الدور الشعبوي المستعار للمثقف

الدور الشعبوي المستعار للمثقف

*عبدالإله بلقزيز

 

لماركس عبارة شهيرة، في منتصف القرن التاسع عشر، مفادها أن الفلاسفة لم يفعلوا، في كل التاريخ، سوى أنهم حاولوا تفسير العالم، بينما المطلوب تغييره . وقد بنى مثقفون كثر على هذه المقولة التي نشأت من رحمها فكرة الالتزام فيما بعد، فتخيَّلوا أن في إمكانهم أن ينهضوا بدور رسالي كبير على هذا الطريق، ونسبوا إلى أنفسهم القدرة على حمل مشروع التغيير وقيادته، والنطق باسمه! وكثيراً ما أفرطوا في التنظير لمركزية أدوارهم في التاريخ، إلى درجة القول إن امتلاك الطبقات الكادحة وَعْيَها وقف عليهم، وإنهم من يقوون على توليد أطرها التنظيمية والتمثيلية، وترشيد فعلها السياسي . . . إلخ . ولنا في التراث الأيديولوجي اليساري العالمي الكثير من الشواهد على ذلك الدور الاستثنائي الذي ظل المثقفون يكلونه إلى أنفسهم في التغيير وصناعة التاريخ، وعلى تمثلاتهم الأسطورية لأنفسهم .

ليس دور المثقفين أن يغيروا العالم، كما قرَّر ماركس، ولكن أن يفسّروه، وأن يضعوا تحت تصرف الشعوب رؤى تسمح لها بأن تغيّر شروطها نحو الأفضل . ليس للمثقف من رأسمال سوى رأسمال المعرفة، وهو – قطعاً – رأسمال شديد الأهمية في أي مجتمع، وخاصة في المجتمعات التي تعاني نقصاً في المعرفة والتنمية الثقافية والعلمية، مثل المجتمعات العربية . إن تخلي المثقف عن هذا الرأسمال أو استصغر شأنه، واستسلم لإغراء الدور الرسالي المزعوم، دور حامل مشروع الخلاص، خان دوره وانزلق إلى موقع الداعية، وليس له ما يقدمه للمجتمع، من هذا الموقع، سوى الوعظ والتحريض والوصاية!

يحق للمثقفين أن ينتموا إلى أحزاب ونقابات، وأن يلتزموا سياسياً واجتماعياً، بل قد يكون ذلك من أوجب واجباتهم، ولكن عليهم أن يلتزموا – في المقام الأول – بقضية الثقافة والمعرفة، وأن يخلصوا لها من خلال تعظيم المنتوج الثقافي والمعرفي الذي يعود على المجتمع بأجزل الفوائد . ومعنى ذلك أنهم مدعوون إلى عدم استعارة أدوار غيرهم، وأن لا يتركوا غيرهم (السياسيين مثلاً) يستعيرون أدوارهم، في الاستعارتين تخليط هجين وقلب للطبائع لا يجوز . وإذا ما انضم مثقف ما إلى حزب سياسي، وهو أمر مشروع تماماً ومرغوب، فهو يفعل ذلك بوصفه مواطناً لا بصفته مثقفاً، لأن انتماءه إلى حزب هو مما تكفله له حقوق المواطنة . إن الطبيب أو المهندس أو عالم الفيزياء لا يخلط بين حرفته (العِلم) وانتمائه السياسي، وعلى الباحث أو الشاعر أو الروائي، أن لا يخلط – هو أيضاً – بين الأمرين .

لم تكن شعبوية المثقفين إلا استعارة كاريكاتورية لأدوار السياسيين، وتقمصاً فاشلاً لها . وهي هبطت بمعنى الثقافة إلى درك أسفل، وحوَّلتها إلى وجبة ديماغوجية بئيسة لم تُشبع جمهوراً ولا أغرت متعلمين . وليس معنى ذلك أن الشعبوية تليق بالسياسيين، وتناسب أدوارهم، ولكنها عند الأخيرين أقل وطأة مما هي عند المثقفين، فهي إذا كانت مرضاً عند أهل السياسة، فهي تبلغ درجة الوباء عند المثقفين، قد تبدأ شعبوية المثقف من مقدمات مقبولة، مثل الالتزام، لكنها كثيراً ماتأخذه إلى المداهنة والممالأة، وفقدان الحس النقدي، والتبريرية الفجة، وهذه – وسواها كثير – ليست من قيم المعرفة والثقافة، ولا من قيمهما التي بها تتأسسان وتشتغلان .

سبق لي أن انتقدت في كتابي “نهاية الداعية” هذا النمط من المثقف الشعبوي الذي يتحوّل إلى داعية، وأضيف إلى ما قلته عنه أن منزعه الدعويّ، الذي ما انفك يعبّر عن نفسه باسم مفهومٍ مقلوب للالتزام، لم يكن مجرَّدَ نقضٍ لدوره مثقفاً، ولم يكن محض خيانة منه لدوره الثقافي والمعرفي الذي ينتظره منه المجتمع، ويتهرب – هو – من أدائه متقمصاً أدوار غيره، وإنما هو فوق هذا كله – وقبل هذا كله- بات منزعاً محفوفاً بالمخاطر في الظروف الراهنة، إن لم نقل إنه صار مستحيلاً اليوم، أو هو – في أقل الأحوال – بات غيرَ مُجد وغيرَ ذي موضوع، وأشبه ما يكون بطبخ الحصى أو عجن الماء، فلقد ضؤلت فرص إعادة إنتاج ظاهرة الداعية اليساري، أو الداعية التقدمي، في عصر تكاثف فيه الدعاة السياسيون – الدينيون، الذين تسعفهم بضاعتهم الثقافية (الدعوية) بأن يبزّوا اليساريين بَزّاً في الشعبوية، وخاصة إذا أخذنا في الحسبان واقع الانحطاط الثقافي الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، والذي أسهم تردي مستوى التعليم والجامعات في إنتاجه، ولقد تكون هذه الاستحالة (في تجديد شعبوية المثقف التقدمي) مناسبة ملائمة كي يلتفت المثقفون إلى ما هو مطلوب منهم – فعلاً، من أدوار ذات صلة بالمواقع التي يشغلونها في عملية الانتاج الاجتماعي بوصفهم حَمَلَة للرأسمال الثقافي .

________

*مفكر من المغرب ( الخليج) الإماراتية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *