qrf

إيمان عزت : نثار الجمال على الأرض البكر

(ثقافات)

إيمان عزت : نثار الجمال على الأرض البكر

آمنة النصيري

على مدى سنوات أنجزت التشكيلية المصرية ( إيمان عزت ) متوالية من أعمالها المنفذة بتقنية الحفر على الخشب , حرصت من خلالها على أسلبة أعمالها وإكسابها معالجة بصرية ورؤيوية بالغة الخصوصية , وظفت فيها البناءات الخطية والهندسية , وعلى الرغم من التقشف اللوني واعتمادها على الألوان الرمادية والترابية , فقد أنشأت عالما تجريديا ورمزيا خصبا ( وهو مسار يقتضي كتابة مفصلة تستقرئ هذه المرحلة وتجربة الفنانة بشئ من التفصيل ) .

أما هذا النص فنتناول فيه تجربتها المعنونة (أرض) , والتي تمثل واحدة من تجاربها العديدة , إلا أنها إنعطافة جديرة بالتوقف والكتابة عنها بشكل خاص فهي خلاصة بحث لوني في محترف ( إيمان) قدمت عبرها مشهدية مبهرة للطبيعة في ذروة خصوبتها وبهائها .

قبل الدخول في معارج النصوص وتشاكيلها لابد من عودة سريعة إلى السنوات الأخيرة كي نفهم إن هذا التحول الكبير الذي وسم المعرض لم يكن فجائيا فقد سبقته إرهاصات واختبارات شكلت ذرائع سوغت هذا الاقتحام الجرئ للمشهد الطبيعي الحافل باللون , فمنذ زمن لاحت مقدمات الانتقالة الفنية الراهنة في تحول الرسامة بأعمال الحفر على الخشب من الصيغ التجريدية الصرفة , وواحدية اللون إلى البناءات التي تتداخل فيها السطوح , وباتت لغتها اللونية أكثر حضورا وتنوعا إلى حد تكثيف الألوان الصريحة , مع بث بعض الزخرفات والعلامات الدالة على صور أخذت تقترب من المحيط المادي أو تحتفظ بخيوط خفية تحيل إليه وإن لم يكن عن طريق المشابهة الكلاسيكية بمعناها العام .

ومن ثم برزت تكويناتها التي صورت فيها المنازل المتراصة على أرض ممتدة وأفق لاآخر له , هذه الأعمال وإن أوشكت على الإفصاح عن نصوص بصرية مادتها الواقع الخارجي , إلا أنها كانت لاتزال تتمسك بمسحة هندسية , فالأرض في النصوص عبارة عن إندياح لخطوط أفقية متوازية في صرامة , ينجم عنها مساحات متوازية تتمايز عن بعضها بتدرجات من اللون الواحد كالبني أو البرتقالي أو الأخضر , وغلب على الصباغة اللونية الشفافية , وهي خصيصة حافظت عليها الفنانة في تجاربها مايقارب عقد من الزمن , سواء في اللوحات المندرجة ضمن تقنيات التصوير بالألوان الزيتية والأكريلك أو أعمال الحفر والطباعة .

qrf

وفي انعطافة تالية استغرقت ( إيمان عزت ) في إشتغالها على إنتاج منظر طبيعي وسمته مرونة الخطوط , وشساعة المساحات , والحساسية العالية في مزج الألوان ومجاورتها , هنا برزت في الأعمال روح مختلفة , وتعاطي مغاير عن المراحل السابقة , خاصة في الصيغ اللونية التي تخلت عن التشفيف , وأصبحت طبقات كثيفة تصبغ قاع اللوحات بامتزاجات البني والأخضر الفيروزي ودرجات من البنفسجي , فتبعث الحياة في ألوان الطبيعة , كما تحولت الخطوط الهندسية الصارمة إلى تموجات شبيهة بالمدرجات الزراعية والتواءات صفوف الزرع , وفي مقدمة اللوحات شرعت الفنانة تنثر الكثير من الزهور البيضاء المائلة للصفرة أو البنفسجية وهو مامنح الصور المزيد من الحياة , وهي سمات تمثلتها أعمالها في معرضها السابق ( غزل البنات ) .

هذه التجارب وإن كانت مثلت منعطفا مثمرا شكلا ومضمونا , إلا أنها دأبت على تكريس نبرة هادئة في علاقات اللون , حيث تجنبت الدرجات اللونية الصارخة وصخب الألوان , فقد تقصدت الفنانة أن تكرس الدرجات العميقة في تلوين الأرض ومن ثم تؤلف بقية أجزاء التكوين بحيث تضمن ضبط إيقاعات اللون على ذات المستوى , وكأنها بهذا الاشتغال تتحسس القيم الخبيئة في روح اللون وتتهيأ بواسطته لأن تنقل نصوصها إلى خضم المفازات اللونية وصخبها , والتصرف بناء على رهانات وضعتها الفنانة بقصد إيجاد نسق فني يرسخ قدراتها كملونة ومصورة متمكنة , وقابضة على خيوط تقدمها ضمن مسارات عديدة تقنيا وجماليا , وهو ما يظهر بجلاء في مجموعتها (الأرض ) التي تقدمها في عرضها الحالي فاللوحات تنطوي على معالجة شديدة الجاذبية للمشهد الطبيعي تتفوق على المحامل التقليدية , حيث أنصرفت المصورة عن استنساخ التمظهرات السخية الباذخة البهاء في العالم الطبيعي إلى استظهار الحياة الداخلية في قلب الطبيعة , ويبدو واضحا أنها قضت وقتا تدقق وتتأمل في التحولات المبهجة من عمر النباتات وولادة الورود والزهور وتفتحها وانتظامها في حركة الطبيعة النابضة والمحتدمة , الأمر الذي جعل الصور تنبني وتتشكل وفق صلات عاطفية بين الرسامة والطبيعة لذلك تعج اللوحات بطاقة إيجابية .

qrf

من الجلي إن إيمان عزت في عرض (الأرض) تدشن مرحلة فنية جديدة , ترتكز على تدابير نسقية لانجدها في سابق أعمالها , إذ أن الحمولات التي لنصوصها في هذا المعرض لاتعول على أسلوبها الذي أعتدناه في تناولاتها للعالم الخارجي , بنائيا ولونيا , فقد انصرفت إلى تمثيل الأصل بعين الفنان , واستغنت عن الفراغ الميتافيزيقي الذي ساد في تجاربها السابقة وباعد مابينها وبين السمت الظاهري للمحيط المادي , إذ أنها في هذا المعرض قدمت حلولها البصرية للمشاهد الطبيعية , وحافظت عبر معالجاتها على افتراق نتاجها الإبداعي عن الطبيعة الحسية .

ولعل أول ماتلتقطه العين في المعروضات يكمن في طريقة بسط مشهد النباتات المزهرة على كامل قماش اللوحة , في تكوينات تجترح إنشائية جريئة للصور قائمة على إمتلاء المشهد بالغطاء النباتي والأزاهير , والتخلي عن الترسيمات النمطية للمنظر الطبيعي الذي يفترض التوازن بين فضاء وأرضية العمل , وشرطية الأفق الممتد في العمق , لكن الفنانة لجأت إلى اشتغالها البصري المختلف بتأثير دوافع متعددة فنية ووجدانية , ذلك أن التقاط أكبر مساحات ممكنة من تمثلات الطبيعة المحتشدة بصنوف الخضرة والورود والزهور يعكس حالة الافتتان التي تلبست الرسامة والتي راحت تبحث في الأسلوب الأكثر قدرة على تحقيق الفاعلية الفنية لتمثيل تألق (الطبيعة ) وزخم عطائها وجمالها , في أدائية كفؤة , تظهر أن المشاهد تتجاوز حدودها الاعتيادية , وأشكال الطبيعة البدهية لحياة النبات والوجود العياني بكل حمولاته إلى جوهر الظواهر ,وحياة الأرض وطاقتها في مقاومة الزمن , وتغيير صورة العالم عندما يكتسي بالشحوب ويشيخ , فهي وحدها القادرة على مقاومة الموت والتلاشي , والعودة في دورة حياة متجددة , وإن استغراق الفنانة في هذه الحالة وتكثيفها في اللوحات صار أشبه بحل إبداعي لتثبيت الزمن عند ربيع دائم .

من جهة أخرى فإن الحبكة التي تم تعيينها في بناء الشكل عبرت وإن بصورة غير مباشرة عن صيرورة الحياة واستمراريتها حيث لامبتدأ لحيوات الزهور والنباتات في حيز اللوحة ولامنتهى , فالطقس الذي اعتمدته المصورة في تكوين الأعمال يقوم على اكتظاظ السطح كلية , وانوجاد الحياة في أدق ثنايا اللوحة .

فضلا عن ذلك سعت الرسامة إلى موضعة مشاهدها في المستوى التعبيري والفعل التأثيري لتتفادى النقل الآلي , فالطبيعة وإن كانت الحامل المادي لموضوع اللوحات , إلا إن المصورة حرصت طيلة الاشتغال في التجربة على التحرك بموازاة الظاهرة الطبيعية في محاولة عنيدة للتخلص من الحسية وتجريد المناظر قدر ما أمكن من الجسامة التي تتضمنها في البيئة الخارجية .

إن هاجس الفنانة ( إيمان عزت ) ظل يتركز بدرجة أولى حول إخراج اللوحات بمواصفات جديدة بغية الانتقال بالمتعين من الصور إلى مرتبة أعلى يتساوق فيها التخييل وحرية الأداء مع عدم الانضباط في نقل الصورة ضمن الشروط الواقعية أو المدرسية , وكذا الخلاص من سلطة المكان ( المنظر الطبيعي الواقعي ) المحمل سلفا بجمالية منشأها المشهدية الخلابة لخصوبة الأرض وتنوع غطائها النباتي المتشبع بغلالات من الأزهار والورود , وبالتالي جاهزية عالية وثرية بالتنوع اللوني وهو ما قد يستدرج المصور إلى غواية النقل الآلي لتلك التجليات الطبيعية المغرية , إلا أن المصورة ظلت واعية بضرورة إضفائها علاقتها الذاتية بهذه الحالة المفعمة بالجاذبية التي تبرز العالم الطبيعي في المستويات الأعلى من الجمال , كما أن الرسامة أضفت مشاعرها وسكبت فيض من روحها على الصور التي أعتبرتها مادة التعبير ليس إلا , فانتزعت نفسها من غواية وهج المحيط الطبيعي متجهة إلى مستوى أدائي تتمكن فيه من تحرير محملها التشكيلي من سلطة المرئي – وهي التي كانت منذ بداياتها متمردة على القوانين المدرسية _ فلجأت إلى إعادة بناء الصور وفق قيم بصرية تنتقي مقطعا من الشكل الخارجي ثم تغمسه في مزيج من المعالجات التقنية فتعيد رسم تفاصيله وتنثرها على أنحاء السطح , وقد خضعت الاقتراحات التقنية التي أرتأتها المصورة لاعتباراتها الفنية المحضة , مثل نفي الخطية التي تحوط الأشكال وتبرزها واضحة , والركون إلى بلورة الأشكال النباتية وتنويعات الزهور من خلال ضربات الفرشاة بحيث تتشكل اللوحات من بقع لونية مدهشة وموحية لاتخلو من لمسة تأثيرية , لكنها تحمل خصوصية اللغة البصرية التي طورتها ( إيمان ) على مدى سنوات .

في جميع النصوص البصرية لهذه المجموعة يمكن أن نرى كيف إن الفنانة في بناءاتها تشتغل على وحدة التكوين مهما تزاحمت بداخله المفردات والبقع اللونية , فهي تحيله إلى نسيج محبوك يصعب تفكيكه إلى أشكال منفردة , فالمشهد برمته وبكل زخمه اللوني وعناصره المحتشدة التي تشكل مروج كثيفة من الزهور , يبدو كما لو أن الفنانة تؤلفه بذات المنطق الذي زخرف به فناني المنمنمات منذ قرون خلت مناظر الحدائق الغناء , أو كما يفرد فنان السجاد زخارفه في قلب نسيجه , غير أن المصورة تتفوق بحمولاتها الشعورية التي تجعل من البناءات المكثفة والمركبة للصور كيانا جماليا مفعما بالحيوية والديناميكية , ففي خضم المشهد تلوح حركة الرياح فتتمايل الزهور وتتماوج وتتشابك , لتبقي المناظر في حالة حياة متصلة .

في ذات التجربة تتعمد ( إيمان عزت ) إلقاء نثار من ريش العصافير في كل الأرجاء, بعضها باللون الأبيض وبعضها ملون , بدا الريش المبثوث في تضاعيف السطوح خفيفا شفافا يتماوج في الأرض البكر مما أضفى هالة من الضياء والدهشة والسحرية , , فضلا عن ذلك تتجلى براعة المصورة في توظيف البياض الماثل في ريش العصافير, والذي يبدو كما لو أنه تطاير بعفوية وأنداح في قلب اللوحات , بينما هو يشكل الشفرة الخفية التي تمسك بكافة تفاصيل الشكل , وتشبكها ببعضها , كما تتحقق من خلاله هذه المرونة في وصل الأشكال فتحافظ على إبقاء جل الأعمال ضمن نسق فني – جمالي واحد , فالريش يستحيل علامات تشكل كلا دال على الحضور الفاعل والمتجدد لحياة الطيور التي لانلمح لها حضورا , إلا أنها تفصح عن وجودها من خلال الأثر , والمصورة عندما تعمد إلى نفش الريش في متون النصوص تستحدث لعبة تركيبية للصور تلاحق ذلك الأثر الذي تخلفه الحركة الفائضة للكائنات الطائرة وهو إجراء إستبدالي يستدعي النظر للثيمة من زاوية أخرى الهدف منه الخلاص من عبء الإحالات المباشرة والمرجعيات الجاهزة .

وبناء عليه فإن الريش , هذا العنصر الهش صار يمتلك قابلية الإبلاغ , بل إنه مع التفاصيل البصرية المتعددة التي تشكل الأنساق التأليفية يبلور نظام دلالي تتعايش فيه العلامات والإشارات فتنقل الأشكال إلى مستويات تعبيرية وترميزية , فضلا عن طاقته الانفعالية المستمدة من توظيف المخزون الوجداني للفنانة صاحبة النصوص تجاه الطبيعة وتجلياتها , وهو مايضمن للصور أن تتجسد كظاهر متعدد للطبيعة .

في تجاربها المتضمنة في سياقات عرض (الأرض) تقترح الفنانة ممارسة ممتدة في المكان الفيزيائي الذي يبدو مستقرا في نظرة عابرة , غير أنه يستند في حقيقته على التجدد والتغير , لذا لاتنشغل (إيمان) بالقبض على الحيز الواقعي , بل تستشف حالات المكان ..و تبدلاته , وانبثاق الحيوات من جوفه , مستخدمة منظور لافت قائم على التماس مع حياة الأرض , والتقاط المناظر من المسافة الأصغر والأقرب بما يكفل متابعة دقائق الجزئيات في مفاصل الصور .

تتسم المسالك الفنية التي اتخذتها الرسامة بلغة لونية تفيض بالحياة , وبالتنوع مما ساهم في ترسيخ الاسترسال اللوني على نحو بليغ , وتوسيع طاقات السرد البصري .

في الخطاب التشكيلي الذي تنجزه ( إيمان عزت ) تنوجد كينونة جديدة تتحرك مفاصلها وتفاصيلها وفق مقتضيات نسقية تتخلق في محترفها , هذا الخطاب في إنبنائه يبتدع نظامه الداخلي , وتنبجس منه إشارات ودوال تتجاوز حدود المعاينة البصرية للشكل نحو الارتحال في البنى التي تسكن خلف الأنظمة الإشارية , وهي خاصية تكشف أننا إزاء محترف خلاق , وتجربة فنية استثنائية .

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *