسيتين من تاريخ العراق: البداية والفترة الاخيرة.

ميادة العسكري

ومع ان كتاب “ميادة العسكري” هذا، لم يتضمن فصلا محدداً يتناول الفترة الاخيرة زمن الديكتاتورية، الا ان تلك الفترة تحضر في ثنايا السرد، كما ان شخصية الكاتبة و”اسمها” يشيان بذكر تلك المرحلة الاليمة من تاريخ العراق. فالمؤلفة، كما هو معروف، اعتقلت زمن البعث الصدامي، لاسباب واهية، وكانت مأساتها مع مأساة اخريات موضوعا لكتاب صدر، اولا في الانكليزية، بعنوان “ميادة ابنة العراق” (2004) Mayada, Daughter of Iraq لمؤلفته “جين ساسون” Jean Sasson ، ثم صدر، لاحقا، في بيروت بالعربية سنة 2014 ونشرته “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر” (وهي الدار ذاتها التى نشرت كتاب ميادة “في حديقة الملك”). يتحدث كتاب “ميادة ابنة العراق” ويروي بفصاحة مؤثرة حادثة اعتقال ميادة العسكري مع آخريات في سجون المخابرات البعثية، حيث شغلت ميادة وسبع عشرة أمرأة زنزانة رقم 52، وتعرضن لأشرس انواع التعذيب الجسدي والنفسي والاستباحات باشكالها كافة . و”قد سردن كيف تم اعتقالهن واي تهم وُجهت إليهن، وماذا راين وسمعن في أقبية الامن العراقي: رجال يغتصبون أمام زنازين النساء؛ جلادون ضخام يتولون الصفح والركل وتحطيم الاعمدة الفقرية؛ غرف مجهزة خاصة بالتعذيب الليلي. وقد تمكنت جين ساسون من سرد وقائع قصة ميادة العسكري ونساء الظل اللواتي شاركنها زنزانة الامن العام تلك. وبحكم خبرتها القوية في نقل صورة الحدث ليشعر القارئ وكأنه يعيش المسرد له لحظة بلحظة. كما حصد الكتاب مبيعات هائلة في العالم أجمع عند صدوره سنة 2004″.
يتضمن كتب ميادة العسكري (وهي صحفية عراقية عملت في بغداد وعمان ودبي، مولودة في بيروت لوالدين عراقيين، وهي ام لبنت وولد، كما انها حفيدة “جعفر العسكري” (1886 – 1936)، الذي يعتبر مؤسس الجيش العراقي ورئيس وزراء سابق، من جهة الاب “نزار العسكري” ، مثلما هي حفيدة ايضا لساطع الحصري (1879 – 1968)، وزير المعارف في حكومة فيصل الاول في سوريا، وواضع المناهج التربوية والتعليمية في العراق وسوريا، من جهة الام “سلوى الحصري”)، يتضمن كتابها نوعا من سرد لاحداث ووقائع عراقية (بغدادية، على وجه الخصوص!)، مرت بها وعايشتها الكاتبة. وهذا السرد لا يعتمد على تسلسل “كرونولوجي” للاحداث وتعاقبها زمنياً، بقدر ما يتناول سيرة “مكان” زاخر بمعالم وشخصيات، ومواقع، وحالات وحتى افكار تستلها من ذاكرتها المترعة بالاحداث وتروي وقائعها بحرية، مسطـّرة اياها بكلمات مفعمة بالحنين والوجع الشديدين لمآل ذلك المكان واحداثه المأساوية!


ان ما يسم كتاب ميادة العسكري، او ما يمكن ان توصف به سردياته المتشعبة، بصورة عامة، هو نوع من حب عميق للمكان؛ المكان الحميمي الذي نشأت به وعاشت فيه اجمل سنين حياتها. واذ تدرك ان اسلوب حياتها وحياة افراد عائلتها المتميز والمتع المتحققة من ذلك الاسلوب هما نتاج عمل ناس “مؤسسين” لهذا البلد، الذي اسمه العراق (وبعضهم اقرباء لها ومنهم افراد في عائلتها)، فان ذلك يهبها نوعا من فخر وامتنان يجعلها راضية عن نفسها ويحملها، في الوقت ذاته، مهام الدفاع عن سمعة اولئك الناس/ الحكام ومكانتهم الاجتماعية والسياسية.
تتحدث “ميادة”، عن “بيت العائلة” في حي “العيواضية” (<العلوازية>، بحسب نطق النخبة، التى تتحدث بالعثماني، تلك المنطقة الجديدة الواقعة شمال العاصمة، التى أُعتبرت اول “خروج” لبغداد من سورها، إبان تأسيس الدولة الحديثة، مثلما فعلت بخروجها من ذات السور جنوباً عند منطقة البتاويين)؛ تتحدث بعذوبة شديدة والفة حميمية عن تلك “الدارة” الواقعة في شارع سُمي باسم جدها “شارع العسكري” لوجود بيت الاخير مع بيوت اعمامها، ايضاً، فيه. وهي من خلال ذلك الاستذكارـ تستدعي الى ذاكرتها مدينتها التى تحب وتعرب عن “عشقها” الدائم لبغدادها التى تركتها مضطرة، كما “تركها” كثر من العراقيين بدواعٍ مختلفة، تلك المدينة التى لم تنصفها الظروف مثلما لم تنصف سكانها “البغادة” المولعين بها وبامكنتها الحميمية. تكتب ميادة العسكري بهذا الصدد من ان اسم” بغداد.. محفور في روحي!”، وتضيف “بغداد والقداح ونوارس النهر وشارعنا المطل عليه..أمور أكاد ألمسها بأطراف أصابعي كلما اشتد بي الحنين إليها..هي التى لم تبارحني ولم أبارحها، كأن فراقي عنها قبل ساعات!.. هي الحاضرة في النفس دائماً.. بغداد .. الهوية الأجمل ..والبيت الأرحب”! (ص. 17).
في الكتاب ثمة شذرات لذكر نساء بغداديات مثل نهي الراضي وصبيحة الشيخ داود، وآخريات قَطَنَ تلك المدينة، لفترة زمنية مثل “الخاتون” ميس بل وثيا بورتر، او قمن بزيارات عابرة لها امثال ميري كنج، وجين ساسون وليز كلارك، وطبعا ثمة اشارات عديدة الى “سلوى الحصري” والدة المؤلفة. وعنها تكتب ميادة “..لم تكن أمي فائقة الجمال، لكنها كانت جذابة وأنيقة للغاية، وفوق هذا وذاك، كانت مائدة طعامها متميزة ورائعة، وعلى الرغم من انها لم تتعلم فنون الطهو حتى اواخر أيام حياتها، فإنها كانت تنظم مأدبتها بشكل رائع وكانت تدير منزلنا بدرجة عالية من الكفاءة…” وتشير في مكان آخر، بان “سلوى تخرجت من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1947، يوم كان في كل صف عدد قليل من الطالبات العربيات، وواصلت دراستها العليا في العلوم السياسية عقب التخرج في جامعة أكسفورد”.
واستثمر مناسبة ذكر “سلوى الحصري” هنا، لاتحدث عنها ايضاً، بسرور، وعن شخصيتها الجذابة والمتنورة.. اذ تعرفت عليها عن طريق الصدفة، ووجدتها ذات ثقافة عالية ورصينة، أهلتها لان تكون احدى مثقفات الشرق الاوسط البارزات. ففي مطلع الثمانينات، عندما كنت استاذا في قسم العمارة بجامعة بغداد ، اقتضى ان اقوم بتصوير بعض مبانٍ لنماذج العمارة العراقية، استجابة لمتطلبات بحث علمي كنت اعده وقتذاك. وقد زودتني إدارة كلية الهندسة بكتاب الى وزارة الثقافة للحصول على موافقتها على التصوير (وكان ذلك امرا معمولا به اثناء زمن الديكتاتورية. والعريب ان هذا الامر لايزال، مع الاسف، ساري المفعول لحين الوقت الحاضر، من دون اي مسوّغ منطقي يبرر وجوده خصوصا بالوقت الراهن، حيث تتنتشر وتتوسع وسائط التكنولوجيا الحديثة). لا احد في وزارة الثقافة اخذ على عاتقة مهمة اصدار مثل هذا التصريح. وقد وجد احدهم بان دائرة السينما والمسرح هي المخولة باعطاء تلك التصاريح فالامر يتعلق بـ “التصوير”! وعندما ذهبت الى هناك، تبرم المسؤول واعرب، امامي، عن عدم فهمه لماذا هو بالذات عليه ان يمنح مثل هذا التصريح و”يتحمل” تبعاته. ولكي لا يزودني بمثل هذا الكتاب، وجد من المناسب ان <يوجهني> الى جهة اخرى، هي مديرية السياحة، فالامر يتعلق اخيرا بالتصوير لامكنة “سياحية”! واضطررت للذهاب الى هناك، وانا في حيرة من امرى، كيف يمكن للبلد ان يتطور، في الوقت الذي يضع البعض شتى العراقيل امام الباحثين ويزيد من احباطهم “بابتكار” اوامر غير عقلانية وغيرمعقولة مهمتها الرئيسية تكثيف الرقابة الامنية وجعلها حاضرة في كل حين!

سلوى الحصري
سلوى الحصري

عندما وصلت الى دائرة السياحة ارشدوني العاملون بضرورة مقابلة رئيس الدائرة، وكانت في حينها “سلوى الحصري” ذاتها. وبعد ان قرأت منطوق الكتاب المرسل، قالت، وبصوت عال ومن دون ان ترفع عينيها نحوي “اذن لو كوربوزيه! ترغب بتصوير عمله! اليس هو القائل” <الشقة، ماكنة السكن>!” عندها نظرت اليّ، وانا في ذهول مما اسمع! يتعين التوضيح بان ما تفوّهت به هذه السيدة من كلام، ليس بغريب عليّ، فانا استاذ مادة “نظرية العمارة” في القسم الذي ادرّس فيه، ولطالما حدثت طلابي عن لو كوربوزيه ومنتجه المعماري، وبالاخص منطوق هذة الجملة، التى نطقت بها هذه السيدة، وتأثيرها على مسار عمارة الحداثة في العالم اجمع! ولكن ان اسمع هذا من سيدة عراقية تشغل منصبا في السياحة، واعرف بانها غير معمارية؛ فهذا امر لم اتوقعه، وكان بالنسبة الي! مفاجأة فعلاً، وغير منتظرة اطلاقاً. اذ ربما اقبل احتمالية بان يردد البعض اسم المعمار “لو كوربوزيه”، قد يكون هذا امرا مقبولاً. ولكن ان ينطق احدهم بتلك الجملة المهنية المثيرة، فهذا جديد تماما عليّ، ولم اتكهن به بتاتا! هكذا كانت “سلوى الحصري” المثقفة والمتعلمة والمتنورة، هي التى يرد اسمها ونشاطها مراراً في كتاب “ميادة” كانسانة مولعة بالثقافة، والتمتع باسلوب حياة راقية بكل معنى الرقيّ، الدال على نهضة البلد وتقدمه!
في نصوص كتابها، تذكر ميادة العسكري تنويعات المطبخ البغدادي و”اكلاته” التى اشتهرت بتحضيرها “نخبة” بغداد، كما تذكر ايضا الكثير من الانشطة الاجتماعية التي وسمت الحياة البغدادية بطابع خاص، ظلت في ذاكرة “اهلها” البغادة (محفورا بها)، كما تصف ميادة الاحداث التى مرت بها وكانت شاهدة عليها. انه نوع من اسلوب وسلوك حياة خاصيّن، كانا سائدين في المجتمع البغدادي المتنور والمتطلع نحو المستقبل. ومع ان “السرد” التى استقته المؤلفة “ميادة العسكري” لكتابها ، اعتمد كثيراً على “لقطات” حيوية وحياتية مستلة من السيرة التى تتحدث عنها، وهي “سيرة المكان البغدادي”، فان تلك اللقطات المبثوثة في ثنايا كتاب “في حديقة الملك” يمكن لها ان تكون ايضا .. “سيرة وطن”؛ ذلك “المكان” الذي كان، يوماً ما، مترعا بالامال والتمنيات بمستقبل واعد، لكن آماله اجهضت بصورة مأساوية، وغير متوقعة اطلاقاً. ولعل تلك “اللقطات الحياتية” الفاجعة من سيرة المؤلفة” ذاتها، الواردة في الكتاب، تدلل على ذلك المصير التراجيدى، الذي وجد الوطن ..ومواطنيه انفسهم مبتلين به!

 

  • عن إيلاف اللندنية

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *