د.حورية الظل *
( ثقافات )
تعد الحيرة من المقامات الصوفية، وقال عنها الواسطي بأنها نازلة تنزل بقلوب العارفين بين الإياس والطمع، لا تطمعهم في الوصل فيستريحون، ولا تؤيسهم عن الطلب فيستريحون، وقال بعضهم: متى أصل إلى طريق الراجين، وأنا مقيم في حيرة المتحيرين؟ إذن الحيرة عند المتصوفة استعداد وتوثب وانفتاح على المجهول، وجعل المعارف لا نهائية، وهي مطلقة، ويحدث عند المتصوفة جدل بين المعرفة والحيرة وتنعكس كل منهما على الأخرى.
ورغم ما يحتويه مقام الحيرة من الثراء والتعقيد، فقد استثمره الروائي الأردني يحيى القيسي في روايته “أبناء السماء” ، ومن خلال مقاربتنا لهذه الرواية سنرى إن كان قد استطاع أن يتمثل هذا المقام الصوفي في روايته ويطوعه لرؤيته الخاصة، أم ظل دون ذلك؟
مرور سريع على عتبات رواية “أبناء السماء” يجعلنا نقف على العنوان الذي يحيل على النور وعلى المطلق والكمال والاتصال، أما صورة الغلاف فتمثل رقصة الدراويش الدائرية التي تمكنهم من التماهي مع حركة الكون، وهو طقس روحاني مبتكر من قبل مولانا جلال الدين الرومي، ويفتتح الكاتب روايته بتحذير القارئ من التوهان في دهاليز ومتاهات روايته، لكن هذه الأمكنة دائما تفضي إلى النور والخلاص، إنه وعد مبطن للقارئ بعالم نوراني وروحاني لا بد من الوصول إليه في النهاية، وأيضا كونها ستزج به في عوالم روائية تستوحي التصوف والروحانيات.
تصحبنا الرواية في رحلة طويلة يقطعها السارد – مهندس الطيران المتشبع بمبادىء الشيوعية والملحد في نفس الوقت – باحثا عن الحقيقة بعدما يصطدم بوقائع لم يكن يصدقها هو المؤمن بالماديات، والبداية كانت مع حادثة بحثه عن الكنز والهجوم الذي تعرضه له من حراسه اللامرئيين الأمر الذي جعل بدايات التحول تعصف بمسلماته، فانهالت عليه الأسئلة الوجودية التي أدخلته في حيرة لن يخرج منها إلا بإيجاد الأجوبة الموصلة للخلاص، فيحاول أن يجد خيطا رابطا بين العلم والروحانيات ورفيقه في هذه الرحلة المضنية صديقه الذي عاش تجربة أورثها له، وتمثلت هذه التجربة في مساعدته لعالم روسي اسمه سيرجي يبحث في مجال الآثار الفرعونية وينتمي إلى جماعة دينية تخاطب سكان كوكب آخر أكثر ضياء وصفاء (أبناء السماء) وتنتهي رحلة هذه الجماعة بصعودهم إلى ذلك الكوكب، وهذا يزيد من ضياع وحيرة السارد ويعبر عن ذلك بقوله: “هبطت علي حيرة نهبت ما تبقى لي من طمأنينة ومعارف علمية” الرواية ص 29
تتناسل الحيرة في نفس السارد وتسلبه كل سكينة وطمأنينة وهو يقرأ مذكرات صديقه، ويقف على التجربة الروحية التي خاضها سيرجي الأكثر علما منه والذي يخبر صديق السارد عن سر توقه لمغادرة الأرض والعيش مع أبناء السماء في كوكبهم لأنهم حسب قوله: “أكثر منا علما وحكمة…لا يعرفون غير السكينة والتأمل” الرواية ص 81
إنه عالم نوراني مجرد الاقتراب منه من خلال قراءة مذكرات صديقه جعله يتمثله فتزعزعت مسلماته، فبدأ البحث عن الخيط الرابط بين العلم والروحانيات، الأمر الذي فاقم حيرته وهذه الحيرة كانت حافزا له ليبدأ رحلة البحث عن الحقيقة التي توصله للخلاص، إن حيرته أورثته تحولات جذرية غذاها موت الأم أو السراج الذي ينير حياته والذي انطفأ فطفت أسئلة كثيرة حول الموت زادت من تعميق مأساته، فأفضت به حيرته إلى العزلة حيث نتلمس الأثر الصوفي: “يوما بعد يوم صرت أدخل في نفق ذاتي المعتم متقوقعا بعيدا عن العالم الخارجي الذي بدا هشا وخادعا” (الرواية ص 110)، إنها عزلة من أجل التأمل ومراجعة الذات، وأيضا إشارة إلى أن الواقع الخارجي المادي أضحى غير ذا جدوى ولا يشبع متطلبات الذات الساردة لما تسمو إليه من حقيقة ويقين، فدفعته حيرته إلى مواصلة البحث عن عوالم جديدة تروي ظمأه للمعرفة وتوصله إلى اليقين: “علي أن ألج عالم جديد لعله يروي ظمئي المتواصل، ويجيب عن أسئلتي الحائرة” الرواية ص 148
لقد بدأ يكتشف شيئا فشيئا بأن هناك نور ويقين في آخر الطريق وفيه خلاصه من حيرته: “جاءني ذات يوم من يقودني إلى طريق آخر، ويقول لي، استيقظ فثمة دائما نور في النفق” (الرواية ص 111)، إنه النور الذي عليه الوصول إليه ليخرج من نفق الحيرة المظلم، من خلال رحلة روحية شاقة يبحث من خلالها عن الخلاص وكانت هذه الرحلة محفزا له للانفتاح على التجارب الروحية لجماعات وأشخاص بعضهم غير مسلمين (كاثلين، جيرسي، الأب حنا)، لأن الروحانيات تبدو من خلال الرواية تجربة إنسانية وليست حكرا على المسلمين لعلاقتها الوطيدة بالروح، لكن التجربة الروحية الأرقى هي التصوف، وإن كل التجارب التي صادفها في طريق بحثه المدفوع إليه بحيرته التي تهاجمه بلا هوادة كانت تسير به حثيثا إلى خوض التجربة الصوفية، ويبدو ذلك واضحا من خلال ما نبهه إليه الأب حنا: ” أمامك طريق طويلة لتقطعها إن أردت المعرفة” الرواية ص 141، وهل هناك طريق أطول من طريق الصوفي في سلوكه إلى الله وما يعانيه في مجاهداته ورياضاته للوصول؟.
كل الإشارات تلمح ولا تصرح بأن الطريق الذي قطعه السارد كان لا بد له من سلوكه إن أراد الوصول إلى النور، لقد تخبط طويلا في سراديب الحيرة والضياع، وكما التصوف الذي هو تطهير للنفس والفكر وطريق إلى الله تعالى، فإن السارد سلك نفس الطريق من خلال اطلاعه على قصة أبناء السماء ومشاركته كاثلين وجماعتها تجربتهم الروحية ومعرفته بكرامات الأب حنا، ورحلته المتواصلة التي قادته إلى الزاوية الصوفية حيث الأذكار والكرامات، وهناك ظن أنه وصل نهاية الطريق وظلمة حيرته ستنجلي، لكن الصوفي نور الدين نبهه إلى أن النور لن يجده في أي مكان وإن واصل البحث سيشع من داخله:” خض غمار نفسك وستجد ما تبحث عنه” (الرواية ص 158).
إن الشيخ محب هو رمز الحقيقة ولا بد للسارد من لقياه، لأنه هو الدواء الشافي من كل أسقام حيرته، وهو الذي سيأخذ بيده إلى مفاوز النور، وفي نهاية الرواية نعيش التجربة مع السارد الذي يتخلص من حيرته بعد المجاهدة ورياضة النفس من خلال رحلته الروحية الطويلة التي طهرت نفسه الحائرة من كل أدران المادية التي علقت بها، فيغتسل بدموعه وتنتهي حيرته ويبلغ درجة الكمال لما يلتقي الشيخ محب، فتزول الحجب ويطرح الأسئلة على شيخه، أسئلة وأجوبة لم توظف فيها الحواس، لأنه حسب النفري:”كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”، إن لقاءه بشيخه ترميز إلى خروجه من الظلمة إلى المعرفة وإلى اليقين حيث تطالعه الحقيقة الساطعة التي تغمره بفيضها النوراني من داخله. فيكتشف الطاقة الفياضة الكامنة في نفسه.
إن الحيرة بمعناها الصوفي مكونا من مكونات السرد في رواية “أبناء السماء” ويمكن تسميتها رواية صوفية لأن النفس الصوفي يخترقها من الغلاف إلى الغلاف، ومقام الحيرة الذي تبناه الكاتب في روايته جعله ينتج من جديد مقولات المتصوفة ولغتهم المحملة بشاعرية خاصة ويحرضها لإغناء روايته وإثرائها ومنحها خصوصيتها وأصالتها، وبالنتيجة حقق المغايرة والاختلاف في المشهد الروائي العربي وساهم في إنتاج الواقعية السحرية العربية. والتصوف في الرواية رد على الواقع الراهن المادي الموبوء الذي خلا من النقاء والصفاء، حيث النفوس أضحت في حيرتها تواقة لعوالم نورانية، والمتلقي للرواية يتمثل التجربة الصوفية التي استثمرها الكاتب ويعيش حيرة السارد، ويخوض معه غمار تجربته الروحية ليصل معه إلى الصفاء الروحي.
*ناقدة وقاصة من المغرب