محمد أبو عرب*
ما إن تشهد الساحة الثقافية العربية رحيل قامة إبداعية لها تاريخها الطويل في أحد أجناس الفعل الإبداعي، حتى ينقسم المثقفون بين منحازٍ لمنجز ذاك الراحل وممجد له، وآخر حفار في تاريخه السياسي والأخلاقي، فيدور الجدال بين المبدع كشخص ومواقف، والمبدع كمنتج إبداعي، خصوصاً إذا حفلت سيرة ذاك الراحل بالمواقف الإشكالية .
ربما بات لزاماً على المثقفين العرب أن يشكلوا رؤية واضحة المعالم حول هذه الإشكالية التي لا يتوقف الحديث فيها، رؤية مبنية على وحدة منطقية، بحيث لا تظل المساحة مشرعة للكيل بمكيالين أمام كل راحل، أو مثقف، ففي الوقت الذي يقف فيه بعض المثقفين إلى جانب المنتج ويقرأون سيرة المثقفين وفق هذا المنتج، يرجعون إلى شخص المبدع ومواقفه في حالة أخرى .
هذا المشهد يكشف هشاشة بعض المثقفين العرب، وعدم قدرتهم على تبني رؤى ومبادئ يمكنهم تمريرها حتى على أنفسهم، فهم يختارون ما يناسب غرضهم، بمعنى يصبح المبدع مفصولاً عن تاريخه الشخصي إذا كانوا لا يريدون المساس به، لأنه ينتمي إلى منظومتهم الفكرية، أو تربطهم به صداقة، أو مصلحة أو انتماء، في حين يحملون المعاول لهدم سير مبدعين آخرين إذا مسكوا زلة في تاريخهم الشخصي ويتجاهلون كل ما قدموه .
يحق لأي منا التساؤل: ما هو المبدع وما هو المثقف حقيقة؟ هل هو منتجه الإبداعي، أم سيرته الشخصية ومواقفه، أم هو مزيج من هذين الأمرين معاً؟ ويحق لنا أيضاً أن ننحاز إلى أنه مزيج بين الشخص ومنتجه، إذ كيف يكون منتج المبدع صادقاً إن كان يتنافى مع شخصيته ورؤاه؟
ما لا شك فيه سيخرج من يقول إن مواقف المبدعين تتفاوت حول القضية الواحدة وتختلف حسب مرجعيات كل مبدع، وهذا لا يعني أن ننقد مبدعاً ونحتفي بآخر، فلكل رؤيته لما يجري، وهذا بلا شك صحيح، لكن في الوقت ذاته توجد خطوط عريضة توافقت البشرية عليها وبات الخروج عنها خروجاً عن الإنسانية .
فالأمر لا يتعلق بموقف مبدع أو مثقف من نظام سياسي يمكن التوافق أو الاختلاف عليه، إنما يصل أحياناً إلى موقف من الاحتلال، أو الاستعمار، أو القتل، أو تعذيب الأطفال، أو إبادة الحضارات، فهذه كلها تبدو المواقف منها كونية، وهنا تظهر صورة المثقف كما حددها غرامشي، وجوليان بندا، وإدوارد سعيد، حين توافقوا على أن المثقف الحقَّ لا يمثِّل أحدًا بل يمثِّل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها .
لذلك على الذين ينحازون إلى منتج المبدع وينسون سيرته ومواقفه، أن يتوقفوا طويلاً عند تلك السيرة، وأن يوازنوا في تبني مواقفهم، وكذلك الحال بالنسبة للذين ينحازون لسيرة المبدع ويتجاهلون منتجه، فالمبدع مزيج من هاتين الكتلتين، ولا يمكن الفصل بينهما مطلقاً .
– الخليج