*ترجمة وتقديم – كاميران حاج محمود
أليخاندرا بيثارنيك إحدى الشاعرات البارزات في اللغة الإسبانيّة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. اتّسم شعرها بالسوداويّة، وبحضورٍ طاغٍ للخوف والعُزلة والموت، محُاذِياً اضطراب شخصيّتها الذي تفاقم ليتحوّل إلى كآبةٍ عميقةٍ ألمّتْ بها لاحقاً. ولا تُخفي النبرةُ الفريدةُ في شعرها، تشرُّبها العميق للتحوّلات التي حملتها حركة الأدب والفنّ الطليعيّ آنذاك. ولعلّ تأثرها المبكّر بالسرياليّة شكّل أوضح ملامح القصيدة عندها، وخصوصاً بعد انتقالها إلى باريس والتقائها بمجموعة من الأدباء والفنانين المُؤثِّرين، تعرّفت إليهم هناك، وانعقدت بينهم الصداقات أمثال أوكتابيو باث، وخوليو كورتاثر، وسواهما ممن ساعدوها على الدخول إلى المناخ الثقافي المُتّقد في ذلك الوقت.
لا تخفى الهواجس في شعرها، بيأسها واضطرابات ماضيها، فيما الهوسُ باللغة يقودُ إلى البحث المستمرّ عن صوتٍ ذاتيٍّ، تراهُ مفقوداً على الدوام. تبدو قصيدتُها كَيَدٍ تُزيحُ غلالةً رقيقة عن نافذةٍ تقعُ في الداخل، خلفها تتوارى رغبةُ بيثارنيك المُلحّة في إذابة الشعر والحياة، أحدهما في الآخر.
ولدت بيثارنيك في بوينس آيرس عام 1936 لعائلة مهاجرة تنحدر من أصولٍ يهوديّة روسيّة، ودرست الأدب في جامعة العاصمة الأرجنتينية. نشرت أعمالها المبكّرة في ثلاثة دواوين في خمسينيات القرن الماضي، تجلّى فيها تأثّرها بالشاعر الفرنسي آرتور رامبو. عام 1960 سافرت إلى باريس حيث درست الأدب الفرنسي في السوربون، وتعاونت مع عددٍ من الصحف والمجلّات الثقافيّة، نشرت فيها قصائدها وترجماتها لأدباء فرنسيّين كأنطونان آرتو، وهنري ميشو، وإيف بونفوا وغيرهم. سنة 1964 عادت بيثارنك إلى الأرجنتين بشهرةٍ كبيرةٍ وجوائز أدبيّةٍ عدّة، حيث نشرت أعمالاً جديدة اعتُبِرت الأهمّ في نتاجها الأدبي، كاشفةً عن نُضج شعرها وخصوصيّته مثل: «الأشغال والليالي (1965)»، و«استخراج حجارة الجنون (1968)»، و«الجحيم الموسيقيّ (1971)». بجرعةٍ زائدةٍ من الأدوية أنهتْ بيثارنيك حياتها سنة 1972.
أنا…
جناحَايَ؟
تُويجَان مُتعفّنان
عقلي؟
كؤوسٌ صغيرةٌ من نبيذٍ لاذِع
حياتي؟
فراغٌ مَدروسٌ بعِنايَة
جسدي؟
شَق ٌفي كُرسيٍّ
تردُّدِي؟
صَنجٌ طُفوليٌّ
وجهي؟
صِفرٌ مُتَخَفٍّ
عينايَ؟
آه! قِطعَتانِ مِنَ اللانهاية
الزمن
لا أعرفُ عن الطفولةِ
سِوى أنهّا خوفٌ مُضيءٌ
ويدٌ تجرُّني
نحوَ ضِفّتي الأُخرى.
طُفولَتي وعَبقُها
من مُلاطَفةِ عُصفور.
أزرق
كبرتْ يدايَ بالموسيقى
وراءَ الأزهار
لكنْ الآن،
لماذا أقْتفيكَ أيُّها الليلُ؟
لماذا أخلدُ إلى النومِ مع مَوتاك؟
من هذه الضفّة
لا أزالُ حينَ يلمعُ عاشقي
كنجمٍ غاضبٍ في دَمي
أنهضُ من جُثّتي،
وحذرةً كيلا أطأَ ابتسامَتي الميّتة
أذهبُ إلى لقَاءِ الشمس.
من ضفةِ الحنينِ هذِه
كلُّ شيءٍ يبدو ملاكاً.
الموسيقى صديقةُ الريحِ
صديقة الأزهارِ
صديقات المطرِ
صديق الموت.
***
قفزتُ مِنّي إلى الفجر.
تركتُ جسدي لِصقَ النّورِ
وأنشدتُ حُزنَ ما يُولَد
***
بقميصِها المُشتعلِ تَقفِزُ
من نجمةٍ إلى نجمة.
من ظلٍّ إلى ظلّ.
تمُوتُ من موتٍ بعيد
تلكَ، مَنْ تعشقُ الرّيح.
***
الآن
في هذه الساعةِ الوادِعة
نجلسُ، أنا والمرأةُ التي كنتُ
على عَتبةِ نظرَتي
***
أن أقولَ بكلماتٍ من هذا العالم
إنّ زورقاً انطلقَ مِنّي حاملاً إيّاي
***
القصيدةُ التي لا أبوحُ بها،
التي لا أستحِقُّها.
على دربِ المرآةِ
خوفُ أنْ أكونَ اثنتين:
ثمّةَ أحدٌ نائمٌ في داخلي
يأكلُني ويشربُني.
***
كقصيدةٍ تُدركُ
صمتَ الأشياء
أنتَ تتكلّمُ كيلا تراني
***
حينما أرى العُيونَ
التي وُشِمتْ في عينيَّ
***
في الليل
مرآةُ الصغيرةِ الميّتة
مرآةٌ مِن رُفات
***
أنتَ مَنْ يختارُ مَوضعَ الجُرح
حيثُ ننطقُ صمتَنا.
أنتَ مَنْ يجعلُ حياتي
هذا الاحتفالَ شديدَ النّقاء.
ظلُّ الأيّام الآتية
غداً
عندَ الفجرِ سيَكسُونَني بالرّمادِ
وسيملؤون فَمي بالأزهار.
سأتعلّمُ أن أنامَ
في ذاكرةِ جدارٍ،
في تنفُّسِ
حيوانٍ يحلُم.
***
ولكنّي أُريدُ أن أنظرَ إليك
إلى أن يبتعدَ وجهُك عن خَوفي
كما يبتعدُ طائرٌ عن حافّةِ الليلِ الحادّة.
***
فجأةً، كطفلةٍ من طباشيرَ ورديّةٍ على جدارٍ
رسمٌ قديمٌ محَاهُ المطرُ.
***
للّيل شكلُ صرخةِ ذئب.
مُقاربات
وأنا أُعانقُ ظلّك في حُلمٍ
كانت عِظامي تتقوّسُ مِثل أزهارٍ
***
خطواتٌ في ضبابِ
حديقةِ الليْلَك
القلبُ يرجِعُ
إلى نورهِ الأسود
***
تتمنّى لو تعيشُ أبداً
كشيءٍ منسيٍّ في يدِ ميّتٍ
***
أغنياتٌ غامضةٌ
من بلدٍ مّا جرفتْهُ الأمطارُ
أغنياتُ قارِعي الأجراسِ
ذكرياتُ الليلةِ التي أحبّها رجلٌ ما
إذا البحرُ من أجلِ قيثارةٍ
أغرقَ ملائكةً ساخطةً في الرّيح
***
عصافيرٌ مُغبرّةٌ
دماءٌ قديمةٌ على أجنحتِها
أزهارٌ معدنيّةٌ منسيّة
بيوتُ العنكبوتِ عاشقة الفضاء
حيثُ يعيشُ الزمنُ الذي يمضي
***
قلب المطرِ حلَلْتُ وِثاقه
أغنياتٌ شعبيّةٌ
أطعمتْ صمتي.
***
الليلُ موشومٌ على عِظامي.
الليلُ والعَدم.
***
ثمِلةٌ بصمتِ
الحدائقِ المهجورة
ذاكرتي تنفتِحُ وتنغلِق
كبابٍ في مهبِّ الرّيح
________
*مجلة الدوحة