ماركيز .. لا فضل للموت عليك


*رتيبة كحلان

( ثقافات )

لا شك أن الجميع يتفق أن العظماء لا يولدون بنفس الملامح مرتين لذا كانت حياتهم مختلفة وحين يقنعنا الموت أنه أخذهم بعيدا في رحلة لا تحمل العودة تسقط منه حقائبهم العامرة والتي قضوا عمرا بأكمله وهم مشغولون بملئها.
سمح الموت إذا بحرق جسد غابرييل غارسيا ماركيز فسألت نفسي: كيف أمكنهم فعل ذلك ؟ ولماذا لم يترك جسده ليعود للأرض عابرا لكل مراحل التحلل الجسدي ؟ ففي العودة للبيت الأخير طقوسها المستسلمة للبطء، كان ماركيز إذا ورقة بحياة كاملة وصدى البشرية المكتوب في تلك الأرض البعيدة التي كرس سطره لنقل خصوصياتها التي نجهلها، ولأنه كتب لها كما كتب عنها فقد قادته سطوره إلى منصة نوبل للآداب وأهلته لجائزة الرواية ونيل الدكتوراه الفخرية في الآداب حيث توزع التكريم على دول مختلفة كل بطريقتها التي تراها مناسبة له إذ منحت له فرنسا وسام جوقة الشرف وعلقت المكسيك على صدره وسام النسر الأزتيك وأطلقت كل من كاليفورنيا ومدريد وإسبانيا اسمه على شوارعها أما كولومبيا التي أنجبته فكرّمته بإعادة بناء بيته وتحويله إلى متحف يخلد ذكراه وذلك سنة 2010 أي قبل موته بكثير. وإن مات وأحرق فقد ترك خلفه ملامح روحه غير القابلة للدفن والتي تخرج لتحوم في الوجود وتقف في ساحة الأدب لتقرع أجراسه للأجيال القادمة لتثير كل انتباهها.
يتراجع الآن شعوري بالغثيان بسبب إحراق جثة ماركيز ففجأة أقنعت نفسي أن الروح الكاتبة تختلف عن الجسد في المصير تنجو الأولى ويحترق الثاني فقد غنمت من الحبر بللها ومن الورق اخضرارها لذا تتحدى حرائق الموت وتترك رماد الجسد لمن يقيمون الجنازة ليطمئنوا على مصير الراحل فقط، ويعودون أدراجهم بعد أن يشهدوا على رحيل ميت غير عادي. 
في هذا المقام لا يمكنني الحديث عن موت ماركيز دون أن أتذكر بأسى المبدعين الذين يعيشون بيننا وكيف أن الحظ السيئ لا يتخلى عنهم حتى في الأوقات الموجبة للغبطة، فيضيعون بين أهلهم في حياتهم ويعرفون بعضا من التقدير الناقص بعد وفاتهم وبذلك تتكرر غربتهم فماذا ينتظرون من الموت بعد أن سحقتهم الحياة ؟. لهذا لم يترك ماركيز للموت الفرصة ليغدق عليه أفضاله العامرة بالاهتمام ذو الأشواك الحادة تلك التي تطارد الميت حتى في قبره وتمنع عنه الراحة مثلما يحدث مع مبدعينا وبلغ في حياته أقصى ما يمكن أن يحصل عليه كاتب من طراز خاص.
يعود ماركيز لعزلته من حيث بدأ ولن يكتمل رثاء كاتب أبدا مادام في غيابه انحباس حرف في قلم لن يكتب مجددا، كان ماركيز ( وفي كان هذه دليل على نقصان الحاضر منه فيوما بعد آخر سيصير جزء من ماض شهد ثورته الصغيرة) يكتب عن واقع بلغة بسيطة يتحكم فيها الخيال الخصب الذي لا يعرف الحدود التي يؤسسها الواقع فجلب له الشهرة التي أوجبت له الجزاء من جوائز وتكريمات كما ذكر آنفا.
مات ماركيز أو لنقل احترق ماركيز ونجت كتبه من اليتم ذلك أن كل “قارئ” لها سيتبناها وستجد لها عبر بوابات الزمن المفتوحة أمكنة على رفوف المكتبات ذلك هو الخلود الذي أتقن ماركيز رسم ملامحه جيدا عبر تفاصيل صغيرة لعالم كبير جدا في سطور كثيرة لصفحات لم تحترق.
لا يجب أن نقف صامتين أمام حب يؤسسه السطر .. سيشي حتما كل ما كتبه بأن الكلمات تسحر القلب فتملكه عن آخره ورغم أن ورق الجرائد التي احتوته لا يعيش طويلا لكن إغراءه لا يضمر فبقي ماركيز وفيا له ملبيا نداءه طول حياته ربما بطريقة ما أتاح له ألا يهجر السطر أبدا وأن يكتبه على كل أنواع الورق الذي تتيحه الموهبة الحقة وكان قلب القارئ أهم صفحة كتب عليها.
هكذا ومن جديد تثبت الأيام أن الكتابة دوما تحقق الاحترام للمبدع ويثبت الموت أن تلك الخسارة فادحة ففي صمت القلم النهائي تخرج المحبة المجانية لتنبت براعمها في القلب الذي ينحني احتراما لكل راحل لم ينتظر من الموت شيئا بعد أن نال من السطر ما يليق به وما لا يليق إلا به.
يمضي هذا الربيع منقوصا من كاتب عاش على منوال شمعة تحترق على مهل النهايات وذلك الطابور الذي وقف مشيعا لراحل كبير في صندوق صغير يحمل رماد ماركيز تنذر أن نوبل أراد أن يلفت انتباه البشرية إلى ديناميت العقول الحقيقي حيث الإبداع الذي لا حد له .. تلك اللغة التي يفهمها الجميع مهما كانت أصواتها المنطلقة من ألسنة مختلفة.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *