لا لن أقول وداعاً: آخر ما كتبه الأديب الأردني فايز محمود


( ثقافات )

ملاحظة : النص ينشر لأول مرة 

لا لن أقول وداعا… 
فما من أحدٍ كان رافقني حين انقطع طريقي، وما من أحد كان ينتظر عوْدي فمن زمان ما عدت أذكره، لم يعد هناك من يفتقد حضوري
حجبني الغياب بعد طول التشرد المضْني، أنكرتني دروب الصدق والحق والحب والبحث عن المعنى، ظللتُ أتعثر بين حديْ الواقع والحلم، حتى كبوتُ يتفرسني جمْع من ضَمّني وإياهم برق العمر؛ قد يأسف البعض قليلا على ما لاقيت، وقد يعتصر الحزن، وهلات قلوب بعض من شاركتهم رعد الآمال، لكن غيم دنياي لم يمطر إلا سرابا، ملأ الأمكنة والجهات والأمداء ببياضه المتقلب النصل، ما بين طراوة بلقعه اللاّمع نظير موج البحر، وقسوة ملمحه الخلّب يترأى جبال الجليد العائم دون حدود… هأنذا أنكسر ولا يصدر عني إلا هذا الكلام… يجمد عنه السمع طي الزمهرير القارس.
*** 
لا لن أقول وداعا….

فمن ظلت روحي متعلقة بهما، خذلني القدر بعد أن سخر تولّدهما الساخر بي، من أن تشع شمسي في مدار فلكهما الواعد، ما زلتا تنبضان في رحم التكوين، ما زلتا، غسق عيون الفجر؛ بيْنا أدلج، هأنذا، شفق عمى الليل الشائب.
إبهار ليس بلوحته صورة، كل شيء مطموس، لو سال هذا السراب فماذا يتشكل؛ لا شيء سوى محيطات من الحزن تتلاطم سهوب حنايا صدري: وشرايين نازفة كفت عن الأنين الموجع، وجسد انهدم، فما سقط، يلوح منتصبا شاهدا لمثوى راحل غار غوصه في قاع مندرسٍ: ودمعة ألم تبلورت كثبان من الملح الصافي؛ من يعجن بذرة من دقيقها أديمه، لن يعرف الحاجة بالقطع إلى الزيف في هذا العالم. 
إبهار شفافية العدم ما بين لظى أمواه السراب وجليده، لا تترك ظلا، مجموعة إمحاء تظل تلتفّ على بعضها البعض، مفرغة في كليتها، مهما كثرت لا تتراكم كمّاً؛ إبهار كامن في طلْع الإبهار ببؤرة الروح الساكن دون ريح تشي بأن الحياة، ما زالت، ترسم ملامحها ووقع خطاها، في النفس والطريق.
*** 
لن أقول وداعاً… 
فما زال الشوق يتأجج في مذنب حرّيتي المنعتقة من جذب ما يقيدني؛ رسفت أيامي بشتى صنوف الأغلال، لكنني لم أقع في الشركْ، أدمتني الطعنات… والغدر.. وسوء الفهم.. وهواني في عيشي؛ لكن لا أحد سواي يدرك كم منحتني الحياة غبطة لا تناهز؛ فإني، أفخر، ما وجد الحقد لديّ موضعاً… ولا الكره… وما انتقص شوقي المتزايد للحبّ…وللسماحة.. وللصدق.. ولا للتوق إلى المعرفة.. ولنبذ الشهوات خارج شهقة الحياة الحقة؛ تلتحم غرائز وعواطف ومدركات وأحاسيس الوجود في وعي الجسد، فيتصل ظله ببؤبؤ انفجار الكون وبعث كينوناته بذي الأبدية، نجوما تومض في عينيه التي تطوينا فيما نجهله به، وفيما قد يومئ للمجهول بُعيد تخومه، من يجزم؛ ينساب الفرح فلا يمكننا أن نروي ظمأنا من رضابه، فهذا العالم أعماقه تعجّ بالظلمة، والنور محض سراب في مجاهيل أفلاكه، وما قبسه جسدنا من ضرام ناره يفوق بما لا يتوازى البثة، ما اختزنته أرواحنا من أضوائه.
أود لو أنوح وصلاً كلما تقطّع الحبل المستسر بيني وبين سواي، وأنه ممدود بيننا دون استثناء، هذا الطوفان وهذه الولادة اللامرئيين، لم نعد نرى منها إلا بعض خطوطهما العجماء.. كل شيء يروح، مشهد من يحدّق إلى كوكبه فلا يرمق غير استواء مكانه وزمانه، يفوته اتصالهما كما يفوته اتصال جسده عبر مرحلة حياته بالمكان والزمان الكوكب المكوم على جرمه؛ عوْد على بدء وبدء إلى عوْد، يعود البدء ويبدأ العوْد، تفتقد الكلمات دلالتها والوعي مرتكزاته، لا الموت موتاً دون حياة ولا الحياة حياة دون موت…. ألا من أحدٍ يبدّد عني صمت طريقي المطبق عليّ الخناق؛ تلهث أنفاسي فتخترق صقيع سراب ما يحيطني من جماد، شهاباً من الزجاج نثار كسر حطامي المشعور، يتماسك في محايثة مناخه القطب.
*** 

لا لن أقول وداعا…
الموت من مظّانه نحوي، يود دفعي دون بلوغ المستحيل الذي طفر منذ البدء الأزلي في روحي…فاته الفوْت، وطاف دون بلل يشوبه بنقطة غرق من طوفان بوال العالم.
تتالى الأوجاع، وما يترك النزف في جسدي خلية إلا نزّ منها عذاباً لا يشفى، لا أجد من يقابلني إلاّ ويرميني سهماً، حتى من أولئكَ الذين شفّ بيني وبينهم غسق الودّ، سرعان ما ذوى فجره بشفق مضرّج بالإشفاق…. أوّاه من سوء الفهم كم يكلّفنا من مشاقٍ وشقاء، وأنفسنا ليس بوسعها أن تتَسع لضيق بعضها البعض حين تتلاقى، فنفرّ … ينفر الواحد من الآخر، سواء بسواء، ذاك الذي يشعر بصَغاره وذاك الذي يربكهُ إذ يحس بكبره.
لماذا مُدَّ طريق عمري بقارِّ الزمن دون أن يمتدّ بحجار وحصو السنين والأمكنة حسب جواز سفري فإني غريب في تطوافٍ عبثاً أجد لي فيه صاحب أو رفيق أو صديق أو حبيب … ذبحني الشوق يلوب تفجّره في الروح، فيزلزلني ويتقطّع جسدي أشلاء لا تبرح تكوينها المتلاصق، ينداح الموت نحو شواطئي يتلاطمه مدّ المستحيل الذي يطْبعني بأزليّته، ولا يجزر إلا غثاءً يجف على لوحة حلمي أمداء من الحنين دون ضفاف.
هل يصح أن يجف القلم، ومداده عباب المدّ المستحيل، تقطّعت أوصاله أيضا في بقاع ذلك أو ذاك، فمن غمر انصباب المطر الهطال ما كان يجمعنا من لقاء … غاض السحاب في بلقع النفوس المستعرة بححيم الدنيا، وما يلوح على ما تبقى فيها من ذا المدّ إلاّ قسمات منبعجة على السطح، قدر هزال فراغها من عمق المحيط إزاء مستواه بتراب اليابسة.
تكتنز غيومنا بالعظم واللحم والدم، الشمس تشوي امتلاءنا بما يبعث على الغمّ، تفوح رائحته في الأرواح المصطلاة بشرار الحريق الذي يعمّ السماء… تنغرز شهبه فيما نغيم به من ملامح في صميم غرائزنا، ماءٌ حارٌ يسلق ذاته وبعضه بعضا حين يصطدم سحابا، يذيب ما كان من غمام في محيط الأفق بقاعه الأعلى، يبرق يرعد ثم يتقاصف منطوياً من شتى جهات الكوكب، يثوي في لحده بمختلف أبعاد جماد الأرض عن نواتها الموقدة، تزفر لهيبها الخارق زلازلاً وبراكيناً …. مذنبات الكون، أيضا يتقلص فيها الغيم حتى العدم ويتمدّد حتّى الوجود في سرّه الذي يظهر الحياة في أمواهها عبر تخوم انفلات الأفلاك وتجاذبها …وكذا البرودة القصوى والظلمة القصوى بحار ومحيطات يشقها الكون بوميض زخّاته وشلاّل لهبه: نقاط مبدّدة لا نهائيات من القطْع المهمل.
*** 
لا لن أقول وداعاً….

فما يستحق أن يرديني ما بان لي إبّان طرادي، ما حوصرت بعد في حومة ميداني، ومهما ناوشني قطاع الطرق وأبلو فيّ طعنا ورميا فلن أسقط مستسلما لشروط لعبتهم، فمن كان تخلى عن روحه لا سلطة له على من تعاظم روحه، ونبذ في معراجه خلالها جميع السلطات… هأنذا، حقاً، تزريني هيئتي في عوزي، إذا أُسرت على حين غفلة، فامتطاني وعدي على غير موْعد، وأشرعتُ له أمداء سرّي المكنون، وبحت جهاراً لكل من يسمعني بما كنت أحجبه في طويتي من شوق،
وشرّعت رؤياي في نقوش كشفي، وشَرَعْت أتنفّ ريح الروح الموعودة؛ أنّى لي أن أنسى هذه االذكرى، أكانت أضغاث أماني صوّح ربيعها وما كاد يُينع، نثر الأشواك والحسرة بزهور ما تبقى من زمني.
ما زلت وسأبقى أحتضن الذكرى الموؤودة في حشاشة روحي، أشدت لها ضريحا باذخا بمسرات الشهادة، كل طرفة عين من أفولها المعلق أطلقته إشراقا لا يغرب، فبزغ شتيت شروقه المنسرب خطفا زمنا يمور بالأبدية، يزهو بالآجال البارقة بالأزل الذي لا يسبق، ولا تدّاركه ظلمات الغد الذي لا ينفذ، فإنه اليوم الخالد على ما يتعاقبني من أيام رحيلي المجهول؛ ما زلت أطوي أصقاعه اللاّحبة مهيض الجناح، أتواثب علْواً وخفْضا، أضلع في مشيي لا يخالج عزمي وهن ولا ينتابني دوار، فدوار الأفلاك يلهث في خافقي، تماهيت في جسم الكون ولو أنني حجبت عن تكويني ردحا من الأعوام أهوي في ثقْب وعْد الأسود، اعتصرني حتى بلغت نقطة الغائي فارتدّت نسمة روحي إعصارا من الكينونة المنطلقة حرية لا تسحق، مكسوفة ببهاء حزن يترقرق وجدا باطياف الحبّ والعُتبى لا تبغي رداً، فالطوفان استعاد شوقه وسيحتمل كل الأوصاب، لن يدع لردود الفعل أن تدلف إلى شفاف حلمه… انبثق من إسرائه نقيا كما كان ولد ذات أزل في وجدان الوجود موجودا لا تنال منه تقلبات القلب في قوس من اكتماله بدْراً وسَهْم انتقاصه حثيثاً يرمسه الإمحاق.
*** 
لا لن أقول وداعاً….

فما صادفني في دنياي من ذرات الطبيعة وما آلت إليه من نموّ يفوق الإحاطة بتشكيله: ومن ذراري الحياة وما آلت إليه من نموّ على ذات المنوال. مشهد يذكرني بالنسيان… النسيان هُلام الأنسان مخاطيّ أودع به أشكال وإشكال في رحْم العَدَم، زبد لجج الأبدية الماضية دون توقف؛ لا تسنح لنا سانحة لننسى ما في تكويننا من جهل، فتمام حضورنا: معرفة مشدودة بالخيال المفقود طيلة دروبنا في سفر هذا العالم، سفر نخطّ خطاه ورسومه وكلماته في مودعات نؤرخ بها ذكرى وجودنا. فأيّ وجود ومودعات هذه، لا يأبه بها سوانا، تتعثر بها الحيوات على انها في عالمها جماد كما يتبدّى الجماد في مفهومنا على نحوٍ متناظر؛ ذات نسيان سيهب إعصاره يكنس ما خلنا أنه أثرنا الخالد؛ قتلنا الفرح المعشّش في زوايا صدورنا، لو كنّا اطلقناه لجاز مجاهيل النسيان، ما كنّا أنئذ اخترمتنا اللوعة يتمدّد شقاقنا بما تنغله فينا من الشقاوات المبرحات، لا تبارحنا منذ المهد حتى نلقى في اللحد سلّت أنفاسنا عناءً دون معنى.
معنى…..
توقفني هذه الإشارة”معنى” مطرق الرأس يلف الضباب وعيي، فأكاد أفتقد دواري الراقص تناغم دقّات القلب وسقوط الأفلاك، مساراتها تتهاوى بأجماد مجاهيل انحداراتها التي توجدها؛ هذا الجماد يتشبك في علاقات لا نحصرها، وفق وحدة من الائتلاف الغامض. أهذا الكون في ذاته حقاً، أم أن ذلك محض تهيؤات تراود ظننا، يلتبس على العقل هذه الذكرى المنسوجة بخيوط النسيان… ما بين طبع الروح وطبيعة الدوار فراغ هائل، تاهت في فيافيه النائية عن قدرة تخيله في ذاتنا (الخيال المفقود)، فهيهات ثمّ أن نجد في انفسنا وقفة لننسى مافي تكويننا من جهل، حيث تمام حضورنا معرفة مشدودة بالخيال المفقود، يظل رفق دروبنا في سِفر العالمْ… العالم يفتقد ظلّه، يدلج ادلهمام ليل العمر لا يرتقب نهاره إلاّ بعد أن تصهره الشمس في أتون توقدها، ألهذا تضطرب حرارتنا حين يغشانا الإعياء فنخرّ أو نبرد، شبه ما تحياه شمسنا زمن وجودها، نار وصقيع، ما بين تخلقها وفنائها… والعِلمُ على ذات النحو، مفارق للعالم، فيه من المعنى يقينه وريبته بقدر ما في الظل ببعديه الخارج والداخل من يقين وريبة؛ في الخارج ما تحجبه نور الشمس في سمت عليائها من حجم الجسم، وفي الداخل ما تحجبه نار الحياة في سمت تصاعدها من حجم الجسد… الجسم تجسيد للخارج، والجسد تجسيم للداخل، يتناوبان في تضادات متداخلة متخارجة، متخارجة متداخلة؛ الجسم وجود والجسد حياة، الجسم مادة والجسد روح، المادّة امتداد والروح ارتداد، الإمتداد ينبوع والإرتداد مصبّ، الإمتداد والإرتداد اتجاهان لا يتعاكسان في الحركة المستديرة، الحركة تدور بحوْل منبعها ومصبها، الدوران منبع أوجد مصبّه، ومصبّ جدّد نبعه، أوجد تجديد سابق وتجديد أوجد لاحق، سابق لاحق ولاحق سابق بالتساوي مكاناً وزماناً زماناً ومكاناً؛ المكان زمان ساكن والزمان مكان متحرك، المكان امتداد للزمان والزمان مصبّ للمكان، المكان خارج والزمان داخل؛ جسم وجسد، وجود وحياة، مادة وروح، امتداد وارتداد، ينبوع ومصبّ، حركة دائرية، سكوت وحركة… فأين نعثر على الخيال المفقود والمخيلة المفتقدة في الكوْن وفيما نتضمّنه من كينونة: أثمة حجبان يتراءيان لنا في حجب واحد، حين نرنو عبر العمر، فعين الجسد تبصر الزمان تصهره في مصبّه الأمكنة، بملء الكون، وللتّو نبصره أيضا بذات رمقة العين الخاطفة إذ نزفر آخر رمق من حياتنا، المكان يمتصنا في فورته، بجيشان مدّه الجسمي نرتخي في سكون، سكون الجماد الذي يقبض على الزمان تلابيبه، لكأننه الروح الهائمة بعد مفارقتها الجسد، يغدو ههنا الجماد مادة سديمية تسيل بين متصل النبعين، نبعان يتراءيان لنا من حيث انتسابنا للكلية، نسبية حسب قياس إدراكنا وفهمنا المتاح.. أما الشعور الذي يفوق كل إدراك ممكن، حينما ينفتح على غوره اللاشعوري الداخل والخارج ، فإنه يلتقي بياض الظلّ وسواده .. إذ ذاك فقط، تصدح الكلمات بالشعر، هرمونية تموْسق أنغام المعرفة التي ما فتئت من قبل نشازا… 
كلمات، كلمات، كلمات… أتتحوّل الحقيقة والمصير والوجود والحياة والكون إلى كلمات،يعبر عنها وجداننا على هذا النحو من الإفاقة، الوعي… فلِمَ كان هذا الجرح، الكلم، الكلمات مجاز البعث البشري دون سائر الكائنات الحية جميعا، إنه نشور خالص لمواتنا بين أطاريف الدروب ومتْنها، بين قشور العيش ولباب الحياة.
لم تكن وجهتنا فيما يمّمناه من أشطار، خالصة لإرادة الحياة، الوعي الأعم صفاءً؛ فذكاء الغريزة أنشب مخالبه المفترسة فيمن حوْله، منتدباً قطعاته جماعة وأفراداً، أنهم يحتفظون بالبقاء لتميزهم سادة وزعماء لقيادة الآخرين… هدف البقاء يقوم على أساس القوة، القانون السائد عند أشكال وطرز الحيوات الأخرى التي برز الإنسان مختلفاً عنها بخصيصته أنه حياة عاقلة… وبطبيعته العاقلة سيطر الإنسان على الحيوات الأخرى، وأحلّ لنفسه أن يغدو مندوباً عنها في تقرير ما تستحقه من مصير؛ وفق هذا الإتجاه، اضطلعت المسيرة لدى الإنسان حيال بعضه بعضا ذات الموقف، فعمّم الجانب لاستبدادية العقل، ونبذ جانبه المتعلق بالحرية المتصلة بدائرة الوعي وإرادة الحياة الأشمل غورا ومحيطاً.
ضللنا طريق الحياة حين ركّزنا على هدف البقاء، أنشانا سبل العيش وتخلّينا عن الطريق الذي خارطته في روحنا ودروبه نشقها بإرادتنا… القيادة للأقوى، والأقوى من يملك أدوات الإقتدار النفسي من كيد ومكْر واختراع بدائل أشدّ بطشا من قوة الجسدالعضلية وأسقطنا مناقبنا الأصيلة، الكامنة في تفرّدنا الكينوني كما ابتدأنا ذات الزمن… نقول ابتدأ التاريخ، وتشابكت مسيراتنا في عَرَصات أرجائه؛ حروب حفظ البقاء نشنّها على الآخرين، فحفظ البقاء يتطلّب فناء سوانا، لم يعد صراع البقاء عند الحيوات الأخرى يمثل بالقياس إلى حروبنا، إلا نسخة مهذبة لتوازن الكائن مع البيئة، عكسنا حيث بقدر ما نعتدي على بعضنا البعض. نعتدي على محيطنا البيئة بما يخلّ بتوازنها ويهدّد بالكارثة.
*** 
لا لن اقول وداعاً …

فإني رأيت تمام الرؤية، كيف أننا تماماً نفذنا إلى سريرة الطبيعة وجعلناها مهدنا ومثوانا، على غير أصل المهد والمثوى الذي كانت أهّلته لنا الطبيعة من قبل، نفذنا أيضا إلى سريرة الحيوات وجعلناها من مهاد ومثوى حياتنا الخاصة، على غير أصل المهد والمثوى الذي تعدّدت به طرز وأنواع وأجناس الحيوات… غدونا عنوانا للطبعية والحياة شاملاً في خصوصيتها لعاقلة حركات المادة وغرائز الحيوات، إنّنا على هذا نكون عقلا تحركه قوانين المادة واستثارات الغرائز، مجهرٌ يضخم ويُضئل الموضوع حسب موضعه من الوضع عموما بما يشتمله في كينونته من وجود.
فإن كانت لأشكال المادة وجمادها صفات خاصّة ولأنواع الحيوات وغرائزها صفات خاصّة؛ فإنه في الشخصية عندنا، بتنا نحوز على على كافة صفات أشكال وجماد المادة وأنواع وغرائز الحيوات، عائمة في بلّور العقل الذي قد يضيء وقد يعتم بما يبتعثه الخيال المفقود من كشْف المعنى؛ لا غير هذا الكشف يبرؤنا من جَلْط الملكية، يستشرف كل واحد نفسه والآخر، جميعا، باطنه الداخلي المتفرّد وأفقه الخارجي المتوحد.
هذه هبة، رؤية تامّة لكوْن منسيّ، ولعقل محجوب، ولحياة افترسها العيْش؛ تتخطّف الروح الطائفة في سدرة ولوج الزمان والمكان ثقبهما الأسود، باستحالة نوره الذي يتفجّر أنواراً. 
عامت ولادتنا جرّاء شبقنا للطبيعة وللحيوات على وجه عالمنا، وأطلقنا الأسماء على أنفسنا ذات الأسماء التي كنّا أطلقناها على مظاهر وجماد الطبيعة وأنواع وأشكال الحيوات… هكذا لكأن العالم خرّ في أعماق العالم، والعالم اشرأب وسْعا فما بالمعلوم ضاغطاً في طويّته تجاوز العالم له حين يفتقد خياله في بُعدي الحُجبان، عيْنان اثنتان لا ترمق نسمتنا إلا خلالهما معاً، حتى آخر رمق نزفره من زفرات الوعي قبل أن يعود إلى محيطه السبات…. ذلك النسيان الأبدي الذي يبتعث يقظتنا، ويزخر بما يوجده من أكوان وحيوات.
لا لن اقول وداعاً…
فهذا الفراق الذي تلاطمني صقْعه لم يند من كبد الشوق الذي تساوق مع شهقة الروح؛ لما شاهقت علياء ما تضخمته من رائحة نفاذة، جازتني إلى فرح لا ينتهي نعيمه دون شكّ، لو أبقيت هُدُبي مسبل على جناني المفقودة.
ها عيناي تتركان نورهما ينطفئ في الأفق المحتجب وراء بيداء من البيد الملفّعة بالألم والغضب والحزن والقهر؛ تحدّقان في تلافيف العشق يتطاير مِزقا، غباراً من الأخطاء والخطايا، تثير الشرور من كل حدب؛ أتمنى لو غسل ضوء عينيّ الذي فارقني، ودمي الذي ينزف دمعاً في حَدَقي الأعور والأعشى، شلال شموس تتميّز خذلانا، ما كان من فارق بين بهاء العشق حين نسجنا بجماله، وبين متع الواقع حين وقعنا بقبحه، أي مجاز من لظى يقطعني، تتقطع نياط القلب كلما هبّت رياح النسيان فأنعشت خاطري، تهتز أوصالي بالذكرى، أوصال نخرها الحرمان بانفلات وصالها، لا يكاد يحدّد متى وكيف تسلّل إليه وتعاظم، حتى ألفى نفسه ذات يومٍ منبوذا… تلفّت القلب في أرجاء المشْهد، كل شيء ظلّ على ما كان عليه، ناح القلب التياعاً وفَصَد كلمه بالثرثرة، دون معنى، لا طائل ولا جدوى، لكنه الألم حين يفقدنا الوعي لا نعود نسيطر على ما انتابنا من هذيان.

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *