(ثقافات)

نزار قبانــي

فضيحة الصورة

د. حكمت النوايسة

مناسبة إعادة نشر هذه المقالة هو تلك الأصوات التي برزت بين من يقدّس نزار قباني، وبين من يسخّفه، والاتهامات التي تُوجّه لكلّ من الفريقين، وموضوع (شعريّة نزار قباني) وما تلا ذلك من تفاعل حول الموضوع، وأرى أن في إعادة نشر هذا المقال ردّا منّي على الفريقين، وملخّص ردّي أنّ الطعن أو التقديس لأي شخصيّة أدبية ينبغي أن يكون علميًّا مستندا إلى نصوصه، لا إلى حتى التعاطف الانفعالي مع نصوصه، بمعنى القراءة الباردة لهذه النصوص، القراءة التي تكفل الحياديّة في تناول تجربة أي مبدع، إعطاءه ما له وما عليه.

لن أعيد ما قاله الناقد عبدالله الغذّامي في نزار قباني في كتابه ” النقد الثقافي “(1) وإن كنت أؤيّده حدّ المفاجأة، لكنني هنا سأحاول قراءة صورة بلقيس في كتاب – قصيدة – بلقيس(2) لنرى إلى تلك الصورة من خلال الكلمات في قراءة ثقافية للصورة بعيدا عن البهرج الموسيقي البلاغي الذي طمس العقول وشوّه التّلقي، وبعيدا عن التأويل الذي لا يستند إلى قرائن معرفية، أو أسس منهجية كما يحلو للبعض أن يمارسه مع الشعراء الذين أحبهم بالاعتماد على نداءات غائرة في أقاصي النفس.

لقد اخترت قصيدة بلقيس دون (نساء) نزار قباني الكثيرات لما رأيت في ذلك من اختيار لامرأة قريبة من الشاعر، وترتبط معه برباط الزواج، ولأن القصيدة (مرثية)، وهذا ما يوفر فرصة أن يكون الشاعر بعيدا عن الاستغراق في الحالة الشعرية، فيستعرض فحولته اللفظيّة في لحظة تاريخية يتوخّى فيها شيئا من الصدق، أو المجاملة الباحثة عن تصديق.

وقد اخترت الصورة لقراءة ثقافة النص – مخرجاته الثقافية – لأن الصورة فضيحة الشاعر،ولأن الكلام كما يقول نزار :

                                    ” إن الكلام فضيحتي “(3)

الصورة الكلية والصور الجزئية

 

 

كتبت القصيدة إثر مقتل بلقيس في انفجار كان يستهدف المكان الذي تعمل به، ولا فرق زمنيا طويلا بين ذلك الحادث المؤسف وكتابة القصييدة، هذه القصيدة المستدعاة بشرط الحزن والمفاجأة الصادمة في فراق الزوجة والحبيبة وأم العيال ( زينت وعمر ) وهذا يستدعي جوًّا من الحزن لا بدّ يسطّر القصيدة ويلفّها، فالصورة الكليّة أو ( الأثر ) ينبغي أن يكون حزينا لارتباط القصيدة بتلك الحادثة المحزنة حقًّا. ولا غلوَّ في أن تشتمل القصيدة على بعض القاطع التي تسبّ القاتل، وتفرّغ شحنة غضب على هذه الفعلة النكراء، ولا بأس أن تشتمل القصيدة على بعض الصور التي تصوّر جمال المغدورة في نسق حزين متذكّر، لكنّ القراءة الرقمية للقصيدة تخبرنا بغير ذلك، فالقصيدة تدخل في أسلوب نزار صميمه ( الرسم بالكلمات)، لذا فإننا نجد القراءة الرقمية مشتملة على خمس وثمانين صورة جزئية، وقد جاءت هذه الصورموزّعة على النحو الآتي :

  1. احتلّ الغزل بالحبيبة وجمالها مكانًا مميّزا إذ جاء في خمس وثلاثين صورة.

  2. احتلت الصور الراسمة للحزن المرتبة الثانية من حيث التوزيع بفارق رقمي مدهش، إذ بلغ عدد الصورالجزئية التي تمثّل ذلك عشرين صورة، بفارق خمس عشرة صورة.

  3. احتلت صورة العرب المتخلفين الذين أجرموا بحق بلقيس والشاعر المرتبة الثالثة في التوزيع الرقمي حيث بلغت الصور الجزئية التي تمثل ذلك خمس عشرة صورة.

  4. احتلت الصورة التي تمثّل الحسرة المرتبة الرابعة حيث بلغ عدد الصور الجزئية التي تمثّل ذلك ثماني صور.

  5. اشتملت القصيدة على سبع صور غيبة ((مُلبِسة )) كأنها في سياق آخر، وفي جوّ آخر وتلك الصور هي :

  1. ” قبر يسافر في الغمام ” (4)

  2. ” حتى العيون الخضر يأكلها العرب “(5)

  3. ” تناثر مبسمك الضوئي ” (6)

  4. ” من أين جئت بكل هذا العنفوان “(7)

  5. ” وأقول كيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب “(8)

  6. ” أميرتي اغتصبت “

  7. ” قتلوا حصاني ” (9)

وبعد هذا التوزيع الغريب للصور الجزئية نتساءل : هل كان يبكي أم كان يتغزّل؟؟

وعلى هذه الملاحظة السؤال نلاحظ أنّ القصيدة لم تبن بناءً تصاعديًّا أو تنازليًّا، ولم تستطع توتير حدث، وإنما رصفت تلك الصور الجزئية رصفًا بما يشبه الفسيفساء، ونجد الشاعر قد انفلت لسانه في أكثر من خمس وثلاثين مرة ليكون غزِلاً لا حزيناً، ثم فلت لسانه غير مرّة لتقول لنا القصيدة إن الحبيبة التي قتلت لم تكن شيئا ذا بال، بعد أن كانت الرّسولة، وذلك عندما يقول :

” بلقيس أسألك السّماح فربّما

كانت حياتك فديةً لحياتي

إنّي لأعرف جيّدا

أن الذين تورّطوا في القتل كان مرادهم

أن يقتلوا كلماتي “(10)

هكذا كانت الكلمات هي المقصودة بقتل بلقيس، كلمات الشاعر وقصائده، فهو في هذا الموقف المهيب لم يستطع أن ينسى ذاته التي يعبدها، ولم يستطع تجاوز نرجسيّته، ولم تستطع الحبيبة أن تأخذ مكان الكلمة – القصيدة – في وجدان الشاعر المضطرب، لأن النساء في شعر الشعراء الذين يشبهون نزارا قصائد، والقصائد نساء، المرأة التي ترحل أو تطرد من جنّة الشاعر كما يريد، وهي امرأة متجدّدة، لذا لا نرى الشاعر مستقرا في حب، أو مقتصرا على حبيبة واحدة، لأن المعشوقة الأولى والأخيرة هي هنا الذات، وقد رأينا في المقطع السابق كيف ردّ مقتل الزوجة إلى الذات، فهو المقصود بعبارة مؤكّدة بـ (أن ولام التوكيد ) هو مقصود حقا بقتل بلقيس، وتفجير السفارة التي تعمل فيها، وهو مقصود حقا، لكن ليس بقتل بلقيس، وإنّما بقتل القصيدة، وهي مناسبة جميلة يستطيع الشاعر فيها أن يشتم العرب الذين تآمروا عليه ليقتلوا كلماته، وأظنّ أن العرب المقصودين هنا هم ليسوا العرب الذين قتلوا بلقيس، وإنما العرب الذين لا يصفّقون للشاعر – الإله -، والعرب الذين تسير ثقافتهم باتجاه مفازات ليس فيها فحول يصنعون من جلود النساء عباءات ويبنون من حلماتهنّ أهرامات.

إن الإيقاع الساحر في شعر نزار قباني، والمناطق المدهشة التي يأخذ الكلمات إليها، إنما هي مقتل الشاعر الساحر الذي أراد أن يسحر الناس فانسحر في تماسه مع معشوقته الأولى – القصيدة – الذات -، انسحر وعبّر عن مكنونات ذاتية لا نعدم الوقوف عليها في شعر نزار قباني، وإذا كنا في هذه القصيدة نناقش الخطاب المضموني للصورة – المعنى – فإننا واقفون بقراءة إحصائية أيضًا على صور وتشبيهات عجيبة لبلقيس يستمدّها الشاعر من أجواء الطَّرَد والقنص التراثية، ومن مشاهداته من حضائر الحيوانات الجميلة، فبلقيس في هذه القصيدة خيول، وفرس، وحصان، وغزال، وبلبل، وعصفور، وزرافة، وعصفورة جميلة، وهي من الطبيعة نخلة، وصفصافة، وزرافة، وسنبلة، وأمواج دجلة، وأزهار حقول، وغابة خيزران، وزهرة اقحوان، وقمر، وهي من الحياة الاجتماعية ملكة وأميرة، وأيقونة، وهي من المواد المصنوعة مزيج من القطيقة والرّخام، وهي العطر، وهي القبر، وهي كنز خرافي، ورمح عراقي، وسيف يماني، ولؤلؤة كريمة، وعلى ذلك المعجم الصوري الفوتوغرافي الخالي من اروح تضاف العبارة الفاضحة، والقصائد فضائح كما يقال :

” لما تناثر جسمك الضوئي يا بلقيس

لؤلؤة كريمة

فكّرت :

هل قتل النساء هواية عربية ؟ “

هكذا فقدت القصيدة هذه الزجاجة التي تناثرت، ولم يعد لها وجود، ثمّ نجد فضيحة الصورة أجلى عندما تغادر خيمة الحزن المصنوعة، وتحلّ جماليات الصورة محلّ الحبيبة، لنجد الحزين حزينا على شيء قابل للقسمة بهذه الفجاجة :

“سأقول في التحقيق

كيف أميرتي اغتصبت “

أو بهذا الترهل العاطفي في الوصف :

” وكيف تقاسموا فيروز عينيها

وأقول كيف تقاسموا الشعر الذي

يجري كأنهار الذهب “(11)

وعلى ما في هذه الصورة من فجيعة، إلا أن الحزن كما يبدو حزن على جمال انتهب، ومملوك استبيح، وحصّة سرقت، ولا نريد هنا أن نعيد ما قاله المثقّفون المغيّبون أيام المتنبي، عندما انتقدوا قول الفحل في معرض الرّثاء : صلاة الله خالقنا حنوط   على الوجه المكفّن بالجمال(12)

فإذا كان المتنبي قد خانه تعبيره في كلمة وهي ذكر الجمال في موضع الرثاء (والصورة هنا جميلة ) فإن شيطان نزار الشعري كان أشدّ وطأة عندما أحال المرثية إلى قصيدة غزل في الجسد المنهوب.

فالصورة السابقة وما يليها من صور في الصفحة الخامسة والستين من ديوان (بلقيس) تصور مشهد اغتصاب بعاطفة باردة، و كلمات متوهّجة، ونتساءل هنا : كيف يستطيع العاشق المستغرق أن يرسم للقتيلة التي تناثر دمها غدرا، كيف يرسم لها هذه الصورة المفجعة حقا، لأنّ الحديث عن القتيلة لأسباب سياسية، هو ليس الحديث عن مغتصبة، وكيف يكون القتل اغتصابا، والأولى أن يكون الاغتصاب قتلا في الدلالة والأثر؟

أي مكانة للشهيدة التي راحت بلا ذنب سوى تواجدها في مكان ذي رمز سياسي، أيّ مكانة لها عندما يتلذّذ الشاعر بالصورة الشعرية كما رأينا ؟ ويحوّل القتل الوحشي والشهادة إلى اغتصاب، الشهيدة إلى مغتصبة ؟

ماتت بلقيس، وخسر الشاعر جسدها النوري البلوري الصفصاف الرخام المرايا، السيف، الرمح، الغزال، الزرافة.. إلى آخر ذلك مما بكاه الشاعر في هذه القصيدة.

هل كان نزار عاشقا ؟

الجواب : نعم.

هل كان يعشق بلقيسا ؟

هو يقول نعم، والقصيدة ثقافيا وحضاريا تقول غير ذلك، وبهذا ندخل في مناقشة حضور المرأة في القصيدة، وهذا ما قلته في مقالات سابقة، أناقش هنا حضور المرأة في الغزل المحقق – غير العذري -، فالمرأة التي رأينا أنها رمز للحياة والمفقودات الوجودية لدى الشعراء العذريين، وجنّة خيال تفقد حضورها الخصب عندما تتحقق كما تقول قصيدة نزار في ديوانه الأول :(13)

” أنا مادمت في عروقي نبضا

فإذا كنت واقعا لا أكون “(14)

وقد رأينا المرأة رمزا للحياة الاجتماعية، ومفتاحا للولوج إلى عوالم الثوار والحياة البديلة، والمجتمع النقي كما هو الحال عند الشعراء الثوار كالشنفرى، وأمثّل عليهم بشعراء محدثين إن شاء الله، وتلك المرأة وذانك النموذجان للمرأة، هما غير المرأة عند المستغرقين في الحب المحقق، فالمرأة في الحب المحقق مضمار تتسابق فيه الكلمات لتشكّل القصيدة، ومنصّة عرض يستعرض فيه الشاعر ذاته العظيمة، وفحولته، مع إخراج المرأة إلى دائرة الحرج الجسدي، الذي وضع جسد المرأة بين أحد احتمالين:

فهو عار يجب أن يخفى بحيث أنكرته صاحبته، والتمست للسيطرة عليه انطواءها.

أو هو ميزتها في التشييء والتسويق عندما تجمّعت ردّات الفعل منذ شرزاد الأولى، وتكاثفت حتى جعلت هذا الجسد نارًا تلفح وجوه الذئاب اللاهثة لاقتناص هذه النار.

أما المرأة الحقيقية التي تحب وتكره ، وتجمّل النسق الروحي في الحياة، وتجعلها أقل عرجًا، فإنها تلك المرأة التي رفضت أن تكون شيئًا، وتخلّصت من الحرج الجسدي، فكانت المطرودة من جنّة الشاعر المحقق، الذي يريد أن تقول له : ( أحبّك ) ليس لكي ينام مرتاحا، وإنما لكي ( تزداد وسامته ) ليتجلّى في عبادة ذاته.

أما بقليس المسكينة التي قيل لها : ( الشعر بعدها مستحيل ) فإنها لم تكن آخر المضامير في عشقه، وسيكتب بعد ذلك بقليل قصائد ( سيبقى الحب سيّدي )(15) وغيره.

رحم الله نزارا، ورحم الله كل امرأة أشرقت في لحظة فكانت قصيدة، ثمّ انطفأت بضوء نجمة أخرى، أو سقطت برفّ حمام جديد !

وبعد : فإن نزارا عاشق فنه وذاته لا غير، أخلص لهذا العشق الجنوني في أعتى حالات الحزن والحرج الاجتماعي، فكانت القصيدة غالبةً المرأة، وطاردتها من استغراقات الشاعر.

أما بلقيس الشهيدة، فإنها ستبقى الشاهدة على الجريمة، وهي أجمل كثيرًا من حضورها الجسدي الطاغي في هذه القصيدة، وتظلّ مفتاحًا لقراءة أكثر وعيا لهذا النمط من الشعر.

(1) عبدالله الغذامي : النقد الثقافي، المركز الثقافي العربي، 2001م

(2) نزار قباني، بلقيس، منشورات نزار قباني، بيروت، 1982

(3) السابق، ص  4

(4) نفسه ص 8

(5) نفسه ص 53

(6) نفسه ص 55

(7) نفسه ص31

(8) نفسه ص 64

(9) نفسه ص 64

(10) نفسه ص 76

(11) نفسه ص 64

(12) شرح ديوان المتنبي، عبدالرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي، بيروت، ج2، ص 144

(13) نزار قباني من هذه الزاوية ملبس، فهو يمتلك هاجس العذريين في البحث عن المثال الجمالي المعبود، أو الجنة المفقودة، وهو محقق تماما في الصورة الشعرية، من زاوية الموضوع، والغزل بالجسد، وامتهان الحضور الروحي للمرأة، و يرجح الباحث أن الخلل في الثقافة النزارية، والتداعي الإيقاعي الذي يقود الشاعر إلى مفازات غير ممنهجة، وقد يرجح ما نذهب إليه قراءة الشعر النزاري قراءة تراكمية حيث إنّ المؤشرات مرتبكة إوإننا لا نجد نسقا صاعدا أو نازلا في تجربة نزار، وإنما أنساق متراكبة أفقيا بحكم المرجع لا غير.

(14) نزار قباني، طفولة نهد، ط13، ص 122

(15) نزار قباني، سيبقى الحب سيّدي، منشورات نزار قباني، 1986

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *