أكرم خلف عراق*
رواية الحالم ( الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون, ومنشورات الاختلاف) للروائي سمير قسيمي, هي رواية مجنحة الخيال نهجا وفكرا, ما أن تُقرأ حتى ما تلبث أن تتساقط بفعلها أوراق العقل من شجرة الفلسفة. إنها بحق زلزال ورقي مدهش يمارس التزلج فوق أرضية الواقع الهش. لا يمكن أمام هكذا رواية ألا إن اخلع ملابس المنطق, لكأنما هذه الرواية تجيز للقارئ ان يتعرى حتى من الوجود والعدم معا.
إنها رواية غرائبيه, أشبه ما تكون بعربة أحلام تجرها خيول الجنون. يمكنني القول, إنني أصبت بارتجاج وجداني لذيذ حال قرأتي الخمس صفحات الأولى, مما جعلني اقضم صنارة الحبكة, والتي رمى بها الروائي سمير قسيمي, ليصطاد بها مخيلة القارئ على الفور, ليلقي بها عنوة إلى عوالم غرائبية, وكهوف عجائبيه, وانحدارات روحانية عميقة, لا تبقي ولا تذر من غبار الواقع المقيت, الذي يلتصق بأدمغتنا ونمط حياتنا وسلوكنا.
مقدمة الرواية صعقه إبداعية تكهرب شرايين الذهول, تنتابك على الفور ما إن تقرأ, مما يدفعك للتسلل بين أزقة الشهوة, بالطبع شهوه مطارده الحبكة, كي تتكشف لك مفاتن الرواية, والتي أشبه ما يقال عنها بأنها امرأة عذراء, قد وصلت للتو من كوكب ما غير كوكب الأرض, ذلك أن الروائي يوحي للقارئ كما لو أن شخصا آخر هو الذي كتب الرواية, شخص اسمه ريماس ايمي ساك, وهو اسم الروائي سمير قسيمي معكوسا, لتبدأ الرواية بعبارة مشهورة للكاتب يقول فيها: ( إن كل تشابه بين أحداث وشخصيات هذه القصة مع الواقع مجرد صدفه).
لكن الذي يلحظه القارئ, عندما يستمر في تسلق مرتفعات الكلمات, تلك المتراكمة على خارطة النص الأدبي للرواية, أن الأمر ليس كما يدعي الكاتب نفسه, بل انه واقع حقيقي, وهنا ينفصل الروائي نفسه عن نصه, كما ينفصل البخار عن ماء متجمد تعرض للدرجات حرارة عاليه جدا. إن ارتفاع درجات حرارة الهذيان في تلك الرواية, تجعل مياه العقلانية الراكدة في بحيرة المنطق المتجمدة, تتبخر وبسرعة لا نظير لها.
ما إن ينفصل الروائي عن روايته, حتى ما يلبث القارئ أن ينفصل عن ذاته أيضا. الفرق أن الروائي يفاجئ بشخوص روايته تخرج إلى ارض الواقع حية من النص, بينما القارئ يفاجئ بأنه دخل إلى الرواية قسرا. على الأخص ما إن يكرر لنا ريماس ايمي ساك, وهو الوجه الآخر للروائي نفسه, والذي أفلت من قفص النص عندما يقول: ( لهذا اليوم رائحة تشبه رائحة الكتابة).
تتداخل الأحداث بشكل شائك, كما لو أنها نسيج معدني, أشبه ما يكون بشبكه صيد محكمه, بعدها يبدأ الروائي القسيمي المرحلة الثانية من إفراغ أدمغة القراء من كل شيء له علاقه بأسماك الشعور, المتنقلة ما بين الهذيان وما بين الجنون من جهة, وما بين الصحيان وما بين العقل من جهة أخرى, لدرجه انك لا تعرف من كتب الرواية, هل هو سمير قسيمي الروائي نفسه, أم أنه ريماس ايمي ساك, أم أنه الدكتور النفسي كمال رزوق, أم أنه المريض خباد رضا؟!….
الاستمرارية في نحت صخرة اللا وجود, يدفعك للتوقف بعض الوقت عن القراءة متسائلا : ( الشخص الذي كتب عنه الروائي هل هو رضا خباد, أم الطبيب كمال رزوق, أم ريماس ايمي ساك ؟؟!!…)
وهنا يصل القارئ إلى استنتاج مفاده:( إنه يوجد روائي داخل الرواية, هو من يكتب الرواية فعلا.) وبالطبع هذه حاله إبداعية, اقرب ما يقال عنها إنها هوس إبداعي لا مثيل له, وقت إذ يستمر القارئ في التشظي والتلاشي والذوبان داخل فوهة الهذيان , تلك الفوهة, هي الشاهد الوحيد على أن ما طُبخ داخل الرواية, إنما هو مخيلة القارئ, ومخيلة الروائي معا.
رواية الحالم, رواية تتحدث عن الوجود والعدم, عن الموت والميلاد, عن البداية والنهاية. يقول الكاتب على لسان ريماس ايمي ساك في إحدى فصول روايته: ( إنه صاحب الفكرة في أن البداية نقطه لا قبل لها, وأن النهاية حد لا شيء بعده. وهي فكرة عبقرية بالمناسبة, ذلك أن تجسيدها يعني أن يتواجد صاحبها دائما خارج وداخل دائرة الوجود في نفس الوقت. هو في داخلها حين يكون للوجود مغزى, أي حين يترجم الوجود على أنه حياة. وهو خارجها حين يضيق الوجود, ويفقد مغزاه لحظه الانتهاء, وهي لحظه يتجسد بها العدم.)
استعان الروائي القسيمي في روايته بالمرايا, والتي يرى أن إدراكنا لها, إنما هو انعكاس للوجود المادي الحقيقي, لكن بالرغم من قدرتها على كشف الواقع بأبعاده المادية الظاهرة, إلا إنها لم تستطع تلك المرايا أن تكشف ما خلفها, وهو العالم الذي يصورك كما لو انك غير مرئي, أو غير حقيقي, لكأنما يريد أن يصل الروائي عبر شخوص روايته وحركتهم في زمان ما ومكان ما, إلى فكرة أن هناك شيء ظاهر وغير ظاهر, موجود وغير موجود, وأن فض بكارة الزمن, لا تعني أن الأيام والأسابيع, والشهور والسنين هي من يقيس أعمارنا بما يعرف بالقدر, أو انتهاء الأجل, ذلك إن موت الإلهام بالنسبة للروائي, وتوقفه عن الكتابة, هو موت من نوع آخر, حتى لو كان على قيد الحياة.
وفي هذا الشأن تحديدا, فلا عجب أن هذه المعركة الفلسفية, التي كان يخوضها الكاتب نفسه, هي من جعلت ريماس ايمي ساك يرتاد مقهى الثلاثون, لمواجهة الوقت والقدر, الفناء والبقاء, الوجود والعدم, لربما يستحضر كل ماضيه وحاضره معا, بعدما بات مصيره معروفا للجميع وهو الموت. وللعلم مقهى الثلاثون هذا, هو نقطة ارتكاز الرواية.
أمام كل هذه التفاصيل والجزئيات, تتراوح شدة الصراع ما بين شخوص الرواية أنفسهم , والذين يكتبون مصيرهم بأنفسهم بعيدا عن قلم الكاتب, ولذا أكثر ما يميز هذه الرواية أنها خيال داخل خيال,وأنها رواية داخل رواية في داخلها رواية ثالثه. بمعنى, إنها رواية ثلاثية الإبعاد. واحتمالية أن تتنبأ بمصير شخوصها أمر صعب, كل ما يكتفي به القارئ هو التشبث بتفاصيل النص, لعله يتخلص من شهوه الجنون, بعدما توغل كثيرا في كهوف غرائبيه لا نهاية لها, ودهاليز روحانية متعرجة.
رواية الحالم, رواية عجائبيه غرائبيه, فلسفية خياليه تحليليه, ذات طابع إبداعي خاص يميزها عن غيرها من كثير من الروايات, وأنصح الجميع باقتنائها, ربما لأنها مليئة بالأسرار.
* روائي من الأردن