حوار:”سكوت شيرمان”/ ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
إدواردو غاليانو : الصوت الأكثر ارتفاعا في تمثيل الضمير الاجتماعي على مستوى أمريكا اللاتينية و العالم ، لم يزل يعد اللغة أسرارا و أعاجيب و أقنعة ،هي الهّم الأكبر الذي يتقدم على كل همّ سواه.
يكتب غاليانو في عبارته الافتتاحية لكتابه الذائع الصيت “الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية” ، ” إن تقسيم العمل بين الأمم يستبطن تحديدا مسبقا لمن سيفوز ومن سيخسر ” غاليانو : المواطن الأوروغياني الذي أجبر على عيش حياة المنفى عندما كانت بلاده ترزح تحت سطوة الحكم العسكري في السبعينات وقف دوما إلى جانب الخاسرين في لعبة المعادلة الأممية.
نشر كتاب غاليانو المشار إليه في العاصمة المكسيكية في 1971، و اعتمد غاليانو فيه نثرا آسرا وساحرا ذا نبرة رثائية لخمسة قرون من النهب المنظم و الامبريالية المهيمنة في أمريكا اللاتينية و يختلف الكتاب جذريا في الأسلوب – وليس في المحتوى – عما سبق وبشرت به نظرية التبعية المحورة عن الرؤية الماركسية التي سادت في الستينيات و كانت ترى أن أمريكا اللاتينية قد همشت بطريقة منظمة من قبل القوى التي تتحكم بالاقتصاد العالمي منذ الحقبة الكولونيالية و سرعان ما أضحى كتاب “الأوردة المفتوحة ” النص المهيمن في خطاب الدوائر الثورية الأكثر راديكالية و قد بيعت منه آلاف النسخ في النصف الجنوبي من عالمنا المنقسم في أوقات ساد فيها الحراك الاجتماعي العنيف و حروب العصابات و الدكتاتوريات الكريهة.
ابتدأ غاليانو عهدا جديدا في جهده الأدبي و الثقافي بنشره ثلاثيته المبهرة المعنونة ” ذاكرة النار ” التي نشرتها دار نشر بانثيون بين أعوام 1985 – 1988 و لا يزال يعد العمل الأثير بين أعمال غاليانو .
تمثل ” ذاكرة النار ” نوعا من التاريخ السري المسكوت عنه في الأمريكتين إذ نلتقي فيها مئات من الأرواح التي أعيد بعثها من شعراء و رؤيويين و دكتاتوريين و رقيق و هي جنس مشتبك من عمل أدبي يجمع بين الرواية و شذرات من الشعر و الفلكلور و كتب الرحلات المنسية و التواريخ الكونية و المذكرات النبوئية و تقارير منظمة العفو الدولية : كل هذه العناصر المشتبكة تداخلت و انصهرت لتكون تلك الخلطة المبهرة التي تشكلت منها ذاكرة النار الغاليانووية بأجزائها الثلاثة المعنونة تباعا “سفر التكوين” وجوه وأقنعة ، قرن الريح” و الذاكرة مهيكلة زمنيا و جغرافيا بطريقة تظهر فيها انزياحات مكانية مرسومة بدقة لتعمل على تمرير الرسالة التي يبتغيها غاليانو كما نشر “المعانقات” “كلمات متجولة” و”أبناء الأيام” و”كرة القدم”.
يجيد غاليانو السير على الخيط الرفيع الممتد بين الشعر و كتابة المذكرات والكراريس و تلك حقيقة بيّنة كتب عنها النقاد بوضوح ، فالناقد الأدبي في الواشنطن بوست “مايكل ديردا” عقد مقارنة بين غاليانو و كافكا و بورخس و كتب أيضا “مايك ديفيس” مؤلف كتاب ” مدينة الكوارتز” قائلا : ” لم يوجه أحد من الكتاب مثلما فعل غاليانو الاهتمام الصارخ مع كل الوضوح الأخلاقي المطلوب إلى الظروف الإنسانية و الفوارق الصارخة التي يفرزها النظام الاقتصادي العالمي الجديد ” يمثل كتاب غاليانو الآخر ” إزاحة الأعلى إلى الأسفل” : الكتاب التمهيدي في النظر إلى العالم ” صرخته الاجتماعية الأكثر غضبا ضد المجتمع الاستهلاكي الغربي و تفاقم التباعد بين عالمي الشمال و الجنوب.
يكتب غاليانو بنبرة كئيبة في هذا الكتاب : ” البلدان الفقيرة وضعت روحها و قلبها في ما كان يبدو سباقا كونيا بين السلوكيات الطيبة لكنها جنت في النهاية فتاتا بائسا من العوائد و تسميما منتظما لبيئة الجنوب ” .
غاليانو : الأوروغوياني المولود في مونتيفيديو في عام 1940 عمل مبكرا منذ شبابه عامل مصنع و جابيا و صباغا و مراسلا و عاملا على الآلة الكاتبة و بدأ منذ الرابعة عشرة في المساهمة بمقالات و رسومات كارتونية في صحف و مجلات الأجنحة السياسية اليسارية و سجن من اجل نشاطه هذا لفترات قصيرة مع عشرات الآلاف من المواطنين فكان أن غادر في 1973 إلى الأرجنتين التي سرعان ما ابتليت هي الأخرى بنظام حكم عسكري دكتاتوري عام 1976 دفع غاليانو إلى طلب اللجوء في برشلونة بإسبانيا ثم عاد أخيرا إلى موطنه أوروغواي في 1985 بعد عودة الحياة المدنية إلى البلاد .
أجرى الحوار”سكوت شيرمان” من صحيفة “أتلانتيك أون لاين” في 28 تشرين الأول 2000 في فندق ” ميلبورن ” بمنطقة مانهاتن النيويوركية و دار معظم الحوار بالإسبانية التي ترجمت لاحقا إلى الإنكليزية.
الحوار
*في مقالته المعنونة ” لماذا أكتب ؟ ” يعترف جورج أورويل أن محفز شروعه في أي عمل إبداعي ينبثق من شعور بالتحزب تجاه جماعة ما ومن شعور طاغ أيضا تجاه اللاعدالة السائدة * ما باعثك أنت على الكتابة ؟
– أكتب فقط عندما أشعر بأن يدي تحكني ، أي عندما أشعر بحاجة جامحة للكتابة . تعلمت هذا من موسيقي كوبي عظيم كان يتلاعب بالطبول في فرقة الجاز مثلما يفعل إله و كان سره الأكبر في كل ما يفعل هو أنه يعزف عندما كانت يده تحكه هو الآخر . أكتب عندما أشعر بالحاجة لأن أكتب و ليس منساقا بثقل ضميري و ما يمليه علي حسب، لا أكتب في العادة بدافع من السخط تجاه اللاعدالة السائدة بل أكتب احتفاء بالحياة التي أراها جميلة حد متاخمة الرعب و مرعبة بذات الوقت حد متاخمة الجمال.
× في كتابه المنشور عام 1993 و المعنون ” يوتوبيا من غير ذخيرة : حركة اليسار في أمريكا اللاتينية بعد الحرب الباردة ” يجادل مؤلفه “خورخي كاستانيدا” إن طبقة الانتلجنسيا الأمريكية اللاتينية أدت على الدوام وظيفة أساسية و وصفهم بأنهم كانوا على الدوام ” حافظي الوعي الوطني و ناقدي المثالب و المطالبين العنيدين بالفهم و المساءلة و أناسا ذوي مبدأ وشرف ” في كثير من البلدان الناطقة بالإسبانية و البرتغالية يبدو الفنانون و الكتاب والموسيقيون مستنزفين من ظروف الفقر و اللاعدالة السائدة حولهم و أذكر حامل نوبل البرتغالي “خوزيه ساراماغو” عندما سافر إلى المكسيك و أبدى جهارا تضامنه مع متمردي الزاباتيستا ، فهل ترى أن كتاب أمريكا اللاتينية لهم مستوى أعلى من الوعي السياسي من نظرائهم هنا في الولايات المتحدة ؟
– لا أثق أبدا في التعميمات الفضفاضة و لا أريد في الحقيقة الخوض في موضوعة دور المثقف و وظيفة الكاتب و أعتقد ان هذا الدور يعتمد على طبيعة البيئة التي يعمل المثقف أو الكاتب في أجوائها ،لذا لا يكون من الإنصاف التعميم المفرط . ساراماغو كاتب عظيم ويحفر عميقا في أرواح شخصياته الروائية و هو مدفوع دوما بزخم من رغبته في إبداء التضامن وهو ذات ما يدفعني أيضا إلى خوض الكتابة و لكن هناك كتاب آخرون ليسوا سياسيين على نحو صارخ الوضوح و برغم ذلك أفادوا أعظم الفائدة بالكشف عن الهوية المخفية لشعوبهم فكان لهم دور سياسي فائق الأهمية من دون أن يروجوا سياسيا لأنفسهم أو لأدوارهم و هو ما أراه في المثال النموذجي للكاتب المكسيكي البارز ”خوان رولفو” الذي أعده الكاتب الأمريكي اللاتيني الأبرز في القرن العشرين ،فقد كان متمكنا باقتدار لا يضاهى ان يزيح القناع عن الحقيقة أقصد هنا الحقيقة في أعمق تجلياتها و ليست حقائق الحياة اليومية السطحية العابرة و الزائلة : أعني الحقيقة المفضية إلى أحلام منعشة مع حالة الذهول المصاحبة لها معا ، لكن على المرء ان يكون دقيقا في ما يخص التعريف ،فثمة ميل هذه الأيام لتوصيف الأفراد قسرا ، و فرزهم في خانات و هنا قد يكون لمفردة “الكاتب السياسي ” محض وظيفة التوصيف و لا شيء غير هذا و هو امر أجده مضللا و مخاتلا ،فكلنا سياسيون حتى من غير أن نعرف أو نؤكد هذا و الهوية السياسية الصريحة هي ليست الإمكانية الوحيدة المتاحة لدورنا السياسي المفترض ،كما ان لعبة التوصيفات المجانية خطرة و ينبغي الانتباه لها بجدية.
× لذا لدينا مثال ساراماغو من جهة، و مثال رولفو من جهة أخرى؟
– لا ، ليس من جهة أخرى فكلا الرجلين مشغولان بذات الأفكار و مهمومان بذات الهم و يدافعان عن ذات الرؤية و يسعيان بعزيمة لنزع القناع عن وجه الحقيقة ومساعدتنا في ان نرى افضل و هذا ما أراه الوظيفة الأسمى للفن في كل أشكاله.
× إذا كان لكاتب ما التزامات سياسية محددة ، كيف يمكن له أن يعبر عن نفسه فنيا من غير ان يقع في فخ النمط الدعائي ” البروباغاندا ” ؟
– لا أرى في نفسي كاتبا ذا التزامات سياسية بل أنا كاتب أحاول الولوج إلى الأسرار الغامضة للحياة و المجتمع : أعني تلك المناطق المخفية حيث يمكن للحقيقة ان ترتدي قناعا ، أرى انشغالاتي السياسية و عملي ككاتب متساويين ، لذا لا أجدني مضطرا يوما ما لمواجهة مشكلة النمط البروباغاندي في ما أفعل . البروباغاندا في العموم غير كفوءة في الأداء ،لأنها تتعامل مع اللحظة الحاضرة حسب و هذا مقبول لكنه لا ينتمي إلى فضاء الإبداع الفني ،و ثمة حالات محددة لأعمال فنية خدمت أغراضا دعائية في وقتها لكنها عرفت لاحقا بقيمتها الفنية الخالصة و ليست الدعائية . فيلم ” كازابلانكا ” مثلا كان فيلما دعائيا و معه معظم أعمال ايزنشتاين المنتجة في الحقبة الستالينية لكنها برغم طبيعتها الدعائية هي أعمال فنية عظيمة و أقول بوضوح : ليست كل الأعمال الدعائية سريعة الزوال وتتلاشى قدرتها على التأثير لكن لا يمكن نكران أنها في الأغلب أيضا سريعة العطب إلا مع استثناءات محددة نادرة ،و هكذا تراني لا أميل إلى صياغات اعتباطية ،فالحقيقة شديدة التعقيد للغاية و تستعصي على النظرة الأحادية.
× إذن “جان بول سارتر” أحد الأمثلة الممكنة لمن أخطأ في الاعتقاد بأن على الكتّاب التزامات محددة و أنهم يجب أن يسلكوا وفقا لوجهة ما؟
– لا أعتقد أبدا أن على الكتاب أن يكونوا سياسيين لكن بذات الوقت ينبغي ان يكونوا صادقين في ما يفعلون و ان لا يبيعوا انفسهم : أعني ان لا يسمحوا لأنفسهم بان تشترى و يجب ان يحترموا انفسهم و يحافظوا على كرامتهم ككائنات بشرية و كتاب محترفين و يجب عليهم ان يقولوا ما يريدون قوله حسب و ينبغي لكلماتهم ان تكون أصيلة و نابعة من قلب خافق بالمحبة لكل ما هو إنساني ،و بعكس هذا ستغدو كلماتهم إنشاءات فوقية و مصطنعة. إنها لكارثة كبرى حقا أن يتسلم الكاتب أمرا مباشرا من جهة ليصبح ” كاتبا سياسيا ” لأن النتيجة ستكون كارثية بمثل النتائج التي انتهت إليها تجربة ” الواقعية الاشتراكية ” التي أراها كارثية تماما مثل نظيرتها ” الواقعية الرأسمالية ” التي يغض النظر عنها دوما.
______
* روائية ومترجمة من العراق/ المدى