(ثقافات)
لطفية الدليمي: سيدة السرد، وصوتُ الروح في ثقافةٍ تتبدّل
ياس خضير البياتي
في بغداد السبعينيات، في مدينة تشبه ورشةً كونية تصهر الحلم والحدّ والهوية، ظهرت لطفية الدليمي كصوتٍ لا يشبه إلا ذاته. كانت بغداد آنذاك مفترق طرقٍ ثقافي، تختلط فيه المجلّات بالحلقات الأدبية، والحوارات بالفلسفة، وكان المثقف يدخل مقهى أو غرفة تحرير كما يدخل عالِمٌ مختبره.
وفي تلك الغرفة الهادئة بمقرّ مجلة فنون، حيث كانت الكتب تتكدّس حول كامل الشرقي، وكانت النقاشات تمتدّ مثل نهر، رأيتها. امرأة تحمل في صوتها ظلالَ مدينة، وفي عينيها فضاؤها كله.
لم تكن المتحدثة الأكثر ارتفاعًا، لكنها كانت الأكثر تأثيرًا. كانت الكلمة عندما تخرج من فمها أشبه بحاجةٍ تدخل القلب دون استئذان، تجمع بين حدّة الفكرة ولين المسافة.
كنت أشعر بأنّ جملة واحدة منها قادرة على إعادة ضبط إيقاع الحوار بأكمله. كانت تستمع كما لو أنّها تجمع الضوء في كفّها، وتتكلّم كما لو أنّها تضع حجرًا جديدًا في بناء ثقافيّ لا يزال يتشكّل.
هكذا بدأت روحُها تشكّل أحد أهم ملامح السرد العراقي المعاصر: هدوءٌ من الخارج، وبركان فنيّ من الداخل.
حدائقها السردية بين الضوء والظل
منذ مجموعتها الأولى وحتى أحدث رواياتها، تبدو أعمال لطفية الدليمي كحدائق تنمو ببطء، لكن بتصميمٍ حكيم، حيث تتجاور فيها النباتات البرية مع الزهور المروّضة، ويتعاشق الظلّ مع أشعة المعنى.
كانت تكتب كما لو أنّها تُعيد ترتيب الكون، تضع كل كلمة في موقعها مثل بستاني خبير يدرك أنّ الزهرة لا تزدهر إلا إذا وُضع جذعها في التربة المناسبة.
في مجموعاتها القصصية، تلك التي تشعّ بالحياة اليومية وقد تحوّلت إلى حكمة مترسّبة، نرى امرأة لا تخاف من التفاصيل، بل تُنصت لها.
التفاصيل عندها ليست هامشًا، بل مركزًا آخر للوجود. كل شخصية تحمل ظلالها وأحلامها، وكل حدثٍ صغير ينفتح مثل نافذة على حياة كاملة.
هكذا تُحوّل الواقع إلى فضاء قابِل للتأمّل، وتُعيد للإنسان حقّه في الحلم وسط الضوضاء.
في ممرّ إلى أحزان الرجال وعالم النساء الوحيدات، تُظهر قدرة مدهشة على الإمساك باللحظة الصغيرة وجعلها مفتاحًا لعوالم واسعة.
أما في موسيقى صوفية، فقد بلغت لغتها حدّ الشفافية الميتافيزيقية؛ السرد يتحوّل إلى نشيد، واللغة إلى حقل من الإشراقات، حتى يغدو القارئ جزءًا من المعنى، لا مجرد متلقيه.
أما رواياتها، فهي فضاءات أعمق، تتحرك فيها اللغة مثل ماءٍ صافٍ فوق أحجار الزمن.
في موسيقى صوفية مثلًا، تصبح اللغة جسدًا شفيفًا، والمشهد يتحوّل إلى شطحة روحية تعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والقدر.
وفي عالم النساء الوحيدات، تُفكّك العزلة ليس كحالة فردية، بل كقَدَرٍ حضاريّ يعاني منه الكائن الحديث.
وفي المسرحيات، تتبدّى قدرتها على تحويل الأسطورة إلى نبضٍ معاصر. تخرج سومر من سبات الطين، وتجلس قرب قارئها كأنها امرأة تستعيد حكايتها، بينما تندمج الأزمنة بحيث يصبح الماضي ممرًّا للحاضر، واللغة جسرًا بين الأجيال.
وفي دراساتها الثقافية مثل نفي الأنثى من الذاكرة وجدل الأنوثة في الأسطورة، يظهر عقلٌ واسع، رشيق، واعٍ، يتعامل مع التراث بعين ناقدة لا تخشى الأسئلة.
وما بين القصة والرواية والمسرح والترجمة والدراسات الثقافية، تبدو الدليمي وكأنها تمشي بخفة بين عوالم مختلفة، لكنها تترك في كل عالم أثرًا لا يمحوه الزمن: أثر الساردة التي تعرف أن الكتابة ليست أداة، بل حياة تُخلق من جديد.
صدى يمتدّ، ورؤية تتجاوز الجغرافيا
لطفية الدليمي ليست صوتًا عراقيًا وحسب؛ إنها واحدة من أبرز الأصوات النسوية العربية التي أسّست لوعي ثقافي جديد، وعي لا يقوم على الشكوى بل على الفعل، ولا ينقاد للانفعال بل يرتقي إلى التفكير.
لقد تُرجمت أعمالها إلى البولونية والرومانية والإنجليزية والإيطالية والصينية، ليس لأنها تحمل “غرابة الشرق” أو زينته الفولكلورية، بل لأنها تحمل صدق الإنسان في أعمق صوره؛ ذلك الصدق الذي يتجاوز الجغرافيا ويخترق اللغات، ويجعل من النص مرآة للروح قبل أن يكون وثيقة للهوية.
في زمنٍ كانت الأصوات النسوية محاصرة بحدود “الجرأة” أو “التحدّي”، ظهرت الدليمي لتقول:
الكتابة ليست تحدّيًا للآخر، بل كشفًا للذات.
وقد شكّلت كتاباتها عن المرأة إضافة نوعية للثقافة العربية، لأنها لم تُطالب بحقوق المرأة فقط، بل فتحت الباب لفهم أعمق: المرأة بوصفها كائنًا معرفيًا، مسؤولًا عن إنتاج الوعي لا مجرد موضوع للخطاب.
حين أسّست لطفية منتدى المرأة الثقافي في بغداد عام 1992، سجّلت لحظة تحول عربيّ حقيقي، لحظة أثبتت فيها أن الثقافة لا تُولد في عزلة الفكر، بل في صخب النقاش الحي، وفي تلك الدوائر التي يجتمع فيها الصوت إلى الصوت ليصنع مجتمعًا أكثر وعيًا.”
ومن خلال ذلك كله، باتت تمثّل النموذج الأكمل للمثقّف العربي الذي يجمع بين الإبداع والبحث والترجمة والنشاط الثقافي.
سردٌ رشيق… وأناقة لا يشبهها أحد
ما الذي يجعل القارئ يتعرّف إلى نصّها حتى لو لم يقرأ اسم المؤلف؟ إنه السرد الرشيق، تلك القدرة النادرة على منح الكلمات حياة، على أن تتحرك كما لو كانت نفسًا يتنفس بين السطور.
أسلوب لطفية الدليمي نحت لغوي مشغول بدقة، جماله لا يتكلف، وأناقته لا تنفصل عن العمق، كل جملة منها تمشي بثقة، كل حدث فيها يُصنع من الداخل، لا يلاحق القارئ، بل يدعوه للغوص في تجربة متكاملة من الفكر والشعور. اللغة عندها تذوب في المعنى، فيصبح النص قطعة موسيقية لا تحتاج إلى تفسير بقدر ما تحتاج إلى إنصات، نصّ يوقظ الحواس والوجدان، ويترك أثره طويل المدى.
إنها تسير على الحافة الدقيقة بين الواقعية والرمزية، حيث الكلمات شفافة، كالمرآة التي تعكس ما تحت السطح، فتبدو الأحداث والمشاعر في وضوحها الطبيعي، دون تصنع أو تزييف.
هذا السرد ليس زخرفة، ولا هو مباشر، بل هو توازن نادر بين المتعة والمعرفة، بين الحكاية والفكرة، بين القلب والعقل، بين الحلم والواقع.
في هذا الفن، يتجلى تميزها الذي يجعلها—منذ عقود—واحدة من أبرز كاتبات السرد في العراق، بل في كامل الوطن العربي، حضورها الأدبي ضوءٌ هادئ، لا يصرخ لكنه يملأ المكان، ولا يحتاج إلى إعلان لكي يفرض ذاته.
في النصوص التي تكتبها، يشعر القارئ بأنه في مواجهة مع لغة صافية، غنية بالصور، مشبعة بالوعي الاجتماعي والإنساني، لغة تفتح نافذة على الذات والمجتمع، على العراق والعالم، على الفرد والهوية.
لا غرابة أن تُترجم أعمالها إلى لغات متعددة، فأسلوبها الرشيق والمبني على العمق يجعل من كل نص لها تجربة مشتركة تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية.
هنا، تتحول الكتابة إلى فعل حضاري، إلى بناء للجمال والمعرفة، إلى لغة توحد العالم العربي في تجربة قراءة واحدة، متماسكة وموحدة في تميزها وفرادتها.
باختصار، لطفية الدليمي ليست مجرد كاتبة، بل معمارية للوعي، وصانعة للجمال، وواحدة من أهم الأصوات التي رسمت ملامح السرد العربي الحديث، بأناقة لا يشبهها أحد، وبسردٍ رشيق يتجاوز الزمان والمكان.
حضورها الأدبي يشبه الضوء الذي لا يطفئه الظلام، صوت ثقافي وإنساني يخلد نفسه في وجدان القارئ العربي، ويثبت أن الإبداع الحقيقي لا يقتصر على الحدث، بل على عمق النظر وإتقان اللغة والقدرة على صناعة النص كما يجب أن يكون، خالدًا وجميلاً.
الكاتبة التي تصنع وعيها
من يتوغّل في كتاباتها؛ مقالاتها النقدية ودراساتها الثقافية وتأملاتها، يدرك منذ اللحظة الأولى أنه أمام كاتبة لا تحتكم إلى الموهبة وحدها، ولا تعتمد على الإلهام بوصفه هبة تُلقى على الورق.
إنّها تكتب كما يبني المعماريُّ مدينةً: تخطيطًا، معرفةً، رؤيةً، واستشرافًا.
كل نص لديها قائم على أرض معرفية صلبة، وعلى وعي متين بمفردات النظرية الأدبية الحديثة، من الشكلانية الروسية إلى البنيوية الفرنسية، ومن النقد الثقافي إلى ما بعد البنيوية، ومن الدراسات النسوية إلى ما بعد الكولونيالية. لقد قرأت ويليك وهال وإيغلتون وكولر وريموند وليامز، لا بوصفهم أسماءً مرجعية، بل بوصفهم أبوابًا لأسئلة جديدة، ومسارًا لاكتشاف علاقة الأدب بالإنسان وبالعالم.
لم تكن الدليمي مجرّد قارئة لنظريات الآخرين، بل كانت تعيد صهر هذه النظريات في معملها الخاص، وتحوّلها إلى أدوات إنتاج لا إلى زينة معرفية. كانت تدرك أن الكتابة بلا رؤية نظرية تشبه بناء بيت على أرض رخوة؛ وإن بدا مشيّدًا من الخارج، إلا أنه ينهار عند أول اختبار.
لهذا جاءت أعمالها محصّنة بعمق التحليل، مشبعة بالوعي، متماسكة في بنيتها، ومؤسسة لمنطق سرديّ يجعل كل مفردة منسجمة مع البناء الكامل للنص.
في زمنٍ كان فيه الكثير من الكتّاب يكتفون بترديد الشعارات أو السير وراء الموضات الأدبية، كانت هي تشيد معمارها الخاص بعيدًا عن الصخب.
لم تكن أسيرة لأي مدرسة، لكنها لم تكن غريبة عن أي منها. بل صنعت لنفسها موقعًا خاصًا داخل التحولات الكبرى في دراسات الثقافة؛ موقعًا يربط النص بالسياق، والسرد بالواقع، والخيال بالهوية، والحداثة بالتراث، والذات بالآخر، والفرد بالجمع.
لقد أعادت الاعتبار لفكرة أن الأدب فعلٌ معرفي بقدر ما هو فعل جمالي، وأن الكاتب الحقيقي لا ينقل العالم، بل يكتشفه ويعيد خلقه.
ولعلّ تفرّدها يكمن في قدرتها على تحويل المعرفة النظرية إلى حساسية جمالية، وعلى صهر المفاهيم الفلسفية في لغة رشيقة لا تُشعر القارئ بثقل المرجعيات خلفها. ذلك المزيج النادر بين الفهم العميق والدقة السردية جعل كتاباتها قادرة على تجاوز الزمن، لأنّها كتبت بعقل يقظ، وقلب نابض، وبوصلة فكرية لا تخطئ. إنها الكاتبة التي صنعت وعيها بنفسها، ونسجت عالمها من الداخل، وشاركت القارئ رحلتها لا عبر الوعظ، بل عبر الجمال، والعمق، والصدق الإبداعي.
امرأة صنعت من الأدب وطنًا
وحين نبلغ تخوم هذا السرد، ندرك أن لطفية الدليمي ليست مجرّد اسمٍ في سجل الرواية العربية، وليست ريحًا عابرة في فضاء الثقافة.
إنها بنيةٌ كاملة، معمارٌ فكري وروحي، ومدينةٌ من الكلمات شُيّدت ببطء، بصبر، وبوعيٍ يشبه وعي الحكماء الذين ينسجون المعنى من خيط الضوء الأخير في مساءٍ طويل.
هي امرأة لم تكتب لكي تُعرف، بل كتبت لكي تُنقذ شيئًا في الروح من الضياع.
امرأة صنعت مكانًا ليس لنفسها وحدها، بل لجيل كامل من الكاتبات اللواتي رأين في تجربتها نافذة نحو الحرية، ونموذجًا لامرأة لا تُعرّف نفسها بالظروف، بل تُعرّف الظروف بنفسها.
كانت بغداد معها أكثر من مدينة؛ كانت مرآة تتقاطع فيها الثقافة والجرح والضوء. جعلت من هذه المدينة المرهقة مركزًا للإشعاع، لا رغماً عن الألم، بل من عمقه، من تلك المنطقة التي يتحوّل فيها الوجع إلى جمال، والخراب إلى معنى.
كتبت الدليمي نصوصًا تنفتح مثل جسور معلّقة بين الإنسان ونفسه؛ جسور تبني قارئها كما تُدهشه، وتتيح له أن يرى تجربته الخاصة من زاوية أعلى، أكثر صفاءً واتساعًا.
نصوصها تفعل ما يفعله الضوء: لا يغيّر الأشياء، بل يكشفها. ولهذا كانت كتابتها بابًا يتجاوز حدود الجغرافيا، يربط العراق بالعالم، ويعيد للعربية قدرتها على التأمل الهادئ والحسّ الفلسفي الرشيق.
في أدبها، كما في حياتها الفكرية والشخصية، شيء يشبه الحكمة التي تُقال همسًا، يشبه الهدوء الذي لا يعني الاستسلام، ويشبه تلك الأنوثة العميقة التي تعرف أن القوة ليست صراخًا، وأن العمق لا يحتاج إلى استعراض.
إنها أنوثة فكرية، حرة، متصالحة مع ذاتها، تضع المعرفة قبل الادعاء، والرؤيا قبل الشهرة، والإنسان قبل النص.
ولهذا ستظلّ واحدة من العلامات الكبرى في السرد العربي، ومن الأصوات النادرة التي جمعت بين الشعرية والصرامة الفكرية؛ بين الرهافة والرؤية، بين خيال القصة وعمق الفلسفة، وبين الأدب والإنسان.
إنها ليست امرأة كتبت، بل امرأة وسّعت حدود اللغة، وجعلت من الأدب وطنًا، ومن الوطن نصًّا يليق بالذاكرة.
خاتمة
في نهاية هذا المسار الطويل، يتجلّى لنا أن لطفية الدليمي ليست مجرّد كاتبة عبرت صفّ الأدب ثم مضت؛ بل هي نبرةٌ متفرّدة في الأوركسترا الثقافية العربية، ورنينٌ خاصّ لا يُشبه أحدًا، تمامًا كما لا يشبه الليل آخره، ولا يشبه الضوءُ طلعتَه الأولى.
إنّها امرأة كتبت لا من أجل أن تُزهر اللغة فحسب، بل من أجل أن يتنفّس القارئ عالمًا أرحب، وأن يسمع في داخله صوتًا كان خافتًا، فصار معها أوضح.
كانت وما تزال، شجرة معرفة نبتت في أرضٍ كثيرة العواصف، ومع ذلك ظلّ ظلّها وارفًا، ولغتها ندية، وسردها مثل جدول ماء ينساب بين الصخور، لا يعترضه شيء.
إنها ذلك النوع من الكُتّاب الذين حين نقرأهم نشعر أننا نقرأ شيئًا من أنفسنا، وأن الأدب لم يُخلق ليزيّن العالم، بل ليعيد ترتيب الفوضى في داخلنا.
وفي فضاءٍ عربي يتغيّر بسرعة الضوء، بقيت واحدة من القلّة التي تحمل المشعل، لا كرمز، بل كفعلٍ حيّ.
كتبت لتمنح الأدب العراقي مقامه الذي يستحقه، ولتمنح المرأة العربية صوتًا لا يعلو فقط، بل يضيء.
كتبت لتذكّرنا أن الكتابة ليست فنًا وحسب، بل موقفٌ، ومسؤولية، ورؤية، وأن الكاتب الحقيقي لا يشبه الغيوم العابرة، بل يشبه المطر الذي يترك الأثر حتى بعد أن يغيب.
وهكذا، حين نطوي صفحات حياتها وأدبها، لا نشعر أننا نغلق كتابًا، بل نشعر أننا نفتح بابًا: بابًا على الوعي، على اللغة، على الإنسان.
تبقى لطفية الدليمي — بصوتها الهادئ، بعقلها المضيء، وبقلبها المجبول بالحكمة — علامة فارقة في السرد العربي، وامرأة جعلت من الأدب وطناً، ومن الكلمة جسراً، ومن التجربة نوراً لا ينطفئ.
إنها — ببساطة — إحدى تلك الأرواح التي تكتب لا لكي تُخلَد، بل لأنها تُخلِد ما تكتب.
-
عن الزمان
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!


