ضدّ التنوير…!

(ثقافات)

ضدّ التنوير…!

يحيى القيسي*

      حينما تمرّ مفردة ” التنوير” في خاطري، أشعر بها وقد تجسّدت في عبارة مختصرة هي” الإنتصار للحياة “، ثم تتداعى صور أخرى عن نشر ثقافة المحبة والسلام والخير بين البشر، وإعلاء قيم الجمال وترسيخها في المجتمع، ثمّ بالضرورة أن تأخذ من اسمها نصيباً أي ” النور والضوء” وبالتالي فإنّ نقيض هذا ” التنوير ” بالضرورة سيكون الظلام ونشر ثقافة الموت، وبثّ سبل الفرقة والكراهية بين الناس، والإطاحة بكلّ القيم النبيلة، وجعل العدالة عرجاء والحقيقة مزيفة……..!

أقول كلّ ذلك وأنا أستعرض في ذهني كيف أن النخبة العربية المثقفة اليوم، والتي نفترض فيها قيادة الحركة التنويرية في المجتمع، والرسو بالسفينة في بر الأمان، قد تخون رسالتها، وتنحاز إلى ما يبدو واضحاً أنه ” ضد التنوير ” سواء كان ذلك عن جهل أو عن نية مبيتة، فأنا لا أستوعب مثلا تلك الكتابات الروائية على سبيل المثال التي تتخذ من السوداوية وبثّ التشاؤم وسيلة لها، والتي تفوح منها رائحة القتل والجثث والتهتك الجنسي وسيول القرف، فالكتابة مسألة خطيرة لا يجوز العبث بها، ووظيفتها برأيي جمالية ومعرفية في الآن نفسه، إذ تتحقق بها ” لذة ” قراءة النص نفسه، والغوص في عوالمه، وأيضا ما يقدمه من معرفة تضيف للقارىء الكثير، وفكر يحلق به بعيدا عن اليومي والمستهلك…!

صحيح أنّ من واجب الكاتب تعرية القبح والدخول إلى العالم السفلي لكشف عفنه، لكن هذه المسألة يجب أن لا تتم على حساب المتلقي، الذي عليه أن يغوص هو أيضاً بذلك العفن ويشتم تلك الروائح الكريهة ويشعر بالمعاناة مع كل سطر في الرواية، وأنا أتذكر هنا رواية قرأتها قبل سنتين تقريبا، جعلت الكاتبة من حمامات المخيم التي تفيض بالغائط مكاناً لها، فخلال صفحات قليلة لا يملك المرء إلا أن يصاب برغبة جامحة في القيء، وفي الوقت نفسه يقرأ الواحد منا عملاً مثل ” العطر ” للألماني باتريك زوسكيند ورغم أجوائه الجرائمية إلا أننا نشعر بالجانب الآخر المشرق، وتتسرب إلى أنوفنا بمعالجته المبتكرة روائح العطر الجميلة…!

لا أريد التوقف عند الأعمال الإبداعية سواء كانت كتابة روائية أو شعرية أو مسرحية أو سينما أو تشكيل، ومدى مشاركة أصحابها بالتنوير العملي، أي التحليق بالمتلقي عاليا وإشعاره بالغبطة بديلا عن الهبوط به إلى الحضيض، بل ثمة من يقف فعلياً وبشكل جلي ضد كلّ عناصر التنوير ونشر البعد الحضاري للمجتمع وترسيخ المجتمع المدني، فقد انحاز الكثير من المثقفين إلى الجانب الآخر، بسبب الطمع في المال، أو السلطة، أو بسبب من الظلامية التي هي مزروعة في داخلهم، فكيف نبرر مثلا تحمس بعضهم لاحتلال بلده، أو قتل إخوته، أو اشعال الفتن بكتابته وتصريحاته وفعله…!

وماذا نقول عن المثقف ” الطائفي” أو ” المتعصب القبلي” أو ” الإقليمي ” …!

للأسف نلاحظ نماذج كثيرة قد اختلط عليها الحق، ووقفوا مع دعاة القتل، وكلّ من هو ضد الإنسانية، الذين ينشرون الخراب أينما حلوا متذرعين بالدين أو بالوطن….، وهنا يبدو الكاتب أو الفنان المتورط بهذا الخراب يستغل كل قدراته اللغوية والفنية للوي عنق الحقيقة، والانتصار للظالم ضد المظلوم، والنماذج بيننا اليوم قد كثرت بكل أسف.

لقد صار علينا أن ننتبه جيدا لتلك المقولة عن أن المثقف هو الرائي الذي لا يكذب أهله، والمنشغل بالتأمل ليقود مسيرة الحضارة في العالم، ويفيد البشر بأفكاره النيرة، ونشر ثقافة الخير والمحبة، فقد تغيرت الصورة كما يبدو، وذهبت الفروسية الحقيقية لكثير من المبدعين أدراج الرياح، وتحولوا إلى زمرة من الحرفيين الذين يتقنون بيع الكلام أو رسم اللوحات أو طلي الحقيقة بمساحيق الخديعة التي أصبحت بضاعة كاسدة، فيا للخراب حينما يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون …….!!

*مؤسس ورئيس تحرير ثقافات

شاهد أيضاً

قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة

(ثقافات) قناع بلون السماء.. أضداد متمازجة وأحكام مُعلَّقة سامر حيدر المجالي على غير ما يُظَنُّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *