الكتابة بالعطر: «الحدود البرية» لميسلون هادي



*د.اشراق سامي

كلما اشتد علينا خناق الظروف والازمات واحاطتنا مشاعر الإحباط واليأس من كل جهة وحين يبدو عبور الحدود حلا وحلما تنظر نحوه القلوب التي اتعبها الخوف والهم وانتظار المجهول ،كلما عادت مثل هذه الاجواء استعادت ذاكرتي رواية بعنوان “الحدود البرية “لميسلون هادي” تدور احداث هذه الرواية ضمن زمنين مختلفين الاول عبارة عن طريق سفرة تمتد من بغداد الى عمان تمر خلال هذه السفرة عودة بالذاكرة عن طريق الفلاش باك لمسافر يمر عليه الماضي بمشاهده وصوره قاطعا الطريق الصحراوي الممل ومهادنا لمشاعره واهواجسه وهو يقبل على تغيير عالمه المعتاد.

تتبنى كل شخصية في الرواية التعبير عن نفسها بصوتها الخاص لذا نحن نتعرف على عوالمها من منظورها الخاص ،وكما هي عادة الروائية ميسلون هادي تترك لشخصياتها الحرية تماما في السلوك والتصورات والمشاعر وحوار تلك الشخصيات غالبا مايكون مؤسلبا بطريقة ذكية ،بمعنى منح كل شخصية اسلوبا وطريقة خاصة لكلامها تتماشى مع تكوينها المرسوم.
وفي هذه الرواية يمتزج عطر الحب بعطر بغداد برائحة البارود والغربة ،دائما مايخيل لي ان الكاتبة ميسلون هادي تكتب باسلوب يوقظ ذاكرة العطر ،فالقارئ يستدل طريقه بوضوح بين رائحة الكلمات ،فلبيوتها البغدادية عطر ولحدائق مدنها عطر ولشخصياتها المرسومة بذكاء عطر.
تنكسر في رواية الحود البرية قارورة عطر البطلة ليظل اريجها يفوح في المحلة والشارع ويظل ينسج بين زمن مختلف هو الزمن الذي اختارت الحكاية رصدة وقد امتد عبرعشر سنوات بين عام94 وسنوات الحصار الاقتصادي والافق الضيق المحدود للآمال الانسانية المعتادة بحياة مستقرة وسوية حتى عام 2003 بعد التغيير الكبير الذي حصل داخل العراق.
الاهتمام بالتفاصيل يجعل الرواية عملا منسوجا بصبر ودقة،والتركيز على حاسة الشم يبدو واضحا في معظم الرواية فهي تقول مثلا:
“روائح البيت التي تنفثها مروحة المطبخ الكهربائية بين الحين والحين محيلة اياها الى عذوق حيوات حدثت ثم زالت” /27
“وانشغلت بوضع الملح في الماء الذي يغلي على النار واصبحت تقف خلف الموقد بلا وجود تقريبا تتشمم ابخرة الرز وهو يغلي ويتحلب في القدر ويتحول الى كتله بيضاء مسلوقة مليءة بالثقوب “/45
“اصبحت رائحة السمن تغني على رائحة الرز المسلوق”/46
“داهمتها رائحة تراب محفور ..رائحة زكية ولذيذة وترد الروح”/ 102
“دخان السيارات اصبح خانقا “/129
ثم توقف بازاء جنود مدججين يضعون عارضة على الطريق .مد احدهم رأسه ،ففاحت على الفور رائحة طيبة”/ 130
“ولم يتلذذ في حياته برائحة عشاء مثل عشاء تلك الليلة .استيقظ من نومه على رائحة شواء شهية “/133
“يتذكر اهل الزقاق كلهم تلك الرائحة الطيبة التي انتشرت في الزقاق كله من اوله الى اخرة ،ومكثت تتضوع في هواء المكان اياما عديدة ،تساءلوا فيها عن مصدر الرائحة ،وغابوا معها في سحابة من المشاعر الخفية”.
هذه اشارات سريعة اخترتها من الرواية دون مسح شامل اودقيق لها ..ومع ذلك يتضح تركيز الرواية على العطر والروائح بشكل عام ،ولان “الحدود البرية “هي رواية تتحدث عن الوطن عن لوعته التي تمتزج بلوعة الحب ولان مثل هذه الموضاعات تبدو ذات شحنة عاطفية عالية وارتباط غامض بمشاعر الانسان وبما انه احدى الخصائص الغامضة للرائحة هي تلك الجسور من الذاكرة والاحساس التي تمدها مع الاشياء والاشخاص والاماكن فللعطر تأثير ساحر وخاص جدا حين يرتبط باشارات الذاكرة.
لذا فقد ارتقت هذه الرواية للحوار مع ا لاحساس بطريقة موحية بالحنين الى حد كبير فانا كقارئة لمست رائحة المكان والزمان ونجحت الكاتبة ان توصل لي رسائلها اعتمادا على الاحساسو بطريقة غير مباشرة حين لملمت تفاصيل التفاصيل وخلقت اجواء روائية تفوح بعطر الوطن والحب والحياة والشجر وتحتفي بقارورة عطر ثمين سقطت وانكسرت على جدار بينت بيان البطلة التي ظلت تنتظر فارسها الذي غيبته الحروب واضاعت مصيره منحنيات الوطن المفجوعة، العطر الذي سال وفاح مولدا بين الناس شعورا بالنشوة كان بعض عمرها الذي تكسرت سنواته على هذه الارض وهو ينتظر عودة الغائب ،ثم تعود لتروي لنا عودة ثانية للبطل الاخر خالد الذي يرجع الى وطنه دون ملامح ودون رائحة.
______
*(العالم)

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *