عندما تُبدع حفيدة شهرزاد: قراءة نقدية في رواية “عفن أحمر” لتبارك الياسين

(ثقافات)

عندما تُبدع حفيدة شهرزاد: قراءة نقدية في رواية “عفن أحمر” لتبارك الياسين

‎ بقلم: حسين عبد العزيز

‎‎تأتي رواية “عفن أحمر” للروائية والفنانة التشكيلية الأردنية تبارك الياسين لتؤكد حضور الصوت النسوي العربي في أفق الكتابة الجديدة، ذلك الصوت الذي لم يعد يكتفي بالتعبير عن الذات الأنثوية بقدر ما يسعى إلى مساءلة الواقع وكشف تناقضاته الوجودية والفكرية. إن الياسين في هذا العمل لا تكتب رواية بالمعنى التقليدي، بل تشيّد فضاءً سردياً مركّباً تتقاطع فيه الفنون والفلسفات: المسرح، التشكيل، والوجودية، ضمن رؤية فكرية تستند إلى وعي جمالي متقدّم.

‎‎منذ العنوان “عفن أحمر”، تضع الكاتبة قارئها أمام ثنائية دلالية مكثّفة: العفن بوصفه رمزاً للتآكل الأخلاقي والاجتماعي، والأحمر بوصفه لون الدم والحياة والمقاومة. ومن هذا التوتر اللوني–المعنوي ينبثق العالم الروائي، حيث تتجاور الحياة والموت، المسرح والواقع، الفن والسياسة، في نصّ يقوم على الازدواج والتقاطع لا على الخطّية والاستقرار.

‎‎الرواية تتخذ من المسرح بنيةً سرديةً ومجازاً فلسفياً في آن. فالشخصيات تعمل ضمن فرقة مسرحية تتدرّب على عرض وجودي هو “المومس الفاضلة” لجان بول سارتر. ومن خلال هذا الإطار، تنسج الياسين شبكة من العلاقات المراوغة بين الممثل والدور، بين النص والحياة، وبين الحرية والقيد.

‎فالمسرح هنا ليس مجرد خلفية فنية، بل فضاء رمزي للحياة نفسها؛ كل إنسان يؤدي دوراً لم يختره بالكامل، وكل يوم يُعاد النص بوعي جديد أو بانكسار جديد.

‎‎تبدو بطلة الرواية “سماح” نموذجاً للذات الممزقة بين الحلم والواقع، بين الإيمان بالحرية والوقوع في أسر أدوار اجتماعية مفروضة. ففشلها في أداء الدور المسرحي يرمز إلى عجز الإنسان العربي عن أداء دوره في الحياة الواقعية، أمام هيمنة السلطة، والتقاليد، والخوف الجمعي.

‎تقول في أحد الحوارات:

‎‎> “أشعر أني مجرد أداة هنا، مجرد دمية في مسرحك.”

‎فيجيبها البطل مستشهداً بسارتر:

‎”الأداة تؤدي إلى الأداة.”

‎‎بهذا التبادل الحواري، تكشف الرواية عن جدلية الوجود والحرية، وهي جوهر الفلسفة الوجودية التي تنسجها الكاتبة ضمن سياقها المحلي والعربي. فـ”العفن” ليس فقط مادياً أو سياسياً، بل هو عفن فكري وقيمي يطال الإنسان حين يتنازل عن ذاته أو يهرب من مسؤوليته الوجودية.

‎‎ومن اللافت أن الكاتبة، بوصفها فنانة تشكيلية، تستثمر رؤيتها البصرية في صياغة مشاهدها الروائية؛ إذ تتحول اللغة إلى ريشة ملونة ترسم الألم والحنين والخراب بعمق بصري واضح.

‎في مشهد ولادة قاسٍ، أو في وصف معتقل مظلم، أو في تداخل حلم الطفولة مع ضجيج الحرب، تبرع الياسين في تحويل السرد إلى لوحاتٍ نابضة بالحركة والظلّ والضوء.

‎‎تنتقل الأحداث بين المسرح والمعتقل ومدينة حمص، لتؤسس مشهداً عربياً واسعاً يضمّ وجوهاً مختلفة من التمزق الإنساني. يظهر “برهان” الحالم بوطنٍ أجمل، لكنه يُعتقل بلا سبب واضح، ليكتشف أن الحرية فكرة مؤجلة في واقعٍ محكوم بالعبث والتسلّط. ويظهر “إبراهيم” الذي ذهب إلى العراق “يجاهد”، ليعود محمّلاً بصدمة الحرب وعبثيتها، كاشفاً كيف أصبح الدمار العربي يصدر بأيدٍ عربية تحت شعارات دينية زائفة.

‎‎تتميّز الرواية بما يمكن تسميته بـ “ديمقراطية السرد”، إذ تمنح الكاتبة شخصياتها مساحة للتعبير عن ذواتها دون تدخلٍ مباشر من الراوي. هذا الانفتاح في الحكي يجعل النص قريباً من تقنيات الاعتراف والسيرة الذاتية، حيث تمتزج الأصوات وتتداخل الأزمنة، ليصبح القارئ شريكاً في بناء المعنى لا متلقياً سلبياً له.

‎‎لغة تبارك الياسين لغة شعرية متوترة، لكنها منضبطة بإيقاع الوعي. فهي لا تقع في فخ الغموض ولا في المباشرة، بل توازن بين الرمز والوضوح، بين الجمال والصدمة. إنها لغة توازي بين حرارة التجربة وصرامة الفكر، لتجعل من “عفن أحمر” نصاً مفتوحاً على التأويلات.

‎‎في المحصلة، يمكن القول إن رواية “عفن أحمر” هي تجربة فنية وفكرية تتجاوز السرد التقليدي إلى فضاء الكتابة المركّبة، التي تجمع بين الرواية والمسرح والتشكيل والفلسفة. إنها شهادة على زمن عربي مأزوم، ولكنها أيضاً صرخة في وجه العفن، ومحاولة لاستعادة الحلم من تحت الركام.

‎‎بهذا العمل، تبرهن تبارك الياسين أنها ليست مجرد روائية، بل مؤلفة رؤية، تمزج بين الوعي الجمالي والأسئلة الوجودية، وتكتب من موقع حفيدة شهرزاد التي لا تروي حكاية للتسلية، بل لتحمي الحياة من الموت، والذاكرة من النسيان.

شاهد أيضاً

من أم كلثوم إلى فيروز مروراً بالصبّوحة وداليدا: متحف «سرسق» يستعيد «ديفاز» العالم العربي

مساء الجمعة 17 تشرين الأوّل (أكتوبر)، يفتح متحف «سرسق» أبوابه لمعرض «ديفا: من أم كلثوم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *