“حجر الورد”


*حسين البرغوثي

( ثقافات ) 

كان الشاطيءُ حروفاً مكتوبةً للتجارةِ بها، ولم اكن أملكُ لغةً أخرى، “فإن الأرض توَرَّثُ كاللُّغة!”وأحزنني السّمَكْ، كان القمرُ أميلَ للإزرقاقِ الكالحِ الذي يقتربُ بعد غسلهِ من الفضّةِ الباهتةِ، ولا صوتَ هناك، سوى صوتُ ريحٍ ذهنيةٍ، ولا موسيقىً ولانحتْ، وكان الشاطيءُ يشبهُ أرضاً من الأرابسك، ساجيةً كمرآةِ رخامٍ، مزينةٍ بكتاباتٍ عربيةٍ كوفيةٍ وغيرِها، وبوردٍ في غايةِ الصفرةِ، وهندساتٍ زرقاءِ وخضراءِ، كأنّني أدخلُ بدايةَ اللهِ، وأما البحرُ فعاديُّ البحريةِ.أكان هو يدافعُ عن نبعٍ أم عن رخامْ؟ وفي وسطِ البحرِ جزيرةٌ مشمسةٌ بعد مطرٍ ناعمٍ، فيها صنوبرُ العزلةِ وسنجابٌ بنيٌّ طويلُ الذيلِ مذهولٌ بالفيءِ يأكلُ ما أنبتتهُ الأرضُ، هل كان هذا السنجابُ قلبي، أم مجردُ وهمٍ يشيرُ إلى لذّة؟ لا أدري، فكمـا قلتُ لك، كانت الإشارات عن قدومِهِ تكذبُ حيناً وتصدقُ حيناً، والقمرُ بأربعةِ ألوانْ.وفجأةً من الأفقِ رأيتُ رجوع الأساطيلِ القديمةِ، ونساءً بصنادلِ جلدٍ لها أحزمةٌ كالحةٌ تلتفُّ على أفخاذهنَّ، يلبسنَ بياضاً يُظهرُ أكثرَ مما يخفي، محارباتٍ ربما، بأقواسٍ وجُعَبِ سهامٍ ومشاعلٍ وسعفِ نخلٍ، ورأيتُ خلفهنَّ رجالاً مفتوليْ العضلاتِ، لفحتهُمُ شمسُ الذكريات المختفيةِ، نزلوا يتنادونَ كأمبراطوريةٍ واسعةِ الأرجاءِ تخفي مطامعها بحبِّ الإستطلاعْ.
ورأيتُهُ هو بينهم، الوحيدُ الذي يلبسُ لِبْساً عادياً، بمعطفٍ وقورٍ وقديمٍ، ويدخّنُ الغليونَ، أهلاً، قالَ لي ، منحنياً نحو جهة الإفتراقِ، سألتُ هل انفصلتَ عن القطيعِ؟ قال بأن حرفَ النونِ في وسطِ “أنا” هو بدايةُ ونهايةُ “نحن”، وهو يفضلُ الحاءَ التي تشبهُ الطوطمَ. ولم يكُ يدري بوجودِ دياناتٍ توحيديةٍ، ما عدا ديانةِ أخناتون، فقال بأنه.. وضحك. وقالَ جاء “من بلدٍ تتاجرُ ببضاعةٍ غريبةٍ: بتوابيتٍ فيها حروف” قلتُ في ساحلِ فينيقيا تجارةٌ أسوأُ بحروفٍ فيها توابيتْ، فضحكَ، غاسلاً وجههُ بالهواءِ والبحرِ تطهّراً واستغفاراً، قالَ “القناعُ الأوّلُ، هذا زمنُ القناعِ الأول”. ولم أفهمْ، ربما كان يتحدث عن رقصاتٍ طوطميةٍ، فيها الهنديُّ الأحمرُ والأخضرُ يؤمنُ بأن جدّتهُ سلحفاةٌ وأمهُ قوقعةٌ. قلت تبدو غربيّاً، تتكلّمُها بطلاقةٍ، وحدثته عن جمالِ اللغةِ في القرآنِ، قال “ربما بنفس المعنى الذي يتحدثُ الله لكم فيه بالعربية، هل اللهُ عربيّْ؟”
واعتبرتُ هذا إلحاداً، فنفى أن يكون مؤمناً، أو ملحداً، أو مثقفاً أو إلهاً، لكنه علّقَ بأن تجارتنا نحن العرب، قديمة، وسألني من أيةِ قبيلةٍ كنتُ، قلتُ من بني تميمٍ، فضحكَ، ربما عليّْ. وسجد على الرمل وقبَّلهُ. “الرملُ كَوْن”، قال.
ونَحتَ طوطماً دهَنَهُ بالأحمرِ والأزرقِ، له عيونٌ خشبيةٌ، واعتذرَ لأنه لا يستطيعُ نحتَ العينِ ذاتِ الجفونِ المعدنيةِ، وزرعَ الطوطمَ في الرملِ وقالَ “هذا ينفعُ في بني تميم” ولحقَ النساءَ وتركني في حيرةٍ. ولما ذهبَ بدأ الطوطمُ يتحركُ، ويصفِّرُ في الريحِ، ويغمزُني، خفتُ من العزلةِ ومنهُ، ومن البحرِ والقمرِ، وتمنيتُ لو أستطيعُ أن أرى الخشبَ خشباً، وهذه ليست عادةُ عَبَدَةِ الطواطمِ. فتعرّيتُ تماماً، معتقداً بأن ثيابي ملـــوثةٌ، وغرزتُ قدميَّ في الرملِ، معتقداً بأن جذوري راسخةٌ في روحي، وقبضتُ على سيفيَ الخشبِ، وفتحتُ عينيَّ بحذرٍ، حتى لا يفاجئني شيءٌ. وعندما كنتُ واثقاً من نفسي بالضبطِ بدوتُ كطوطمٍ آخر فقط، حتى أنني كنتُ الطوطمَ الوحيدَ في هذه الشواطيءِ الخاليةِ من المعنى، “ليتني أرى الخشبَ خشباً”، قلتُ. “عندما ترى الخشبَ خشباً تراني في وطني”، قالَ، وصوتُهُ كان صفيراً في الريحِ، ومرّتْ رؤيـــا في ذهني: رأيتُ سكارلتْ، زوجتي، تدورُ في غرفةِ النومِ، ليلاً، حاملةً قنديلاً، وشعرُها في هواءِ النافذةِ، بحثاً عن شيءٍ، ورأيتُ أنها تحتاجُ لكتفٍ تُريحُ عليه رأسَها لو لساعتين على الأقلِّ. الحياةُ مجموعةُ أشياءٍ صغيرةٍ وبسيطةٍ، ورؤياي صغيرةٌ وبسيطةٌ، وخَجِلتْ.
ورأيتُ قاراتٍ تسحبُها قواربٌ من ورقِ البُردى نحوَ الغروبِ في الهاويةِ، قاراتٍ مسكونةٍ بشاماناتٍ وغاباتٍ، ورماةِ سهامٍ، وعائدين من حربِ طروادةَ، وتجار نُخّاسٍ، ولا أرى إلا قاماتهم الغامضةَ تعبرُ في مدى الشفقِ كتشابيه شعريةْ. وتداعى الشعرُ كقاراتٍ، وتأخَّرتْ قواربُ فينيقيا، وكذلك الكلماتُ. “خيالٌ شرقيٌّ” وقال “إفتحْ يا سمسم ! خيالُك مغلقٌ كالبابِ إفتحْهُ!”. قالَ هناك “منطقٌ في النونِ وفي الخشبِ، وهناك أشباحٌ تعملُ في عرضِ الأزياءِ”. أغمضتُ عينيَّ لكي أرى الساحلَ الذي انزَرَعْتُ فيـه، أحياناً، قالَ، لكي نرى يجب أن نكفَّ عن الرؤيا. وهكذا رجعتُ مع الأساطيلِ إلى الرملِ، المستقبلُ تفسيرٌ آخر، قالَ، قلتُ، ومن هي سكارلت حتى تكونَ مستقبلاً لطوطمٍ مثلي؟ يا عبدُ، قالَ، أنت من وطنٍ لا يقتنعُ فيه خالقٌ بمخلوقاتِهِ، وصاحبُ الناقةِ فيه مُلْكٌ لناقتِهِ. وبكيتُ: كان الشاطيءُ يبدو منديلاً رمادياً ألقتْهُ هنا عرّافةُ القمرِ كي أرى شيئاً غيرَ ما يجبُ أن أراه، وكان البحرُ نرجسةً ضخمةً ممتدةً لكي تحجبَ الأفقَ أو تحوّلهُ في عينيَّ إلى شيءٍ غيرَ ما يجب أن أراه، وبدأتُ أحسُّ أن العالمَ وهمٌ، حالةُ روحِنا تقْلِبْهُ وتتقلّبُ معهُ، حرباءً تخفي نفسَها عن صياديها. “بدايةُ العشقِ يا عبدُ” قالَ. كان الساحلُ أسوداً كلوحةٍ بالفحمِ، وكنتُ أرسمهُ. “واللونُ نقدٌ للكلمة، ذوِّبِ الكلماتِ كملحِ البحرِ في البحرِ، وأرسمْ بالأزرقِ والشفقيِّ ساحلاً لروحِكَ”. قلتُ: اللسانُ نقدٌ للأعيِن أو تكملةٌ لها. قال أصمت وأنظر ! تلك بدايةُ العشقِ يا عبدُ، قالَ، وصوتُهُ كان ضوءَ قمرٍ متجمّدٍ بين النجومِ قالَ تحسّسْ جليدَ الصوتِ قالْ، وقدَّمَ صوتَهُ لي كنرجسةٍ في فمِ حصانٍ رخام. “حياةُ الصوتِ نرجسةٌ و أغنية”، قالَ، وفاضتْ الموسيقى الرخيمةُ حتى صارَ البحرُ سيمفونيــةً، قال العشقُ بدايةُ العشقِ يا عبدُ، قال ” شِمّْ النرجسَ يا عبدُ، فالعَبَقُ نقدٌ مغلقٌ أمامَ بوابةِ العطرِ”، الآنَ أكملتُ الرسالةَ فيكَ حتى يبدأَ اللفظُ الأقدسُ، يا عبدُ” قال “وتلك بدايةُ الذبذبة”
كنت أتلقّى وكان النهرُ يصبُّ فقالَ “الجذورُ لها أكثرُ من اتجاهٍ، كالبحرِ والنرجسِ” قال “توزَّعْ بين الحدائقِ من أصفهانَ إلى بِنْتِ جُبَيْلَ، وتركّزْ! فالإحساسُ بالتوزيعِ عِلمٌ يا عبدُ” قال “وأما التركيزُ فغيبٌ”. يا سيّدُ 
قلتُ له تاجرتُ في سوقِ بغدادَ، بالتمرِ حيناً وحيناً بالحريرِ، سلكتُ طريقَ القوافلِ حولَ بخارى وسمرقند، ولم أتجنّبْ سوقَ المألوفِ، ويا سيّدُ نحن ككلِّ الناسِ وجدنا التجارةَ بالذهبِ والدمِ فتاجرنا، ولنا أهلٌ وبلادٌ يا سيّدُ، نحزنُ مثل بقيةِ خلقِ اللهِ، ويؤلِمُنا أن الخطى تنفصلُ كأنهارِ الخرائطِ، ياسيدُ، وجدنا الحياةَ فعشناها ومن كُتبتْ عليهِ خُطىً مشاها، نحن هذا الغروبُ – الإناءُ وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ يا سيدُ، ولا يكلّفُ الله نفساً إلا وسعها، قال “كلُّ مدينةٍ مركبةٍ من مدنٍ عدةٍ، وكلُّ لوحةٍ بألوانٍ عدةٍ، هل تصرُّ على العيشِ في بغدادَ واحدة؟” قلتُ نعم. قال “هذا سببُ غربتِكَ عن سكارلت، إنها تحيـــا في بغدادَ أخرى”، وسألني عن أحوالِها، لم أدرِ أيَّةَ أحوالٍ سألَ عن.. أأحوالِ سكارلت أم بغداد؟
حاولتُ أتبعهُ وأحدد أصله وأمكنةَ إقامتهِ، وبحثتُ عنه، ماشياً على شواطيءِ بحرِ أيجةَ، متَّجِهاً نحو طيبة مصر، ووجدته، قال “لا أخيطُ الجثثَ مثل إيزيس ولا أعيدُها للحياة، ولا أقطعُ جسدَ الإله وأنثرُهُ بين القصبِ في مستنقعاتِ النيلِ لأحكمَ مصرَ كلها، ولا أسرقُ تراثَ مصرَ وأنسبهُ للإغريقِ، ولا أنا معنيٌّ بأن أحدِّدَ أين تبدأُ أثينا وتنتهــي الكرنك. أوديب رأى عندما فقأَ عينيهِ، ترون ما ترون وأرى ما أرى، يا عبدُ” قال. “يا عبدُ إن تذكرتَ نجومَ الوادي الميّتِ صارت ذاكرتكَ وادٍ غيرَ ذي زرعٍ، وخطاكَ حبالٌ تشــدّكَ، أحياناً، نحو ماضيكَ، وإسمُكَ خطرٌ على جسمكَ، غيّرْهُ، يا عبدُ” قال “العائلةُ سحرٌ أسودٌ، والأبُ والطائفةُ سحرٌ أسود، كذلك الطبقةُ والوطن، وكل سحرٍ أسودٍ يستهدفُ تشريطَ روحِكَ والسيطرةَ عليها كي تصيرَ وادٍ غيرَ ذي زرعٍ، يا عبدُ، الجسدُ أساسٌ، والوعيُ شهابٌ عابرٌ في أفقِهِ، لا تكن فظّاً معك ولا مع ما صاحَبَتْكَ من الكائناتِ، يا عبدُ، لا تَغرَقَنَّ في الحياةِ بحثاً عن أنثى، وأغرقْ في الأنثى بحثاً عن الحيــاة، وكل روحٍ ذكرٌ وأنثىً، فلا تنكر الأنثى التي فيكَ أو الذكرَ الذي فيك، وكلُّ حبيبٍ إشارةٌ لســـواهُ، نظرياتكَ يا عبدُ سحرٌ أسودٌ، وأراؤكَ حجارةُ شطرنجٍ، إفتح اللهَ ككتابٍ من المرايا وانظر نفسكَ كما تتجلى فيها.”
قــال. “أيها الطفل ماذا ترى؟”
“وكان التلُّ أكثر علوّاً من الكلامِ، وللحجرِ بكاءُ الأنبياءِ، أنحنى على زهرةِ الحجرِ، مسحَ غباراً شفيفاً فصار الحجرُ درجاً، رسمَ قوساً ودخلَ، طالعتهُ صبيةٌ مليحةٌ تمدُّ إليهِ ذراعيها، وعلى كتفيها تنسدلُ البحيراتُ القرمزيةُ، والبساتينُ المتصلةُ بنوافذِ السماءِ، لمحَ في عينيها باباً، رسمَ قوساً ودخلَ، فانهالتْ حولَهُ الحيواناتُ الزرقاءُ تحتكُّ بجسدِهِ، وتخترقُ قميصَهُ، للحيواناتِ قرونٌ طريةٌ تأخذُ شكلَ قناديلٍ وأصصِ أزهارٍ، وكانت في صدِرها طُرُقٌ، رسمَ قوساً ودخلْ، فتتقاطرَ حولهُ سربٌ من الشحاريرِ الفضّيّةِ تدسُّ مناقيرَها في ثنياتِ سروالِهِ المهلهلِ تخدشُ جبينَهُ بمخالبِها، وفي قَصَّةِ شعرِهِ تبني جسوراً، خاضَ في نهرٍ غزيرٍ من الزنابقِ فيما كان الدمُ الغريبُ حتى الوحشةِ يغطي مقلتيه، رسمَ قوساً ودخلْ، حتى وصلَ إلى حيثُ قادتهُ الحجارةُ…”
( الجواشن، قاسم حداد وأمين صالح )
أصغى وأطرقْ، حدّقتُ فيه: وجههُ لم يكن ثابتاً، حيناً كان يبدو مَصْنَعاً بقبابٍ ملونةٍ بالأخضرِ والأصفرِ والبنّيِّ تعلوها أعمـدةُ رخامٍ مربعةٍ يخــرجُ من نهايتِـهـــا
سعفُ نخلٍ أخضرُ، وحيناً آخرَ انفجاراً هندســياً، بلّورةً بألفِ وجهٍ، لوحةً تكعيبيةً، بملامحٍ من سطوحٍ وجنائنٍ مربعةٍ ومثلثةٍ ومستطيلةٍ صفراءِ وخضراء وزرقاءِ، ولا تتصاعدُ كحَبْكةِ دراما قديمة، ولا تتابعُ كنغمةٍ في الريحِ نازلةٍ إلى المغربْ. وأخيراً رأيتُهُ، عيناهُ فحميتـــان، فيهما بياضٌ حليبيٌّ بالغَ الصفاءِ تسافرُ في أفقهِ خطوطٌ من الصفرةِ الصافيةِ تتجمّعُ في الزوايا، تحت الجفنِ، مبللتانِ بدفءٍ يترغرغُ كالدمعةِ حيناً وحيناً يجفُّ، وحولهما، في المحجرينِ، تجاعيدٌ تنكسرُ حينَ يضحكُ، فتنخلقُ هندسةٌ تتشكلُ باستمرارٍ، فشعرتُ في عينيه بغابةٍ مطروشةٍ عروقُها حتى النصفِ بالأبيضِ، خلف عروقٍ مرشوقةٍ بالأصفر والبنفسجيّْ، تفضي نحو غروبٍ من موسيقىً ومستنقعاتِ قصبٍ خلفها المجهولُ. وشعرهُ فيه شيبٌ يُجْبِرُ على التأمّلِ في معنى العمقْ.
قال بأن الوحيَ بدأ بالنزولِ عليهِ في بدايةِ السنةِ الأربعين بعد الطوفانِ، وقبل سنةِ الثلجِ، حسبَ تقويمِ فلاحي فينيقيا، وقال بأن هناك شريطاً من النجومِ، بعرضِ عدّةِ أمتارٍ، يلتفُّ حولَ الكونِ كأسوارةٍ، أقدارُنا حُفِرَتْ فيها حَفراً، وتبدو كالطَّرقِ في النحاسِ الأحمرِ، وفي مرحلةِ الإلهامِ تقرأُ ما هو مكتوبٌ في هذا الشريطِ، فالنحّاتُ تنحتهُ قوةٌ أخرى، والمغنّي نايٌ في يدٍ غامضـةٍ تعزفُ عليه، والوعيُ قلمٌ في يدِ قوىً أعلى تستخدمهُ لكتابةِ مذكراتِها. وفي زمنِ الحصانِ الأسودِ يخرجُ العقلُ من كهفهِ، ويسيرُ كالسلحفاةِ تحتَ القمرِ الجبليِّ تبحثُ عن مساحاتٍ في الخارجِ تكفي للإقامةِ فيها، وأما في زمن الحصانِ الأصفرِ فيرجعُ العقلُ منهكاً تحتَ القمرِ المنهكِ فيدلُّهُ القلبُ على المركِزْ.ولم نفهمْ عليهِ، فقد كنا شِلّةٌ من تجّارٍ من طنجةَ وسمرقندْ وبخارى، نكلّمُ هذه الجاريةَ ونلغَزُ تلكَ، بأثوابِنا الموشاةِ بالذهبِ، وأحذيتِنا التي تشبِهُ قوارباً مرصّعةً باللؤلؤِ ولها عيونٌ من اللؤلؤ كعيونِ حرباءٍ بـــارزةٍ، ونتاجرُ بكل شيءٍ من الحريرِ حتى كنوزِ توت عنخ آمون، ونتّصلُ بالعصاباتِ في فيلم “المومياء” لتهريبِ آثار مصرَ، وعادةً ما كنا نجدهُ جالساً عند البوابةِ الشرقيةِ في ساعاتِ الغروبِ، حيث كلّمَنا عن نزولِ الوحيِ عليــهِ. سألناه عن الزمنِ في وطنهِ، قال بأن الروزنامةَ القمريةَ تتبعُ حركاتِ القمر، والتقويمَ الشمسيَّ يتبعُ حركاتِ الشمسِ، والتاريخَ الميلاديَّ حركاتِ المسيحِ، والهجريَّ حركاتِ محمّدٍ، وأما ساعةَ الظلِّ والرملِ، فتتبعُ حركةَ الرملِ والظلِّ على الرملِ وشمسِ الصحراءِ، فكلُّ زمانٍ يتبعُ مكاناً، وأنتم في زمن التجارةْ.
وسمعتُ صراخاً غامضاً فهرعتُ إلى قصرنا في أصفهان، فوجدتُ سكارلت جالسةً على درجاتهِ تحتَ القمرِ، وتقرأُ في الرملِ وتضربُ بالحصى، وقد صارت عرّافةً من عرافاتِ دلفى أو أوروكَ، وحيّرني التحولُ فيها فاستفسرتُ منها ولكن عبثاً، فلم تعد تجترُّ الماضي ولا معنيةً بتفسيرِ ما حدث، عندما صارتْ ترى ما سيصيرُ وأما ما صارَ فدائماً خطرٌ، قالت. لم تكُ هي هي، وكنتُ أبدو غريباً عليها، حتى أنها نسيَتْ كيف تعرّفتُ عليها و أين، وكان ذلك في طيبةِ مصرَ، وبدَتْ، جالسةً على درجِ الرخامِ، بثلاثةِ أو أربعةِ وجوهٍ، الأولُ أصفرُ والثاني أحمرُ والثالثُ أبيضُ والرابعُ أسودُ، فاحترتُ، قالت بأن القمرَ كان ربّةً أنثويةً قبلَ عصرِ الذهبِ الذي سيطرَ فيه العضوُ الذكريُّ على التاريخِ، شعرُها، لاحظتُ فيه ضرباتُ فرشاةٍ خضراءُ، ممزوجةٌ بصفرةٍ كالحةٍ وبأبيضٍ طبشوريٍّ، وكلما حاولتُ أركّزُ في عينيها شعرتُ بضربٍ من الدَّوَخَانِ، كانت لها أوجهٌ عدةٌ، أو هكذا شعرتُ، وتبدو وكأنها تصعدُ من البحرِ، وتتحكّمُ في حركاتِ المدِّ والجزرِ وسرعةِ نموِّ النرجسِ، قلتُ زارَها وبدأ يقلبُ عالمَها ويحرثُهُ ونويت على..لا أدري.. فلنقلْ نويت على..
وسألتُه ماذا فعلتَ بسكارلت؟ فتلفّظَ بكلماتٍ مغبَّرةٍ كمرآةٍ في إطارٍ من الأبنوسِ أمامَها شمعةٌ في كنيسةٍ قوطيةٍ رطبة. “سكارلتْ الأولى انتهتْ، وتلك بدايةُ الإلهامِ، يا عبدُ”، قال “انتقلتَ من التقليدِ إلى التجديدِ، كنتَ تستألفُ فصرتَ تستغربُ، من هنا فصاعداً الأشياءُ حرباءُ تتقلّبُ وتننقَلِبُ، وروحكَ حرباءُ أخرى تنقلبُ وتتقلّبُ معها، وقصرُك في أصفهان سجنُك وستهجرُهُ، سافِرْ، يا عبد” قال “قال الشيخ بن عربيّْ السفرُ ثلاثةٌ، سفرٌ منهُ، وسفرٌ إليهِ، وسفرٌ فيهِ، وهذا السفرُ فيه سفرُ الحيرةِ والتيهِ، وسفرُ الحيرةِ والتيهِ لا غايةَ له. فافهمْ: السَّفَرُ غايةُ السَّفَرْ”.
وفي الطريقِ إلى طنجةَ حلَقَ شعرهُ، ولبسَ عباءةً صفراءَ، وسحبَ ناقتهُ في الغروبِ، وكان البحرُ ساجياً والهواءُ ساخناً، واعتقدتُ بأنهُ يتْبعُ طقوساً أو فلسفةً خًفيّةً، ولما سألتُهُ قالَ أفعلُ ما يُريحُني، مظهرهُ نزوةٌ أكثرَ منه قيمةً، صدفةٌ أكثرَ منه ضرورةً، وقال “لستُ نبيّاً ولا إلهاً ولا فيلسوفاً ولا شاعراً ولا صاحبَ الناقةِ ” وهذا ما بدا لي بالضبطِ كفلسفةٍ، قالَ ” النادِرُ للنادرِ”.
وجلسَ تحتَ النخلِ والقمرَ وأزاحَ يدهُ فانمحى أفقٌ وأرجَعَها فتساقطَ تمرٌ كثيرٌ، وأشعــلَ ناراً، وخفتُ من البحرِ ومنهُ، وجههُ كان عباءةً سوداءَ، بحجمِ الأفقِ، كستارةِ مسرحٍ تنسدلُ، في داخلها شفقٌ بحريٌّ، ونوارسٌ وقواربٌ من حجرٍ، ويتكسّرُ مُصدِراً موسيقىً تشبهُ أوهاماً عدة، قال “الساحلُ هذا الساحلُ حلقةٌ في سلسلةِ الذهبِ المخفيةِ”، ورفعَ يديهِ للقمرِ الذهبيِّ كمن يصلّي وقال له “لا أستطيعُ العيشَ كظلٍّ لشيءٍ أو لأحد”. ونهضَ إلى ناقتِهِ وسحبَها وتركَني فتبعتُهُ، قال: “إبقَ هنا يا عبدُ إبقَ هنا وأحْذَرْني قبل أن تتبعني”. 
وحلمتُ بهِ وغرقتُ فيه. كانت فيه غاباتٌ تغري بهبوطِ الظلمةِ والعنفِ، ومطرٌ من الدمِ على شجرٍ مغسولٍ بالدمِ ناديتُ على الببغاءِ ذاتِ العينِ الحمراءِ، أنهِضي عالَماً من أنقاضِ عالَم، وأضيئي بعينيك طريق الآلامِ لأعودَ منهُ، لأعودَ منهُ. كررت الببغاءُ: أنهضي عالماً.. من.. عالمٍ لأعودَ منهُ لأعودَ منهُ لأعودَ منهُ…
أعطِني الحكمةَ والإستطاعةَ لتكمِلةِ الجملةِ، جُملةِ القولِ، وجملة الأشياء، فالجَمَلُ المحمّلُ بالوردِ إلى مكّةَ يقتاتُ على الشوكِ طوال الطريقِ أعينيهِ على أن يقتاتَ على الشوكِ طوال الطريقِ وأن… وحمَلْتُ أمتعتي وتبعتُهُ حتى وصلنا طنجة.
وزّعتُ ملامحي وتبعتُهُ، كبياضٍ يرغبُ في أن يصيرَ لوحةً تكعيبيّةً، كنتُ الأولَ في النفيِ والمنفى فصرتُ دليلَ القافلةِ العائلةُ أتركْ العائلةَ يا عبدُ قالْ. فمِلتُ عنهُ إلى عرّافةِ طنجةَ أستطلِعُ أمري، قالتْ: يا ولدي في أربعيناتِ عمـــركَ
سوفَ تتركُ وطنكَ إلى وطنٍ أجنبيّْ، ستغيبُ طويلاً، طويلاً جداً، تَنسى وتُنسى، وتَنفي وتُنفى، ولما ترجعُ رجعةَ أساطيلٍ قديمةٍ من بحرٍ قديمٍ جداً إلى بحرٍ أقدم منه، عندها سوف يبدو لك ماضيكَ أقدمَ من العملةِ التي بين يديكْ.
كان في طنجةَ استأجرَ بيتاً. وأما البيت الذي استأجَرَهُ على حافةِ المدينةِ في منطقةٍ متطرِّفةٍ، والذي يبقى مضاءً بشموعٍ ذهنيّةٍ خافتةٍ، خلفَ جزُرٍ متأخِّرةٍ، فكانت لهُ قوّةُ الحافّةِ نفسَها، إذ كان على أوّلِ الجرفِ، قوةُ شبابيكِهِ المفتوحةِ في آخرِ الليلِ رهيبةٌ، قوةٌ تشبهُ الإحساسَ بانعدامِ الجذورِ، وبأن الروحَ هواءٌ هائمٌ كالنمرِ في جبلٍ مهجورٍ من موسيقىً صوفيّةٍ، وكأن الشبابيكَ تطفو مخلّعةً على هديرِ البحرِ. لم أنمْ، وطغى عليَّ إحساسٌ غريبٌ بشيءٍ معلّقٍ في اللامكانِ، عندما دعاني إلى بيتهِ. كان يقفُ في آخر الكلامِ، ويغلي القهوةَ، وكأن التوتّرَ وطَنَهُ الأمُّ، مصرَّاً على أن يتشبَّثَ. والشجرُ يا إلهي كم كانَ مُظْلِماً !.
كنتُ قد سمعتُ عن منطقةٍ كهذهِ من أهلِ طنجةَ ومْليلَة قالوا بأن الأرضَ لها طاقةٌ توقظُ قوىً نائمةً في العمقِ، تبعدُ السَّمَكَ عن الشاطيءِ، وتدلُّ الطيورَ على إتجاهِ الرحلةِ في البحرِ، قوىً سحريةً تشبهُ الإتصالَ بمخلوقاتٍ لا تُرى وتساعدُ على الخلقِ، ويستحضرُها من يقدر أو يعتقدُ أنه يقدر على التحكم بما تستحضرهُ الشعوذةُ، وقالوا ايضاً لا ! هي قوى تشبه الإحساسَ باللاإقامةِ، أو برهبةِ الأماكنِ المقدسةِ، ولا أدري، قدرُكَ أن تحيا خائفاً، قال لي، وضحكَ، ومشينا على حافةِ الجرفِ، لم أرَ البحرَ ولكن سمعتُ الموجَ في العالمِ السفليّْ.
“إما أن تقبلَ العالمَ أو ترفضهُ”، قال، “القبولُ به ورفضهُ حالتا روحٍ”، قال، وثرثرنا كثيراً، ولا أنكرُ: أحسستُ بالطوقِ. ولحقتهُ للمطبخِ، كي أشربَ فنجانَ قهوةٍ، فلم أجدهُ، بل وجدتُ ورقةً كُتِبَ عليها: “قد لا أعودُ فاحتفظْ بالمفتاحِ”، ولم يزل هذا المفتاحُ معي، ثقيلٌ حداً، من حديدٍ قديمٍ، مربوطٌ بسلسلةٍ ضخمةٍ، وأعلّقهُ في عُنُقِ ناقتي، والضخامةُ لا تُغْري، كان مُعلمي في أصفهان، وهو شيخٌ من قُمْ، من أتباعِ جَلالِ الدين رومي، يقول: “لا شيءَ أثقلَ من هيجانِ الناقةِ في كابوسٍ، ولذا لا أمانعُ في حبِّ فراشةٍ بيضاءٍ، لا أدري لا علاقةَ بين حجمِ الشيءِ وبين حبنا له، فكرتُ في سرَّ عشقِ المصريينَ القدماء للكتلِ الضخمة: الأهرامات، مثلاً، وعِشقِ بيكاسو للنساءِ اللواتي يظهرنَ ككتلٍ لا تتزحزحُ، وللثيرانِ الأسبانيةِ، رُبَّما أن شيخي في قُمْ كان يحبُّ الفراشةَ البيضاءَ نتيجةً لخفّتها، من يدري، وكنتُ بين الهرمِ والفراشةِ،” 
حالات روحٍ، قالَ لما فاتحتهُ في الأمرِ روحٌ ! روحٌ ! روحٌ ! سئمتُ هذه الكلمةَ، قلتُ لهُ فضحكَ، وقالَ “لا مانعَ من استخدامِ لغةٍ توحي بما لا تقصُدُه” وودّعتُهُ “نصفُ السرِّ في المفتاحِ، قال، والباقي في البوابةِ”، وسحبَ يدهُ من يدي فلم أجدهُ، بل وجدتني قابضاً على بنفسجةْ.
كنا قبلَ أن يأتي، سكارلت وأنا، نسكنُ على حافةِ البحرِ في طنجةَ، في الضاحيةِ المألوفةِ، وكنا نعرفُ السكانَ هناك ونسكنُ لهم ونسكنُ معهم، وكانوا وكنا مثل بقيةِ خلق الله.
ودب داء الترقّبِ فينا جميعاً، وفي الضاحيةِ، فجأةْ. لم نعُدْ ننامُ، وصِرْنا نفتحُ الشبابيكَ على بحرٍ رماديٍّ، وقمرٍ متصلّبٍ في الريحِ، ونترقّبُ حدوثَ شيءٍ ما، وعيوننا مستديرةٌ كخواتمٍ صفراءِ، وكأنها رُسمتْ رسماً على ورقِ وجوهِنا، ونسمعُ صدى خطواتٍ ليست من الضاحيةِ، ولا من الذاكرةِ، بل من المستقبلِ، وكأن الضاحيةَ مطوّقةٌ بجيشٍ من خطواتٍ مشلولة.
وصرنا نشيبُ، رجالاً ونساءً، والصغارُ يشيبونَ قبل الرابعة، لا نضوجاً ولا كبَراً، بل من لعنةِ الترقّبِ، ولم نعد نستطيعُ النومَ في تلك السنة، ربما لأن الدولةَ بدأتْ بطباعةِ عملةٍ ورقيةٍ عليـهــا وجهٌ أجنبيٌّ من جهة، وصورةُ البحرِ من الجهةِ الأخرى، فصرنا نسهرُ في الشبابيكِ وننظرُ إلى جهةِ البحرِ، مترقبين حدوثَ شيءٍ ما، ولم يحدث شيء، وضمرتْ عضلاتُنا وشابَ شعرُنا ولم يحدث شيء، والقمرُ لم يعد يغيبُ، بل يتصلّبُ ويتكررُ، حتى شعرتُ بأنه أُلصِقَ بالذاكرةِ، والأشياءُ لم تعد تتغيرُ، بل تتنمّطُ وتستمرُّ في الوجود، كالمستحاثاتْ، ومع الزمن نسينا أكثرَ من لغةٍ، ورؤوسُنا تتدلى تعباً من الشبابيكِ كالسجادِ الإيراني الذي يتدلى من بلكوناتنا ليغسلهُ القمرُ. وعزوتُ ذلك إلى تغييرِ طرق التجارةِ نحو رأسِ الرجاءِ الصالح، مما حرمَ البحرَ الأبيضَ من موقعِهِ، وأكسبهُ هذا الخلاءَ الواسعَ فيه، بلا سفنٍ ولا تجارةٍ ولا جديدٍ البتة، موجُهُ يتكررُ وكلّهُ، وصرنا نغفو في القمر، ورؤوسُنا متدليةٌ كعناقيدِ الموزِ الصفراءِ، وصار النخلُ يميلُ على الشاطيءِ، تحتَ هواءٍ خفيٍّ، وكثرتْ الإشاعاتُ عن مطرٍ مختلفٍ، وعن سنواتِ إلهامٍ، وعن غرباء زرقِ العيونِ اخترعوا حصاناً خشبياً، وعن أغربةٍ سوداءِ تحطُّ على النخلِ قريباً. 
وأخيراً رأيناهُ يتسكّعُ على الشاطيءِ، ويدخّنُ غليونَهُ التركيَّ، ويصفّرُ أسماءَ نساءٍ عرفهنَّ في وطنهِ الأصليِّ، وكلما لفظَ إسماً حلّقَ الإسمُ فصارَ فراشةً ذهبيةً تطيرُ تحتَ قمرٍ قديم، أو طائرة مـن ورقٍ ملونٍ تصيرُ طيــوراً من الذهبِ الأخضرِ، جداً تلمعُ بحدّةٍ في الوعيِ. قلنا ساخرين: هذا هو جيمس جويس طنجة ! وعما قريبٍ سنرى مجلداتٍ عن اليقظةِ، مجلداتٍ متفككةٍ عن تجربةٍ مفككةٍ، وفعلاً في تلك السنة، في شباكهِ المضيء على الحافةِ، كنا نرى كتباً تزيدُ وتنقص حسبَ زمنِ المدِّ والجزرِ، وحوله، على مسافة ميلين، عجائزٌ بأسنانٍ من البلاستيك، وبعصي للمعاقينَ لا تُستخدمُ أبداً. بعضنا كان يلعبُ الشطرنجَ ليوحي بأنه يختارُ خطواته، وبعضنا نسيَ ما تعلّمهُ عن الشعرِ والموسيقى والفلك، وبعضنا كان يحلمُ بتحويلِ الضاحية إلى دولة، تحويل الشبابيك إلى شاشاتٍ تلفزيونية.
وعادةً ـ قبل أن يأتي ـ ما كنتُ أتسكعُ في باحةِ قصرنا، تحت أضواءِ النيون، حول عامودٍ مرصعٍ بالصدفِ الأحمرِ، وبأحرفٍ صينيةٍ، وأحرفٍ كوفيةٍ، تعلوه قرنفلةٌ من حجرٍ كيد من عطرٍ قديمٍ، كنت منهوشاً، ويسكنني الهاجسُ الغامضُ، وكان ذا قبل أكفَّ عن النزولِ إلى الباحةِ، حين انقرض المكانُ وتوحّشَ، وطاردتني المساحةُ، فلجأتُ إلى الجلوسِ إلى الشباكِ ومراقبةِ البحر، ووجهي مطرّزٌ بتوقعاتٍ غامضةٍ، وبأغنياتٍ شعبيةٍ. كان البحرُ يهدرُ كآياتٍ مكتوبةٍ بالماءِ في الماءِ لتقرأَها ربّةُ القمر، وروحي بحرٌ آخر، سبحانه من مرجَ البحرين، بينهما برزخٌ فهما لا يلتقيان ! ولذا لجأتُ إلى الشباكِ ـ البرزخ بين البحريــن: بين التكرارِ الأبديّْ والحاجةِ للخلقِ، بين مدِّ الروحِ وجزرِ البحرِ، بين وجهي وبين قرنفلةٍ من حجرٍ هي وجهي الآخر.
جاءتني أمي في الحلمِ قبيلَ الصبحِ تجرُّ عربةً محمّلةً بالوردِ النديِّ ومشاعر ذنبٍ، عجلاتها إيقاعُ قلبٍ يخسرُ. قلت لها: علميني السفرَ بين الحلمِ واليقظةِ، بين القلبِ والفكرةِ، بين الداخلِ والخارجِ، يا مربّيتي على الجلسةِ بين الشبابيكِ ! فاختفتْ. ناديتُ عليها: بيني وبين ما أعرفُهُ،بين ما أعرفُهُ وما أفهمُهُ، وبينَ ما أفهمُهُ وما أشعرُ به، والعالمُ لوحةٌ باهتةٌ معلّقةٌ على جدرانِ الوعيِ، إرفعيني نحو أمومةٍ أخرى!
كان تمثالٌ لنمرٍ من حجرٍ منحوتٍ في وسطِ نافورةٍ في باحةِ القصرِ، تحت الشباكِ مباشرةً، وكان رأسَهُ الحجريّ مرفوعاً للقمرِ، عليه تهيلُ زخاتُ الماءِ، وبدا لي متجمداً في وثبتِهِ، مشلولاً كإرادةٍ نصف منجزةْ، منقوشة في الصخرِ، إرفعيني نحو إرادةٍ أخرى، يا سيدةَ النحتِ!
فكلما بحتُ بكلمةٍ، أدخلُ في حلمٍ يشبهُ الدَّوَار، فأكتبُ شعراً في الحلمِ على رملِ البحرِ، يذكرني به موج آخر لما أخرج من حلمي إلى حلمٍ آخر، موجٌ يشبه الدوار. وسنةً بعد سنةٍ، والحلمُ يتكرّرُ، والقمرُ يتكرّرُ، والأطفالُ يولدونَ بدونِ أدمغةٍ، وأنا ـ الجيلُ الأخيرُ في الضاحيةِ ـ كنتُ على وشكِ الإنقراضْ.
وعندها أتى، يتسكّعُ على الشاطيءِ، ويدخّنُ غليونَهُ التركيَّ، يسراهُ في جيبهِ وينظرُ للبحرِ، فنز]m
لتُ إليه، خطوةً خطوةً، بحذرٍ، وسألتهُ بسخرية: منا وُلِدَتْ التراجيديا وإليكَ يتّجهُ الرقصُ، ماذا تقرأ؟ قال “كتابي نفسي”. فعثرتُ على حجرِ الوردْ..
_________
*مقطع من “حجر الورد”
**حسين جميل البرغوثي (5 مايو 1954-1 مايو 2002) شاعر ومفكر فلسطيني.
ولد حسين البرغوثي في قرية كوبر شمال غرب مدينة رام الله عام 1954، ودرس العلوم السياسية واقتصاديات الدولة في جامعة بودابست للعلوم الاقتصادية في هنغاريا، كما حصل على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بيرزيت ثم درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب المقارن بين عامي 1985-1992 من جامعة واشنطن في سياتل.
عمل أستاذا للفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت حتى عام 1997 وأستاذا للنقد الأدبي والمسرح في جامعة القدس حتى عام 2000. وأثناء هذه الفترة كان عضوا مؤسسا لبيت العشر الفلسطيني وعضوا للهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب الفلسطينيين ورئيسا لتحرير مجلة اوغاريت ومديرا لتحرير مجلة الشعراء حتى رحيله في عام 2002 مريضًا بالسرطان.
صدر له ما يزيد عن ستة عشر عمل توزعت بين الشعر والرواية والسيرة والنقد والكتابة الفلكلورية إضافة إلى العشرات من الأبحاث والدراسات الفكرية والنقدية والنقدية بعدة لغات وفي العديد من الكتب والمجلات والصحف، منها سأكون بين اللوز والفراغ الذي رأى التفاصيل والضفة الثالثة لنهر الأردن والضوء الأزرق وما قالته الغجرية وسقوط الجدار السابع: الصراع النفسي في الأدب.

شاهد أيضاً

كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!

(ثقافات) كتاب “في حديقة الملك، سيرة مكان”: سيرة مكان؟… سيرة وطن!   * د. خالد …

ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات – فيديو

(ثقافات) ننشر تالياً المحاضرة الكاملة للباحث والروائي الأردني يحيى القيسي عن “ابن عربي الحائر بين …

حوار مع الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية

الباحث والروائي يحيى القيسي حول تجربته الوجودية: رواياتي تشكل خُماسيّة عِرفانيّة ومَعرفيّة… وتطرح الأسئلة الكبرى  …

في ظلال المئوية “تل الذّخيرة” ملحمة تستحق مكانة عالية في الذاكرة الشعبية والمخيال الحكائي للأردنيين

مجدي دعيبس مع حلول المئوية الأولى للدّولة الأردنيّة تتنازعنا أفكار ومواضيع شتّى للحديث عنها في …

في مئوية الدولة: الثقافة مرتكز أساسي للتأسيس والنهضة

( ثقافات ) مجدي التل  فكرة بداية مأسسة الحالة الثقافية والابداعية في الدولة الاردنية الحديثة؛ …

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *