من بين مكاسب الانتفاضة التونسية عودة الشاعر آدم فتحي إلى الساحة الثقافية بنشر كتابه الجديد “نافخ الزجاج الأعمى، أيامه وأعماله” عن دار الجمل بألمانيا، وحضوره الكبير بالتظاهرات الثقافية في تونس وخارجها، باعتباره واحدا من الشعراء المقاومين في العهد البورقيبي ومقاوما ثقافيا في عهد بن علي، بإستراتيجية تتناسب مع الدكتاتورية المستأذبة.
عاد فتحي بمخرون كبير من الكتابة ومن الطاقة والعطاء لانتفاضة بلده، خاصة مع عودة الفرق الموسيقية التي كانت تشدو بقصائده في الثمانينيات كمجموعة “البحث الموسيقي”، وظهور مجموعات أخرى منتصرة للفن الملتزم وإحياء تجارب الفنانين الكبار كنادي أحباء الشيخ إمام ومجموعة “وجد”، وتواصل عطاء مجموعة أجراس للفنان والباحث عادل بوعلاق.
غلاف كتاب آدم قتحي الأخير (الجزيرة)الحضور والغياب
منذ ثمانينيات القرن الماضي كان آدم فتحي حاضرا في قلوب وعقول التونسيين. في الإذاعة والتلفزيون يقدم وينتج البرامج الثقافية، وفي المكتبات يطل اسمه على أغلفة أهم الروايات والتجارب الأدبية العالمية تسبقه عبارة “ترجمة”، وفي المسارح يشدو بأشعاره كبار المطربين في العالم العربي، وفي الصحافة المكتوبة يدبج مقالات يرصد بها حراك هذا المشهد الثقافي التونسي البطيء.
كان دائم الحضور رغم ما يبدو من انسحابه. انسحب بصورته الأولى شاعر المقاومة، كما بدا للبعض ولكن مقاومته تحولت إلى شكل آخر وأسلوب آخر غير الأسلوب المنبري، أصبح يؤثر ولا يرى بالعين المجرد، يختفي وراء عبارة بولدير في يومياته أو وراء خطوة ابن سينا في رواية جيلبرت سينويه أو تلويحة الوداع من إحدى روايات نعيم قطان وعبثية إميل سيوران.
هكذا اكتسب آدم فتحي حضورا آخر في بلد يتداعى أمام عينيه كل يوم، وتسيطر عليه مليشيات المخبرين والبصاصين. متوغلون هم في نخاع المدن والقرى يعدون على الشرفاء أنفاسهم. مما جعل هذا المشهد الثقافي يتصحر ويدخل بقوة في الجاهلية الثالثة، رافعا ألوية الأمية الثقافية عاليا، فلا أحد أصبح يشير إلى آدم فتحي إلا بصفته شاعرا غنائيا، ولا أحد سمع بمجهوده الكبير في الترجمة إلا قلة من بقايا “أصحاب الوعي الشقي”.
هؤلاء فقط يعلمون أن آدم فتحي لم يترك الشعر قط وأنه كان يحبر في الظلام بعيدا مئات القصائد وأنه كان يطور من تجربته الشعرية كل يوم ويصقلها كما الخزاف، وينفخ فيها من روح نيرودا لتتحول إلى زجاجات حالمة طائرة تسبح في مكتبه بحثا عن نافذة.
وانفتحت النافذة. اشتعل البوعزيزي في الأقاصي، ليس بعيدا عن مسقط رأس الشاعر، لتضاء السماء العتمة بلحمه، وينفجر الدرج المصفح في مكتب بمدينة قليبية الساحلية ليخرج جواهره التي قدت من لحم آدم فتحي المطعون بخيانة الشعب الذي غنى له في ثورة خبزه في الثمانينيات. انفجر الدرج وطارت قصائد آدم نحو الخليقة كلها وعبر كل المحامل من تونس إلى كوستاريكا تشدو بالأمل وبالثورة الغاضبة للساعد التونسي الذي ظن أنه شل إلى الأبد.
“
يبدو كتاب آدم فتحي الجديد سيرة ذاتية جماعية لجيل بأكلمه عاش الانتفاضات السابقة وحلم بأحلام كبيرة
“
شاعر الثورتين
يبدو كتابه الشعري الجديد “نافخ الزجاج الأعمى أيامه وأعماله” أشبه بسيرة ذاتية شعرية تروي قصة حياة آدم فتحي منذ الميلاد إلى الآن راصدا كل أحزانه وأفراحه وانكساراته وأحلام وطنه وخيانات أصدقائه وتحطم العالم من حوله وتداعي القيم وانسحاب الماء من الوجوه. سيرة تروي قصة السقوط المدوي لأحلام الشاعر بسقوط البلاد في يد الدكتاتور وفي وحل النفاق للدكتاتور.
سيرة ذاتية يائسة من شعب خامل، حالمة مع ذلك بدونكشيتية الشعراء بالانتفاضة القادمة، والتي لا يتنبأ بها إلا الشعراء كما تنبأ قبله الشابي بالانتصار على المستعمر، فالشعراء وقود الثورات و”خيول بريد” الانتفاضات.
تمثل قصيدته “حمام الدم أو حكاية الخضراء والأمير عدوان” واحدة من أهم ما نظم في انتفاضة الخبز في ثمانينيات القرن الماضي بتونس، والتي تغنى بها الطلبة في كل جامعات تونس، ومثلت مع قصائده الأخرى مطرقة قاسية تهشم طمأنينة الدكتاتور الأول.
ولكن الشعب الذي وصفه المفكر التونسي سليم دولة بـ”الـرقاد في الخط والدوار في الحلة” وشعب الانتفاضات والذي فشل عبر تاريخه في إتمام ثورة واحدة، خذل الشاعر، فاستطاع الدكتاتور أن يلجم صوته ليهرب الشاعر إلى العتمة بأحزانه وأقلامه ينظم النكسة مع النكسة قصيدة ويطارد الحرف في الظلام، حتى اشتعل الفتيل من جديد في جسد تونسي منسي، فانتفض الشاعر المنسي كما الفينيق وهو الذي أصبح غريبا حتى عن جسده لينفخ في الرمل المذاب بلور جمال.
يبدو كتاب آدم فتحي الجديد سيرة ذاتية جماعية لجيل بأكلمه عاش الانتفاضات السابقة وحلم بأحلام كبيرة، لكنه تهدم على نفسه فانتصر القسم الكبير منهم للسلطان وانتصر بعضهم فقط للإنسان.
ولم تدر البلاد أنها بذلك تضيع نفسها، وصحّت عليها عبارة آدم فتحي، حين وصفها في كتابه “ثمة أراض هكذا، لا تستحق من يبكيها. لا تستحق من يرثي دودها الهامد. تمر عليها الأماكن والتواريخ، لا تترك ما يدل عليها سوى مرارة في حلوق الشعراء”.
سيرة ذاتية جماعية يستعيد بها آدم فتحي حضوره الشعري من جديد في تجربة فنية جديدة ترقى بالقصيدة التونسية إلى مستوى لم تدركه من قبل، زاخرة بالأحاسيس، منسوجة من ثقافة رجل بانورامي الثقافة أدرك أقاصي الثقافتين العربية والغربية.
المصدر:الجزيرة