الأديب الراحل فايز محمود ..اغتراب وجودي مرتبط بالوعي

(ثقافات)

 

الأديب الراحل فايز محمود ..اغتراب وجودي مرتبط بالوعي

صالح القاسم *


الاغتراب الوجودي يسببه الانفصال بين الواقع والممكن في الوجود الإنساني، ورغم أن الاغتراب له جذور في الكثير من الأعمال الأدبية إذا مُحّصت ودققت، ورغم أن الاغتراب قد يكون الدافع الرئيس لإبداعات الكثير من الكتاب، إلا أننا قلما نجد موضوع الاغتراب كقضية حدَّ المأساوية المفجعة في عمل قصصي أو روائي عربي، وقلّما نجد كاتباً عربياً كتب عن الاغتراب بمأساوية مفجعة حدّ الاختصاص، ولعلّ ذلك بسبب ارتباط الاغتراب بالوجود: وهما المسألتان اللتان لا يتأتى الخوض فيهما إلا للفلاسفة. وقد عُرف عن فايز محمود أول ما عُرف، بأنه فيلسوف. لذلك حظيت كتاباته القصصية باحترام الأوساط الأدبية.

سقت هذه المقدمة كفاتحة لدراسة قضية الاغتراب الوجودي في مجموعة فايز محمود القصصية الأخيرة “قابيل”، ولتنبيه القارئ أنه أمام كاتب فيلسوف من جهة، وله من التجربة في الأدب ما يؤهله ليكون في مقدمة صفوف القصاصين العرب، فكتابات فايز محمود نمت وترعرعت في ظل أخطر الأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية. وقد عايش هذه الأزمات بمختلف وجوهها اقتصادية كانت أو سياسية، بل كان أحد المشاركين فيها.

وإذا كانت جميع أعمال الكاتب الألماني فرانز كافكا تقريباً قد عولجت على أنها نابعة من شعوره الاغترابي، فإن فايز محمود في مجموعته “قابيل“ قد تناول قضية الاغتراب بشكل وجودي. والاستغراق في الرمزية حدّ الغموض لا يتوفر في أدب فايز. فالأول يهودي ثري، والثاني عربي مسلم طفران. والأول لم يبن عوالم خاصة، أما الآخر فقد اختار الإقامة بين البشر الأسوياء وبلسان البشر.

الاغتراب عند فايز محمود ليس مسألة شخصية، فقـد وصفه في موضـع: “كافكاوي. وكافكاوي بهذا البعد الاجتماعي لا بالمعنى الإنساني“ (ص 72). وفي موضع آخر قال: “فيه كافكاويه خاصة بنا“(ص 74). لكنه قضية الإنسان منذ بدء الخلق مروراً بالحاضر وحتى المستقبل البعيد الذي لا ينتهي: “ستعاني الشوق الذي لا ينتهي إلى البلد البعيد“ (ص 145).
قضية الاغتراب مرتبطة بالوعي في العادة، وهذا ما أكده فايز، فمنذ أن وعت حواء الخير من الشر كما ورد في قصة السقوط على لسان الحية، “ستكون كالرب إحاطةً بالخير والشر”، وهم في عذاب: “وفي معظم الليالي حينما كانوا يسمرون مع بنيهم، كان آدم خاصة لا يكف عن استعادة تلك الذكريات، وكانت زوجته بدورها تشاركه الحنين ولو على نحو أقل – إذ إنها كانت تدعوه إلى الواقعية، فما مضى ما عاد ينفع التحسر عليه، ثم لم لا يبصران هذا الفردوس الأرضي الذي هبطا إليه وكل ما فيه يتشعشع بالصفاء والنور نهارا، وبالسكينة والقمر والنجوم ليلاً“(ص 11-12). فالحنين والذكريات هنا، والواقعية، والفردوس الأرضي كلها بدائل، على المغترب أن يختار منها.
والوعي نفسه مرتبط بإدراك الإمكانات، وتصور ما ليس قائما ويمكن أن يوجد، وهو الذي يولد الحاجة إلى التضحية بالبدائل. فهل كانت الواقعية في النص السابق إحدى الخيارات لتجاوز محنة الحنين والذكريات؟
من هنا بدأت قضية الاغتراب الوجودي عند فايز تنمو. ووعيه في المجموعـة القصصية هـو وعي الواقع المفروض عليه، أي أن احتراقه الداخلي وهو يتفرج على ما يحدث في الواقـع من الخارج يحدث معـه ما يحدث مع المغترب: “المواجهة بملء حريتي واقتداري ورفضـي واختياري.. هكذا يصـل إلى النتيجة التي يرتاح إليها“ (ص 56).
الاغتراب عند فايز يبدأ من حواء وقابيل، وينتهي بالإنسان الموجود في قصة قابيل والقصص الأخرى، كأنه يريـد أن يقول إن الاغتراب مسألـة وراثية لا تنتهي: “الشوق الذي لا ينتهي“ (ص 145)، فقابيـل يدرك الواقع المفروض عليه، وعليه أن يضحّي، فاختار التضحية بأخيه هابيل: “فهابيـل هنـاك على رأس الجبل ذاك، طاوعنـي أن يعرض نفسه قرباناً للرب مني” (ص 24).
لكن “قابيل” لا ينجو من الموت، وهذا الموت يقابله موت “غريغور” في رواية “المسخ” لكافكا. وهو من وجهة نظر فايز محمود موت الجميع لتنتـفح جروحهم الثلاثة محدثين طوفاناً، آتياً “من لجج النفوس ومن حمأة الطين والخلايا“ (ص 37)، و “ليختلط الموت بالحياة والحياة بالموت بتعقيد أشد يتمزقون بين واحدهم وآخرهم والجميع“ (ص 38)، وهذا يؤكد موت “عربي“ في قصة النهاية أو انتحاره بشكل أدق. وفؤاد الذي اختار الحياة يعرف ويعي أنه سيعاني “الشوق الذي لا ينتهي“ (ص 145)، فصورة “الشوق الذي لا ينتهي“ لا تختلف كثيراً عن صورة اختلاط “الموت بالحياة، والحياة بالموت بتعقيد أشد“ (ص 38).
اغتراب الشخصية/ الشخصيات الرئيسة (البطل) في القصص، يبدو جلياً بسبب إدراكها الواقع المفروض عليها، وأنها تحاول أن تتصور ما يمكن أن يوجد في النطاق الضيق للواقع: “كان لا بد أن أرى لها وجهاً آخر مقنعاً” (ص 40)، فاختار الرحيل، وقد يلتبس على القارئ ويعتقد أن رحيله كان بسبب المرأة. لكن المرأة موجودة هنا لتجاوز العزلة، وهي لم ترد بقصد تدمير الذات وموضوع الخلق أو التجربة الفنية. ولكن لأن علاقات الحب هي أعمق السبل وأكثرها إشباعاً لقهر انقسام –(الذات العالم)- وحتى يظل الكاتب هنا محافظاً على النموذج الأساسي (ذاته وموضوعه)، وحتى لا يتبدد الرجل والمرأة في غمار القضية الاغترابية: “الأصل في وجودنا ألاّ نفقد رؤيتنا الشاملة، ألا ننسى البدء والنهاية، ألا نضيع غبطة ذكرى فردوسنا الذي ينتظر عودتنا إليه، ألا…“ (ص 21). كذلك ترد معاني الاغتراب في أماكن كثيرة:
– “رفض آدم هذا العالم.. لأنه ظل متعلقاً بالسماء“ (ص 4).
– “وانكشفت النهاية البشعة، هذه المرة كنت وحيداً” (ص 42).
– “مع وحشة الوحدة والانشغال الاضطراري” (ص 43).
– “أجرة السكن وثمن لقمات الطعام الزرية، وثمن السجائر والكتب“ (ص 42).
– “لا متسع لقابيل في الأرض“ (ص 42).
– “ويزيد شعوري بالغربة.. بل إنني سمعتهم يتهامسون: لا ندري كيف وجد هذا فجأة بيننا، لا أهل له ولا طفولة نذكرها ولا أي ماض“ (ص 46).
– “فانتكس هذا الدور إلى رحيل“ (ص 42)، لأنه أراد أن يرى “لها وجهاً آخر مقنعاً” (ص 40).
– قال في نفسه: “يا أمي وكيف أجيبـك، كثيرون الذين دفعهم حلمهم بالواجب حتى أقصى التطرف، وحينما لمسوا محدودية قدراتهم أو هشاشــة آفاق الحلم عادوا إلى واقعهم (بذات) براءة القلب والروح التي دفعتهم سابقاً مع رياحها حتى الضفاف الأخرى للشاطئ“ (ص 52). وهذا الكلام قريب جداً من كلام كافكا: “ما الحياة إلا انحراف دائم لا يسمح لنا حتى أن نعرف ما هو الشيء الذي يحرفنا عنه”.
والشعور باغتراب وجوده، كابوس لا يستطيع أن يزيله من ناظريه: “غرق به حتى القرار الأخير“ (ص 54)، و“الذي انتكس هذا الدور إلى رحيل“ (ص 42)، وقراره هذا جزء من نضاله الذاتي: “لا بد أن أخرج ذات يوم قوياً“ (ص 56)، وهو إن لم يفعل ذلك فإنه “يزيف حياته، ويخدع رفاقه بمعنى ما، يثقل ضميره، ناهيك أنه لم يستطع أن يتفاعل مع الأحداث بحيوية.. وهكذا وصل في النهاية إلى الإحساس الفائق بالاختناق” (ص 59) وهذا نفسه ما قاله غارودي عن كافكا: “العالم الذي عاشه عالم خانق مجرد من الإنسانية، عالم الغربة“. ومما قاله باحث عن كافكا أيضاً: “لم يرغب في العيش كما يعيش الآخرون في زيف وضلال”.
و”الضعف” من بدائل الاغتراب الوجودي عند فايـز محمود: “أحياناً تدهمه لحظات من الضعف، تعتريــه لحين من الزمن.. عندما يفكـر: هذه أمة مهزومة ” (ص 61)، و”مـن حقـي أن أعيش هذا القسط مـن العمـر، أن أعيشـه هنيئـاً مستريحاً، فلا أنا محور شعبي، ولا أنا عبقرية ثقافية“(ص 62).
إنه في صراع دائم مع الحياة: “موتنا نحن في صراع الحياة“ (ص 87)، والصورة الاغترابية هذه، أو الصور الاغترابية عند فايز محمود بشكل عام، لها معانٍ مشابهة عند كافكا: “إن الإشارة الأولى لبداية المعرفة هي الرغبة في الموت، فهذه الحياة لا تحتمل، والحياة الأخرى ليست في متناول يدنا، ولذا فإننا لا نخجل من رغبتنا في الموت”. ويقول فايز: “أي عالم هذا؟“ (ص 67)، و“العالم يغدو سجناً ضيقاً ويتحطم الزمن فيستحيل ثانية“ (ص 69)، كأنه “يعيش موات الزمن حياة هذه الساعة” (ص 70)، نتيجة القهر العبودي، و”انحطاط وعي المجتمع وبنيته“ (ص 72)، “عالمنا يدور حول نفسه.. والحق أنه يُدار ولا يَدور” (ص 77)، “ثم أولئك أيضاً مدارون.. سلســلة الأفكار تقودنــا إلى الرأس.. رأس يدور في فلك رأس أكبر وأعتى“ (ص 78).
يتعمد فايز تكرار هذه الصور ليؤكد قضيته: “دعونا من القضية، نؤكد ونكرر، فقد غدت بدهية.. بدهية“ (ص 77 )، وهو هنا يقصد القضية الكافكاوية كما وردت في مكان آخر من هذه المقالة.
صور “القضية” موجودة في كل صفحة، لا بل في كل سطر، ولو استشهدنا بها جميعاً لتحتم علينا نقل صفحات بأكملها إلى هنا: “نحن المحرومون من العشق والحب والإنجاب. نحن المحرومون من الحضور في وجودنا الميلاد والموت وما بينهما من حرية وفعل وفكر وإرادة، نحن نحن نحن نكتشف المهزلة الأكبر، نكتشف الخدعة الأدهى.. نقتل موتنا وعدمنا“ (ص 76)، و“أحياء في الموت“ (ص 80)، و”إنها حياة في الموت، حياتنا نحن في وضع مماثل ضد الحياة، ونعي من جهة أخرى أنها موت في الحياة، موتنا نحن في صراع الحياة إطلاقاً ضد العدميـة، نقف في حالتنا هذه لنصعق بما يشبه الكابوس بمشاهدة الموت الصارم الكامل الميئس بأم أعيننا“ (ص 87).
ووجوده “يتتالى بصورة متعاقبة مكتظاً بأحلام اليقظة“ (ص 89)، ويتخلله “بين الحين والحين سلسلة كوابيس“ (ص 89) تصدمه وترده إلى أعمق أغوار واقعه، ونكتشف أن: “العالم وهمي وسجين، ومرتب ومبوب كما يشاؤون هم، الذين أعادوا خلقه، وقدّروا مصائره“ (ص 89)، “يدار ولا يدور“ (ص 77)، ونصل إلى نتيجة أن “الخطأ يعم العالم“ (ص90)، و“بِتنا نستشف كرتونية هذا العالم المحبوسين عنه في حبسه وخرافته اللذين يعانيهما بدوره“ (ص90)، وليفاجأ الناس بالطوفان فلا المراكب نفعت، ولا خفية العبور أجدت. “إنها جدلية، نحن طوفان نقيض هذه الحياة في العمق“ (ص 106)، و“الأرض ظلت غريقة لا يبين إلا عوم المياه يملأ كل الجهات من دون ضفاف“ (ص 107).
ومن معاني الاغتراب أبدية الفراق: “ولعلـه يســاعد على تحمل أبدية الفراق والغياب.. لكن حضورك أبدا، أيضاً لا يزول لحظة وجود الذاتي وعالمي الصميم” (ص 119)، ورغم إدراكه التام بأن السجن سيكون نصيبه نتيجة قرار الإقامة، إلا أنه يصر على عيش غربته “الذاتية كاملة في وطني واق الواق“ (ص 125)، وهو يرضى بذلك لأنه على وعي تام أيضاً أنهم لن يستطيعوا “أن يقتلعوا مني الحب الذي أؤمن به ويفرج عني.. هل هذا معقول؟“ (ص 125)، فقد “غدا ينظر إلى نفسه من أي عضو شاء“ (ص 127)، وهي قمة الوعي للواقع المفروض هنا. ويتوج هذه القضية بالمقولة: “لم يكن أتفه من رحيلي إلا عودتي“ (ص 59).
لقد وصلت حالة الاغتراب عند فايز محمود “حتى المغيب الأقصى من الروح“ (ص 130)، و“انطفأت نجوم عيونه في جسده، وتوامضت شمساً مكشوفاً في فلك روحه“ (ص 129)، وأدرك أن “سجنه ومأزقه الذي كان سنوات حصره وقع لتخطبه ضد التيار“ (ص 134).
إن اغتراب الشخصية الرئيسية (البطل)، الذي أدى بها إلى التخلي عن الإمكانات المحدودة، وعدم تحقيق وجوده سواء عن طريق الرحيل، أو الإقامة، كانت نتيجة سعي الكاتب إلى عدم تدمير الذات كما حصل لـ”عربي” الذي أجهز على حياته بنفسه ليرتاح محققاً النتيجة “التي يرتاح إليها“ (ص 56): الموت. والموت في الفلسفة الاغترابية يعد بديلاً محتملاً: “ماذا ينتاب العاشق حين يصطدم باليأس؟“ (ص 144).
الحديث عن موضوع واحد كالاغتراب الوجودي عند فايز محمود لا يكفي. فلا بد -ولو إشارات- إلى أمور أخرى تتعلق بالمستوى الفني المتميز الذي حبك بوساطته هذه القصص، بإيقاع نغمي مدهش، جعل كل قصة تبدو كأن لحناً موسيقياً يربطها، معتمداً على استجلاء تجربته الذاتية الشمولية، ومزاوجتها بالتجربة الإنسانية الاجتماعية وصولاً إلى حالة العيش في الزمن الرديء.
ولعل أسلوبه هذا هو السبب وراء خفة حدة وقع المأساة على ذهنية القارئ. لأنه لم يرد دغدغة مشاعر القلوب بقدر ما كان يريد مخاطبة العقول. لذلك خلت القصص من “دفء الأحاسيس“ التي قال عنها الناقد د.إبراهيم خليل: “فقضية فايز محمود متعلقة بفلسفة الوجود. وبغير لغة فايز هذه لا يمكن لأي خيال أن يفسر ما فسره فايز”.
لغة فايز هذه جاءت متسقة تمام الاتساق مع كل من شكل القصص ومضامينها. وكانت كل كلمة حجر أساس في بنائها المعماري المتين. ولو استخدم أية لغة أخرى بحجة أن القارئ قد لا يفهم هذه الكلمة أو تلك، لكانت لغة ركيكة، ولكان الموضوع أيضاً أقل بكثير من هذا التوهج الذي عليه في القصص. كأنه هنا يطبق مقولة النفري الشهيرة: “كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”.
والملفت في المجموعة أيضاً الاستخدام المتين والمحكم لجملة الرموز. وليس ذلك بغريب على كاتب مثل فايز محمود الذي أدرك كيف يجاور الرمز للواقع. فقصتا “قابيل” و”الطوفان” لم يأت بهما محض صدفة، ولا من قبيل مجانية الكلام، ولا على سبيل العبث، وحتى الأسماء والرموز الأخرى المتناثرة هنا وهناك على ساح قصصه مثل “عربي“ بطل قصة الراحل تيسير سبول، وكافكا، والنهر، وخالد، وجمال، وفؤاد، والسجن.. إلخ، كل ذلك كان بحساسية فنية مرهفة عالية، لذلك كانت قصص “قابيل” الصادرة عن وزارة الثقافة (1991) تستحق دراسات أكثر، خصوصاً أنها تتضمن الكثير من ملامح الحداثة في القصة العربية التي كان كاتبنا فايز محمود -رحمه الله- أحدَ روادها

* قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *