لا أحد يستطيعُ إسكاتَ الكتب
* عبدالمحسن يوسف
١
” مكتبة باريس ” لجانيت تشارلز ، والترجمة لدلال نصرالله..هذه الرواية الضخمة تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك على القوة الكامنة في الكتب وأثرها في مقاومة المحتل ومدافعة آلة الحرب وصدِّ هواجس الموت والانتصار للحياة..إذْ ” لا أحد يستطيعُ إسكات الكتب “.
و هذه الرواية الصادرة عن ” كلمات ” تؤكد أيضًا على أن ثمة ” متعة خالصة ” تكمنُ في قراءة الكتب التي تتحدث عن الكتب ..هنا تتألّقُ حكايةٌ تاريخيةٌ أبطالُها أمناءُ مكتبةٍ أخذوا على عاتقهم مهمّةَ محاربةِ العدوِّ النازي في باريس بالكتب ، وذلك بإبقاء أبواب المكتبة مفتوحةً للقراء دون تمييز ..
٢
في كتاب ” عرق الضفدع” ( ٢٤٦ صفحة ) يترك كوروساوا – إمبراطور السينما اليابانية وشاعرها الأكبر – ما يشبهُ سيرةً ذاتيةً كما يتركُ أسرارَ أفلامه اللاحقة .. هذا المبدع الذي تبدو عنده الكتابةُ كما لو كانت غموضًا يابانيًّا فارهًا يتناولُ ذلك الزلزالَ الكبير الذي ضرب ” كانتوسكو ” ، الزلزال الذي ترك أثرًا بالغًا في حياته كلِّها – كما يبوح هو -إذْ ظلَّ يثيره سؤالُ الموت ، وظلَّ مسكونًا بهواجسِ التأملِ في لعبة الحياة..ترجم هذه السيرة الجميلة عن البلغارية فجر يعقوب ، وصدر الكتاب عن ” المتوسط “.
٣
” مسخ الكائنات ” ، كتابٌ ضخم ، ثريٌّ ، عميق للشاعر أوفيد ، والرسوم المذهلة المصاحبة للمحتوى بريشة بيكاسو .. ترجمه وقدّم له الدكتور ثروت عكاشه ، صدر في 362 صفحة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب .. هذا الكتاب مهمٌّ جدًّا من وجهة نظري المتواضعة ، تؤكد ذلك المئات من المنجزات الفنية العالمية الكبرى المستوحاة منه في مجالاتٍ عديدة منها الأدب و التشكيل والتصوير والنحت التي تكتظ بها المدن و المتاحف الكبرى في العالم ، كما تؤكد ذلك المئات من الأعمال الموسيقية والغنائية والراقصة.
على أيِّ حال ، هذا العمل ” عبارة عن 15 كتابًا في كتاب ضخم يضمُّ قصصًا قصيرةً مرويةً على أسلوب ألف ليلة وليلة “.
٤
” مذكرات فتاة رصينة ” لسيمون دو بوفوار الصادر في 349 صفحة ، هذا الكتاب الجميل الذي اقتنيته من معرض الكتاب بجدة ” يقع بين الرواية والسيرة الذاتية ، ويصوّر الحياة الباريسية وصراع الفرد من أجل حريته الشخصية وقراره المستقل عن رغبات المجتمع التقليدية ” ، وهو أيضًا ” شديد الروعة والاتقان يقدّم تحليلًا خصبًا للحياة بدءًا من الإيمان وصولًا إلى التفاصيل الصغيرة التي تشكّل وجودنا “.
الحقَّ أقولُ لكم : منذ الوهلة الأولى غرقتُ في هذا الكتاب الذي تطلق فيه سيمون ” أحكامًا على العالم بقسوةٍ وبلا مجاملة ” ، وصدقوني إذا قلت لكم : هكذا تكون الكتابة الساحرة ، وهكذا تكون الترجمة الآسرة ( الترجمة لندى حداد ) ، وهكذا تكون الطباعة الأنيقة ، وهكذا يكون الغلاف الوسيم [ قام بتصميمه الصديق الشاعر زهير أبو شايب] ، وهكذا يكون الجمال الخالص ، وإلا فلا.
شكرًا للأهلية ، إنها دارُ نشرٍ أردنيةٌ تستحق الاحترام.
٥
” هوجوكي ” ، كتابٌ صغير ( في 148صفحة ) ، قرأته بمتعةٍ بالغة في جلسةٍ واحدة.. إنه ” يوميات راهب ياباني ” يُدْعَى كامو نو تشوميه ، تناول فيها الحياة والموت ، الحياة والإنسان ، الإنسان والبيت ، الروح والجسد ، السأم والعزلة ، مشقة الدنيا ومعاناة البشر ، فجائع الطبيعة ونكباتها ، وما يسعى إلى تدميره الإنسان..في هذا الكتاب البسيط العميق دعوة إلى إعادة النظر في فلسفة الحياة ، تمامًا كما تتجلى في مقولته الجميلة المقتصدة : ” هذا التيار الذي يجري أمام عينيك ليس هو الذي رأيته من قبل ، بيد أنه تيارٌ يحملُ مياهًا جديدة “..
بقي أن أقول : قام بأعباءِ ترجمةِ هذا الكتاب الجميل الدكتور عادل أمين ، وصدر عن دار مصر المحروسة.
٦
” بوبول فوه ” ، أو ” كتاب المجلس “، واحدٌ من أندر ثروات الفكر البدائي في العالم الجديد ، إنه الكتاب المقدس لقبائل الكيتشي مايا التي استوطَنَتْ ” غواتيمالا ” ، يحتوي على حكايات وأساطير ومعتقدات هذه القبائل ..مُذْ ترجمته إلى الإسبانية وهذا الكتاب يحظى باهتمامٍ علميٍّ وثقافيٍّ واسع في شتَّى أنحاء العالم .. تُرْجِمَ إلى العديد من لغات العالم كالفرنسية والإنجليزية والألمانية واليابانية..كما تُرْجِمَ إلى العربية بحبر المترجم الفاتن صالح علماني ، وصدر عن دار ” أزمنة ” في العاصمة الأردنية عمّان..الأجزاء الميثولوجية من الكتاب كانت مصدرَ إلهامٍ لعددٍ كبيرٍ من الأعمال الأدبية والفنية في أمريكا اللاتينية والغرب لما تميزت به من غِنًى في الخيال وتفرُّدٍ في التعامل مع مفردات الطبيعة.
٧
قبل أكثر من عشرين عامًا قرأتُ هذه الرواية العظيمة ” أشياءٌ تتداعى ” للروائي النيجيري غينوا أتشيبي ، كما قرأتُ له روايته الجميلة الأخرى ” مضى عهدُ الراحة ” ..هاتان الروايتان صدرتا منذ سنواتٍ بعيدةٍ عن سلسلة ” ذاكرة الشعوب ” التي توقفَتْ للأسف بعد قصف الصهاينة لبيروت في حزيران / يونيو من العام 1982…من المهم القول : إن ” أشياء تتداعى ” صدرت في العديد من الطبعات وبحبرِ عددٍ من المترجمين ، آخرها عن سلسلة “المئة كتاب” التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة من ترجمة وتقديم عبد السلام إبراهيم.. هذه السلسلةُ وَصَفَتْ هذه الروايةَ بأنها ” دُرّةُ الرواية الإفريقية ، وإحدى روائع القرن العشرين ” ، وهي – من وجهة نظري – محقّةٌ تمامًا في هذا الوصف.
٨
” نحن ، على حد علمي ، القبيلة الوحيدة التي تهبط من السماء ! نعيش في منطقة جبلية ، والسماء عندنا جزء من الجبال ، في قريتي لا يسقط المطر كعادته ، بل يصعد (…)
روت لي أمي يومًا أن قريتنا كانت في البدء أغنية فريدة ، تمامًا كالشمس والقمر ، وأن الكلمات التي يمنحها الناسُ طاقةً شعريةً تطير كالفراشات ، بعضها الأكثر غِنًى لونيًّا والأكثر جمالًا تطيرُ بخفةٍ لا مثيل لها ، ولأن قريتنا هي بالتأكيد الأقرب إلى السماء ، فإن هذه الكلمات الشعرية تجد فيها أفضل مكان للتباهي بمكنوناتها ، ولكي تضيء العالم.
كلنا شعراء ، كانت تقولها أمي دائمًا : الأشجار ، النباتات ، الزهور ، الصخور ، الماء…إذْ يكفي أن تصغي للأشياء لكي تسمعها تغني”.
هذا المقطع الجميل من رواية ” الحزام ” للمبدع الجميل أحمد أبو دهمان ، وهي صادرة في الأصل بالفرنسية عن دار غاليمار .. نالتْ حظًّا وافرًا من القبول و الإعجاب والذيوع ، تُرْجِمَتْ إلى العربية ، وصدرت عن دار الساقي في 160 صفحة فقط..تولّى أعباءَ الترجمةِ ساردُها نفسُهُ ، أعني صديقَنا أحمد أبو دهمان .. وهو روائي سعودي ، من مواليد قرية آل خلف الواقعة على قمم جبال السروات ، وهو أول كاتب من الجزيرة العربية يكتب عملًا إبداعيًّا باللغة الفرنسية.
٩
فيما كنتُ أقرأ رواية رائعة للأرمني / الأمريكي وليم سارويان ، بعنوان ” الكوميديا الإنسانية ” ، الصادرة عن ” دار الخيال ” في 213 صفحة ، مترجمةً بحبر الدكتور عصام المياس ، فوجئتُ به يشيرُ في روايته إلى “جيزان ” ، مشيرًا إلى مينائها الذي التجأتْ إليه ” سيمس بيبتي ” – إحدى شخصيات روايته – وهي كما يروي الساردُ – ” شخصيةٌ غريبةٌ وخارقة ، كانت هاربةً من الأسْر ، ” أبْحَرَت أربعة عشر يومًا ، هابطةً من البحر الأحمر حتى وصلَتْ إلى ميناء جيزان ، وقد تنكرَتْ في ثيابِ امرأةٍ عربية ، وكانت ” سيمس ” هذه تقصدُ الحبشة ..إذَّاك أحسستُ بشعورٍ جميلٍ ، غريبٍ ، لا يمكنُ تفسيره ، هل لأنَّ ” جيزان ” جزءٌ جميلٌ من بلادنا الحبيبة ؟ هل لأنّها وَرَدَتْ في روايةِ ساردٍ شهيرٍ حاصل على جائزة بوليتزر في العام 1940، وحاصل في العام 1943 على جائزة الأوسكار لأفضل قصة عن فيلمٍ مقتبسٍ من روايته هذه التي تحملُ عنوان” الكوميديا الإنسانية ” ؟
على أيِّ حال ، ما دمنا نتحدث هنا عن ” سارويان ” ، أرى أنَّ من الواجب عليَّ أن أشكر المترجمة المعروفة حصة المنيف التي فتحَتْ لنا باكرًا نافذةً مضيئةً على عالمِ هذا الساردِ الجميل ، حين ترجمَتْ له مجموعةً قصصيةً فاتنةً بعنوان ” كيف رأيتَ أمريكا يا بن بلدي ؟ “.
١٠
أحبُّ أن أصفَ فرانسواز ساغان بأنها ” بنتُ جنيّة ” ، وسببُ ذلك إنها مُذْ كان عمرها ١٩ سنة أصدرَتْ عملًا مدهشًا أحدثَتْ به زلزالًا في زمنها ، ألا وهو كتابها الشهير جدًّا ” صباح الخير أيُّها الحزن “..أقولُ قولي هذا بمناسبة إعادة دار ” المدى ” طباعة هذه الرواية التي قرأتها باكرًا وأنا في بدايات دراستي الجامعية ، وأذكر أن أستاذي القاص الكبير عبدالله باخشوين أعارني نسخةً قديمةً منها جلبها معه من ” بغداد ” التي عاش بها أكثر من ست سنوات.
١١
” مكان سلوج الخالي ” روايةٌ للسارد الإيراني محمود دولت آبادي ، صدرت عن دار المدى بدمشق في 400 صفحة ، ترجمها عن الفارسية سليم حمدان بلغةٍ عربيةٍ عذْبةٍ كنبع ، صافيةٍ كدمعة..هذه الرواية الضخمة جميلةٌ و فخمة .. قرأتُها منذ أكثر من عشر سنوات لكنَّ أثرها ظلَّ يتملكني ويدهشني حتى اللحظة ، وكلما عُدْتُ إليها وَقَعْتُ في غرامِ بساتينِ جمالها ، خصوصًا وأنني في المطالعةِ الأولى وضعتُ خطوطًا بالقلم الرصاص تحت الكثير من العبارات العميقة والجميلة والمذهلة التي وردَتْ بها ، كما هي عادتي أثناء قراءةِ أيِّ كتابٍ جميل..
على أيِّ حال هذا العمل السردي المميز – الذي يستحقُّ ضوءَ أعيننا – يتناولُ مصائرَ الكادحين ، ومكابداتِ المسحوقين ، وأحلامَ البسطاء بلغةٍ توشكُ أن تكون شعرًا.
* أديب سعودي
* عن ملحق شرفات – اليمامة
مرتبط
إقرأ أيضاً
الشعراء لا يتبعهم أحد*عمر علوي ناسناالشعر يموت، هكذا يصرخ البعض، لكن الشاعر الحقيقي يعرف أن الشعر يأتي من…
-
-