لــم تدعْنــي الســماءُ وشــأني


جودت فخر الدين *

ـ 1 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها،
نزّهتْني بكلِّ البلادِ، وعنها.
ولكنّها لم تَسِلْ مثلما كنتُ أهوى،
وحين امتثلْتُ لها ضيَّعتْني.

ـ 2 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني…
ليَ القفْرُ،
ليس سوى القفْرِ،
مبتسماً لي كهاويةٍ شاسعهْ.
وأنا فوقَه واضحٌ، كالطريدة في عين قنّاصها،
حائرٌ كمصادفةٍ لامعهْ.
لم تدعْني السماءُ وشأني،
ليَ القفْرُ كي أتفلّتَ أو أتبدّدَ،
لكنّها لم تدعْني،
أحاولُ،
تجذبُني بخيوطٍ أراها، ولستُ أراها،
تخادعُني،
ثم تضحكُ من فوقُ،
أبصرُها وهْي تضحكُ عاليةً،
فأهيمُ هنالك ما بين هاويتيْن: سماءٍ وقفْرٍ
خُطايَ على القفْرِ تصعدُ نحو السماءِ،
تهيمُ كأبخرةٍ تتلاشى قليلاً قليلاً
خُطايَ على القفْرِ تصعدُ نحو السماءِ،
كمثلِ الظنونِ التي تتلاشى ولا تتلاشى.
إذاً، كيف أرْضى بشأني؟
أظلُّ كنجمٍ لهُ أُفُقٌ بين هاويتيْن،
فيعلو ويهبطُ،
يذْكو ويخْبو،
يغيبُ ويبْزغُ،
لكنّ خوفَ الطريدةِ وجهُ الطريدةِ، أنّى اختفتْ أو تبدّتْ.
أظلُّ كنجمٍ يحاذرُ مصرعَهُ بين هاويتيْن،
ويلمعُ في خوفِهِ،
كمصادفةٍ لامعهْ.

ـ 3 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها،
جعلتْني إذا سِرْتُ أعلو،
أرى عند ذلك كيف التواءُ الدروبِ،
وكيف المياهُ تصيرُ سراباً،
وكيف يكون اجتماعُ الغيومِ بلا أملٍ،
ويكون تفرُّقُها فسْحةً للأملْ.
جعلتْني السماءُ أرى من بعيدٍ،
فأبصرُ ما لا يُرى من قريبٍ،
وأدركُ أنّ الذي مرَّ بين الغيومِ،
هو البارقُ المتردِّدُ منذ الأزلْ.
جعلتْني السماءُ أحدِّقُ في ثقةٍ،
أترفّعُ عن كلِّ شيءٍ،
ولكنّها ثقةٌ كالخجلْ.
جعلتْني السماءُ إذا سِرْتُ أعلو،
أرى من بعيدٍ،
أحدِّقُ في ثقةٍ،
أترفّعُ عن كلِّ شيءٍ،
عن الناس، قبل الحصى والشجَرْ.
عن هدى الناس إذْ يهتدونَ،
وعن غَيِّهمْ إذْ يضِلّونَ،
ماذا أرى في غدِ الناس؟ في أمسِهمْ؟
ليس لي منهما غيرُ ما يتملّكُني من ضجَرْ.
هو الغَيُّ للناس، كي يهْتدوا،
وليَ القفْرُ مبتسماً، كي أهيمَ على وجهِهِ!
والسماءُ التي لم تدعْني،
تحدِّقُ واسعةً، وبلا رحمةٍ،
أتساءلُ حين أراها تحدِّقُ: هل أنكرتْني؟
هو الغَيُّ للناس كي يهْتدوا،
وأنا أتلمَّسُ لي نقطةً في السماء التي لم تدعْني،
أراوغها، وهْي تسخَرُ منّي.
وتذهبُ نحو العلاء بظنّي.

ـ 4 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها،
نزّهتْني بكلِّ البلادِ، وعنها،
فإذْ بي غنيٌّ بتوْقي إلى بلدٍ لا يُقيمُ،
إلى بلدٍ قائمٍ في نزوعي إليهِ،
إلى بلد ٍيستقرُّ كطيرٍ على الماءِ،
لا تستبدُّ به ِنزَعاتُ القبائلِ،
أو نزَواتُ المذاهبِ،
أو هفَواتُ اللصوصِ،
سئمتُ البلادَ الحدودْ.
نزّهتْني الســماءُ التي لم تدعْني بكلِّ البلادِ وعنها …
فقلْتُ البلادُ سجونٌ … قيودْ.
وقلْتُ: إذاً نزهتي وطني،
نزهتي أن أرى موطني يتنزّهُ أيضاً،
فلا تستبدُّ حدودٌ بهِ،
يتنفّسُ ملْءَ الفضاءِ،
فلا يتمدَّدُ في الأرضِ،
بل صُعُداً،
مثلما تشهقُ الغابةُ البِكْرُ في كلِّ يومٍ
لكلِّ شعاعٍ جديدْ.
نزّهتْني السماءُ التي لم تدعْني بكلِّ البلادِ وعنها،
فصِرْتُ أرى نزهتي وطني،
ثم أخشى إذاً أنْ أُضيِّعَها…
حين أفقدُها،
لن يظلَّ على الأرض من رحلتي غيرُ ظلٍّ طريدْ.

ـ 5 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها،
نزّهتْني بكلِّ البلادِ، وعنها.
ولكنّها لم تَسِلْ مثلما كنتُ أهوى لها أنْ تسيلَ،
وظلّتْ كما عهِدَتْها القفارُ تحدِّقُ نائيةً.
لم تفِضْ مثلَ سيْلٍ يدغدغُ حتى الجذورَ،
ويغمرُ حتى الذّرى.
لم ترَ الأرضَ إلا بعينٍ سماويةٍ جامدهْ.
كأنّ لها، وهْي ترْمقُ وجهَ الثرى وابتهالاتِهِ،
نظرةً جاحدهْ.
ولكنّها لم تدعْني وشأني،
قضَتْ لي بأنْ أتقرَّبَ منها، لتزدادَ بعْداً.
قضَتْ لي بأنْ أتبرّمَ، إنْ شئتُ،
أو أتشرّدَ، أو أتمرّدَ،
لكنْ أظلُّ هنا، حيث تسْطَعُ نظرتُها.
لم تدعْني السماءُ وشأني،
قضَتْ لي بأنْ أتهرَّبَ منها، إليها،
وأستشعرَ القرْبَ في بعْدِها.
لا مفرَّ إذاً فوق هذا الثرى.
لا مفرَّ إذاً في الدروبِ التي توهِمُ الأرضَ أنّ الهروبَ نجاةٌ.
هي الأرضُ محْنتُها وهْمُها،
كالغزالةِ تحسبُ أنّ لها موْئلاً
في القفار التي الخوفُ قد صاغَها.
ما الهروبُ إذاً؟ ولماذا النجاةُ؟
وهل جاء سيْلٌ يدغدغُ حتى الجذورَ،
ويغمرُ حتى الذّرى.
لعلَّ السماءَ تسيلُ،
لينزاحَ خوفٌ،
ويشعرَ بالأمن وجهُ الثرى.

ـ 6 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها،
نزّهتْني بكلِّ البلادِ، وعنها.
ولكنّها لم تَسِلْ مثلما كنتُ أهوى،
وحين امتثلْتُ لها ضيّعتْني.
كأني أردْتُ لها أن تجازفَ بي،
فامتثلْتُ لها.
أسْلمَتْني إلى غيْمها،
كي أظلَّ شبيهاً بهِ، غامضاً مثلَهُ،
كي أرى برْقَهُ كلّما لاحَ منّي جموحٌ،
أو التبستْ في طريقي جهاتٌ،
كأني أردْتُ لها أن تجازفَ بي،
فامتثلْتُ لها،
للسماء التي لم تدعْني وشأني،
فإذْ بيَ لا أتماسكُ بين البروق وبين الظلال،
وإذْ بيَ لا أتمالكُ نفسي،
إذا أشرقَ السِّرُّ في برْعمٍ، وتنشَّقْتُ عطْرَ الشروق،
وإذْ بيَ لا أتقدَّمُ إلا وحيداً،
وأحسبُني أتراجعُ بين الجموع،
فأهتفُ إذّاك:
يا أيها الغيْمُ، أنت صديقي الذي أسلمتْني إليه السماءُ،
فكنْ غامضاً كيفما شئتَ،
واحضنْ صداقتَنا أينما كنتَ،
ها نحن نمضي معاً،
تصطفينا المعاني التي راوغتْنا،
تواكبُنا،
والنجومُ التي تتساقطُ من حولنا،
هي بعضُ الظنون التي راودتْنا.

ـ 7 ـ

لم تدعْني السماءُ وشأني،
سَمَتْ بي على كلِّ أرضٍ خطوْتُ بها،
نزّهتْني بكلِّ البلادِ، وعنها.
ولكنّها لم تَسِلْ مثلما كنتُ أهوى،
وحين امتثلْتُ لها ضيّعتْني

 

* شاعر وأكاديمي من لبنان

 

( السفير الثقافي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *