*
التشابهات بين السلفادور وبانما كثيرة. في الجغرافيا والتاريخ واللغة والأصول والظروف والمعاناة والتطلعات. هما نموذجان لأميركا اللاتينية. اكتشفهما الأوروبيون (الإسبان) وأخضعوهما لحكم الرجل الأبيض وأهوائه. ثم عصف بمصيرهما الرجل الأبيض نفسه القادم من شمال القارة. كل ذلك جعل من التجارب الإبداعية في البلدين، كما في كل الجزء الجنوبي من القارة، مكتظة بحمولات الحياة والموت وما بينهما. هنا، صوتان شعريان نسائيان يعبران عن هذا العالم المتشابك في جذوره وتحولاته وآماله: كلارا إيزابيل أليجريا من السلفادور، وماريتسا لوبيث – لاسو من بنما. شاعرتان تطلقان قصائدهما بحثاً عن الصوت عند الإنسان، وعند الطبيعة، وما يظللهما من عناصر.
من شعر السلفادور المعاصر: نحن الصوت والصدى
مختارات من أشعار: كلارا إيزابيل أليجريا*
ترجمها عن الإسبانية: د. محمد محمود مصطفى*
النهر
ثم أتى النهر
النهر
بهمسه وتدفقه
والسفن تأتي وتمضي.
ضفتا النهر ما أوسعهما!
عتبة أخرى
على اجتيازها.
كيف يمكنني ذلك؟
كنت خائفة
ولم أكن وحدي أواجه النهر.
كان المشهد غريباً
وكانت اللغة غريبة
أذرع شوارع المدينة
لا أحد يعرفني
لا الشوارع
ولا المنازل
ولا الوجوه
إلى أين أمضي؟
هل ما زلت أنا ذاتي؟
أم أني أهب الحياة
لذات أخرى
هي أنا؟
النهر أمامي
هو ذاته
وليس ذاته
كان نهراً
وكان تحدياً
اقتربت امرأة عجوز مني
كانت بلا أسنان
وتحت ذقنها وشم
تجاعيد السنين
على وجهها
وفى نظراتها
قالت وهى تلملم الليل عن شعري:
أنا شحاذة المعجزات،
فهل تحضرين لي واحدة،
لقد حلمت أن الفراشات هاجمتني
وإحداها اشتعلت على راحة يدي.
شكراً لك
أعطتني العجوز زهرة
وتلاشت سريعاً
في الأفق.
الفراشة
لم تعد الغابة هناك
لقد قطعوا الأشجار
تكسرت المرايا
وجفت مياه النبع
أخفى القمر رسمه
تلاشت رغباتي
وارتاح سيفي
في غمده الحديدي.
لماذا الآن؟
لماذا؟
هل يأتي الشعر ليراوغني؟
لقد دخلت من النافذة
وارتاحت على راحة يدي
نظرت إليها بحنين
زممت شفتاي
وتنفست
فرحلت من حيث جاءت.
التحرر من الوهم
قتلت السياح
لتحرير فلسطين
وقتلت الكاثوليك
لتحرير أيرلندا
سممت السكان الأصليين
في أدغال الأمازون
لأفتح طريقاً
للتحضر
والتقدم
قتلت ساندينو (1)
وعيسى
ومارتي (2)
أبدت الماي لاي (3)
باسم الديمقراطية.
لم يجد كل ذلك نفعاً:
فبرغم كل جهودي
ظل العالم على حاله.
فن الشعر
أنا، ومهنتي الشعر
حكم عليّ عدة مرات
أن أكون غراباً
ومع ذلك فلن أبدل مكاني
مع فينوس دي ميلو (4)
هي ملكة في متحف اللوفر
لكنها تموت من الضجر
ويتراكم الغبار عليها،
أما أنا فأكتشف الشمس
كل صباح ووسط الوديان
والبراكين ومخلفات الحرب
أرى الجنة الموعودة.
مثل فارسي
زرعت شجرة
حصد الجيران
ثمارها.
ولدت أربعة أطفال
تركوني ورحلوا.
كتبت بضع كتب
(بضع مئات من الصفحات)
حولها الزمن إلى اللون الأصفر.
بشارات
وسوف تهب
ريح وأعاصير
تزيح في طريقها
الدروب التي تنير
طريقي.
أنا
أنا
نبتة أوراقها ضجرة
يخنقها الغبار.
أنا
جذع تلك الشجرة
أو العودة
إلي رحم الأرض.
أنا
تلك الزهرة الذاوية
التي تحملق بحنين
صوب الأوراق المتساقطة.
لماذا لا أحبك؟
لماذا لا أحبك
أيها الظلام
إن أتيت منك؟
أحلامي من مغاراتك
وشعري لك
واليك أسافر.
صالة انتظار
ما سيكون شكل الموت؟
لابد أن له رائحة المستشفيات
أوصالات الانتظار بالمطارات
رائحة الفينول
بالمستشفيات
أو ذلك المذاق الرتيب
للمطارات
أشعر بالموت هناك
حتى الذكريات تهجرني
أشعر أني منومة مغناطيسياً
من ذلك الصوت الرتيب
الذي يعلن الوصول
والمغادرة
كل هؤلاء الناس
واقفين
وجالسين
ينتظرون دورهم
ومصيرهم
هل هذا هو الموت؟
نعم:
مكان ضبابي
حفرة لا قرار لها
متاهة منظمة
والركاب في انتظار؟
أبحث عنك
ذهبت للبحث عنك
عبرت الوديان
والجبال
سافرت عبر البحار
وسألت عنك السحب
والريح
كان كل ذلك سدى
فأنت بداخلي.
تقريباً عند النهاية
حياتي توشك أن تنقضي
ولما أزل لا أعرف
ما الحب
وما الموت
وهل صادفني التوفيق
في التعبير.
عشت الحب معك
ومعك أموت
ألم غيابك
يضيء خطابي أحياناً.
رويداً رويداً أموت
رويداً رويداً أموت، أيا حبي
لا أموت الموت المفاجئ
الذي أريد
ذلك الذي يحررنا
ويبعثنا
بل ذلك الموت الآخر
البطيء
الذي يمزقنا إربا
ويطعننا
ويسرقنا من أنفسنا.
أسف
أود لو استطعت أن أصدق
أني سوف أراك ثانية
وأن حبنا
سيورق من جديد.
لعلك ذرة ضوء
ولعل رفاتك لا تكاد تكون موجودة
لعلك سوف تعود
وأضحي أنا رفاتاً
أو ذرة ضوء
بعيدة
وحبنا
لن يحدث أبداً من جديد.
أنا طائر النورس
نورس وحيد أنا
أحفر أخاديد
في الرمال.
أنت تحيا
أنت تحيا في أحشائي
وحدي أنا أحسك
أنت الكيميائي
الذي يحول بكاءنا إلى أشعار.
أنت أنا الآخر
أنت أنا الآخر
أنا المتشردة
جسري ومرآتي.
يهيمن الصمت
وأفكر ملياً:
أنت قدري
ولا أدري ما أفعل
حيال موتك.
ليلاً ونهاراً
أبحث عنك
أشتت انتباه الزمن
بالأسئلة والدموع
والضجر.
أبحث عنك في ثنايا أيامي
بين الأطلال
وفى البرية
وفى لحظات الحيرة.
أبحث عنك في جرحي
في حزني
آملة في أن يسكنني الحزن
أو أطوف حوله
حتى أصل إليك.
لا أريد الخلود
لا أريد الخلود
فهو يفوق قدراتي
أود أن أحيا
كما أحيا
دون أن أفكر
لماذا أحيا
أود أن أكون برقاً
في السماء
أو فراشة هائمة
أو فقاعة صابون
على وشك الانفجار.
أعطني يدك
“اليوم أحب الحياة أقل من ذي قبل لكني دوماً أحب أن أحيا”
ـ سيزار فاييخو (5)
أعطني يدك
يا حبيبي لا تتركني أغرق
في الأحزان.
لقد تعود جسدي أن يبكي غيابك
لكنه مع ذلك
مازال يرغب في الحياة.
لا ترحل يا حبيبي ولتقابلني في أحلامي
دافع عن ذكرياتك
ذكرياتي عنك تلك التي لا أود أن أخسرها.
نحن الصوت والصدى
المرآة والوجه
أعطني يدك وانتظر
عليّ أن أعيد ترتيب وقتي
حتى أصل إليك.
دعوة
لا أعرف ما البحار
والأنهار والدروب السرية
التي علي أن أقطعها
لكني انتظرك اليوم
عند الغسق
حتى نسمع معا
سيمفونيات باخ.
سيزيف (6)
أصعد التل
وأنزل
أبحث في القمة عن حصاة
عن ذرة رمل وأعاود ذلك المرة تلو الأخرى
من البداية.
زمن الحب
عندما تحبني
يسقط قناعي الزائف
وتصبح ضحكتي حقيقية
ويصبح القمر قمراً
والأشجار أشجاراً
واللحظات
والسماء
والضوء
تولد كلها من جديد
وتضيء إلى الأبد
وعيناك كذلك
تولدان من جديد
وشفتاك تنطقان اسمي
وتكتشفاني.
عندما أحبك
لا أنتهي هنا
تضحى الحياة عابرة
والموت عابر
والزمن عقيق أحمر
لا مساء فيه
ولا غد.
الحواشي
كلارا إيزابيل أليجريا 1924 من أشهر شعراء السلفادور وهي كذلك روائية وكاتبة مقالات صحفية. تعد حالياً أحد أهم الأصوات الشعرية فى أمريكا الوسطى. ولدت فى مدينة “إستيلي” في نيكاراجوا، وترعرعت في منطقة “سانتا أنا” في غرب السلفادور. سافرت إلي الولايات المتحدة عام 1943 لإكمال دراستها، وعادت إلى بلادها عام 1985. انخرطت في العمل السياسي وكانت مؤيدة لحركة جبهة التحرير الوطني – الساندنيستا، التي أطاحت بالدكتاتور إنستاسيو سوموزا، ووصلت إلى السلطة عام 1979. على الرغم من أنها ولدت في نيكاراجوا، فإنها تعتبر نفسها من السلفادور التي قضت بها أغلب سنوات عمرها، كما أنها تحمل جنسيتها.
1 – ساندينو، هو أوجستو سيزار ساندينو (1895 ـ 1934) ثوري من نيكاراجوا وقائد التمرد ضد احتلال الولايات المتحدة لنيكاراجوا في الفترة من 1927 إلى 1933. أطلقت عليه الولايات المتحدة لقب “قاطع الطريق” لكنه أصبح رمزاً للمقاومة ضد الولايات المتحدة في أميركا اللاتينية. تم اغتياله عام 1934 على يد قوات الحرس الوطني بزعامة إنستاسيو سوموزا الذي استولى على السلطة، لكن جبهة تحرير الساندينستا أطاحت بالديكتاتور سوموزا عام 1979.
2 – مارتي، هو خوزيه مارتي (1853 ـ 1895) بطل قومي كوبي، ومن أشهر الرموز الأدبية في أمريكا اللاتينية. كان إبان حياته القصيرة شاعراً وكاتبا وصحفيا وأستاذاً جامعيا. قتل فى عمل عسكري فى 19 مايو/ أيار 1895.
3 – الماي لاي هي من أكبر المذابح الجماعية التي حدثت على يد القوات الأمريكية في فيتنام أثناء الحرب الفيتنامية راح ضحيتها ما يقرب من 500 من المدنين في 16 مارس 1968. تعر ف باسم “أكثر المراحل دموية في حرب فيتنام”. وقد أدت الحادثة إلى زيادة حدة المعارضة لحرب أمريكا في فيتنام بعد أن أميط اللثام عنها عام 1969.
4 – فينوس دي ميليو هي أفرودايت يجسدها أحد أبرز التماثيل اليونانية، تم نحته في الفترة بين130 و100 ق.م. ويعتقد أنه يمثل آلهة الحب والجمال لدى الأغريق (فينوس لدى الرومان).
5 – سيزار فاييخو (1892 ـ 1938) أشهر شعراء البيرو، كما كان كاتباً وصحفياً ومؤلفاً مسرحياً. من أهم أعماله “تشريح السوريالية” و”سوف أتكلم عن الأمل” و”قصائد إنسانية”.
6 – كان سيزيف في الأسطورة اليونانية ملك ايفيرا (كورينثيا الحالية) وقد عاقبته الآلهة لخداعة وخيانته. وكان عقابه بأن يلقي صخرة ضخمة إلى أعلى التل ليراها تعاود النزول، وكان عليه أن يعيد ذلك إلى الأبد.
* أستاذ باحث بمعهد لشبونة الجامعي، لشبونة، البرتغال
______
*الاتحاد