د. خلود جرادة*
للقدس وجيب في القلب يعلو على كل خفقات الحب والحنين ، وللقدس في الروح وميض لا يخفت ، ونور لا ينطفئ ، وحب لا ينتهي ، لها رائحة تسري في الدم كسريان رعشة خشوع في محراب الابتهال في لحظات صدق مع الله لا تأتي دائما وقد لا تتكرر .
هي القدس إذن التي أشدّ الرحال إليها بعد غياب دهور وعمر من الحنين تعربش أحلامي وآمالي من قَبْل أن آتي إلى هذه الحياة ، أخيرا أنا في طريقي إلى القدس ، أستقلّ الحافلة إليها من نابلس وأطلق القلب فراشات في عالم يختلط فيه كل شيء ، الرهبة والرغبة والحب والشوق والابتهال والصلاة ، يكاد القلب يترجل من صدره ويطير إلى حيث السلام لروحٍ قلقة وكأن الريح تحتي .
مواكب من أشجار الزيتون المباركة تطلّ عليك على جنبات الطريق ، زيتون لا شرقيّ ولا غربيّ يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار ، نور على نور ،زيتون طاعن في الخضرة وطاعن في الانغراس في الأرض حدّ التماهي ، زيتون تشي جذوعه وتبوح بأنها لك ومنك وإليك ، جذوع كوجه جدّتي التي بلغت من العمر عتيّا ، من قال أنّ هذا الزيتون ليس لنا؟! من قال أنّ هذه الأرض لم يزرع جدّي فيها قلبه قبل أن تطير فراشات روحه وتحطّ على زيتون هذه الأرض ريثما يأتي أمر الله فتأتيه سعيا ؟ من قال؟
أيّهذا القلب اهدأ عليك السّلام ، فالطريق إلى القدس مازال ممتدّا ، والزيتون ما زال يغني وينشد للراحلين والعائدين .
هأنذا في القدس ولستُ أجرؤ أن أطأ ترابها بقدميّ فأفرش القلب لها بساطا ، وأمدّ الروح لها عريشة شوق ، ها هي القدس وقد داست ترابها أقدام الأنبياء والمرسلين ، هاهي القدس وقد تنزلت فيها الملائكة بوحي الله ورسالاته ، ها هي القدس وقد أنزل الله فيها على مريم عليها السلام فاكهة الشتاء والصيف ، ها هي القدس وقد بشّر الله فيها زكريا عليه السلام بيحيى عليه السلام ، هاهي القدس وقد كلّم الله فيها موسى تكليما ، ها هي القدس وقد أمّ بها خاتم المرسلين رسل الله وأنبيائه والمبلّغين رسالاته ، ها هي المدينة المقدّسة إذن ، وأخيرا يا مدينة السلام داس القلب ترابك وعانقت الروح فضاءك .
أنا هنا فيك وعلى رصيف مزروع في الذاكرة منذ مئات السنين أجلس ، أنا وأنت والشيطان ليس ثالثنا ، ما بالي أغيب عني وأسافر فيّ حيث أنتِ ؟ أراهم يمرون أمامي ، جيوش الفاتحين وأفواج المشتاقين إلى رحاب الحبّ فيك ، ورأيتني معهم أطوف حول النور الذي يولد من كل مكان ومن كل حجر وشجر وحصى ، من قال أن الحصى لا يلد نوراً من؟ حصى القدس يبعث نورا يملأ أرجاء الكون ، أنا لا أتخيّل ولا أهذي ، أنا أرى هذا النور ، فانتصبت وسرت وراءه ، غلالة من الضياء أضاءت نفسي ، ليس ثمة رهبة ولا خوف ، ليس ثمة غربة أو وحشة ، ألهذا أنتِ يا حبيبتي مدينة السلام؟ ألِأنّ الجسد إذا ما حلّ فيك حلّ السلام في الأرواح والقلوب ؟ ، فتغدو النفس شفّافة كالبلّور ، ويقطر الحبّ حتى من أطراف الأصابع ، ومن جدائل الحناء المفرودة على ظهر سنين من الانتظار؟ أدركت الآن لماذا هي مدينة السلام ، ففيها يهدأ قلق الروح ويسكن القلب كطفل في حضن أمه ، في القدس لا تستطيع إلا أن تكون مُحِبّا ، تنشر الابتسامة والعطاء والطيبة حيثما وجهتَ وجهك ، هكذا هم أهلها المقدسيون ، وهكذا تصبح أنتَ فيها ، توَلد من جديد ، بقلب محبّ وروح شفافة .
في القدس سرّ عجيب ، لا تستطيع أن تدرك كنهه ، هل هذا يعود لأنها مدينة مقدّسة ؟
زرتُ مدنا مقدّسة غير القدس ، وهي أكثر قداسة منها ، ولكن الروح لم تكن فيها كما كانت في القدس ، في غيرها من المدن المقدسة ينجذب القلب إلى رمز القداسة في المدينة ، فتشعر بالسكينة والأمان وأنت في أماكن محدّدة وخاصّة ، أما في القدس فالأمر مختلف ، في كل زاوية وكل شارع وزقاق وحجر تشعر بالسكينة والصفاء ، فالشعور إذن ليس نابعًا من قداسة المكان فحسب ، بل من طبيعة المكان وأهله والبَرَكَة التي تسكنه ، وقد رأيت معنى البركة وهو الثبات متمثلا فيها ، نعم ثبات البركة في هذا المكان وثبات الحب الذي يتنامى على أرضها وفيها وحواليها .
جرّب أن تدخل إلى أسواق وشوارع القدس العتيقة ، تلك التي تقع داخل الأسوار َوسِرْ في دهاليزها ، وستشمّ عبق المحبة يملأ كلّ خلية فيك بالعطاء ، هنا كانوا ، وكان وقع خطواتهم يملأ الدنيا تسامحا وعدلا وأمنا ، هنا كانوا وكان معنى الرسالات السماوية وأريجها يفوح تسبيحا وحمدا ، هنا كانوا وما زالوا وسيبقون قناديل القدس التي لا تنطفئ .
تحدّق في وجوه الناس داخل المدينة العتيقة وأنت تيمّمُ وجهك شطر المسجد الأقصى ، فترى وجهك في كل الوجوه ، وتقول في ذات نفسك : هذه الوجوه أعرفها ، وهذه العيون رأيتها من قبل ، وهذه النبضات في قلوبهم سمعت همسها في قلبي منذ زمان سحيق ، فأين التقينا قبل ذلك ؟ تسألهم هل التقيت بكم سابقاً ؟، فيسألونك : هل التقينا بك سابقا ؟ أتراها القدس ألقت على كتفيك شال محبتها ووهبتك شهادة أمومتها لك منذ أن طرقتَ بابها عائدًا؟ ولا أقول زائرًا ، أتُراها القدس رمتْكَ بزهر طيبتها وعطائها وسلامها منذ أن ضممتَ فَراشات الحقول فيها ؟
إنّها القدس تربُتُ على قلبك، وأنت تسمع أنين ووجع الانتظار إذ تعانق كلّ حبة تراب فيها ، وتهبك ما لم يهبه لك أحد
من قال أنّ القدس ليست لنا ؟ من قال ؟ وكلّ هذا الحبّ وهذا الوَلَه من أين يأتي ؟! هل يأتي من فراغ ؟ هل هو حبّ لقيط لا أصل له ولا جذور؟!
أضع أذني على التراب في ساحة المسجد الأقصى وأُصيخ السمع إلى قلب الأرض ، ها نحن نتبادل النبض والشوق والحنين ، ها نحن نتعاهد والعهد سرّ بيننا ، ها أنا أبوح له ويبوح لي ، لا آبهُ بنظرات المارّة المندهشة ، أنا العاشقة التي أمضّها الانتظار ولوّعها الحنين ، لم أسقط أرضا أيها المندهشون المارّون ، إنّ هذه الأرض تحتاجني لأضمّها إليّ ، وأنا أحتاجها لأني فقدتُ الكثير من الحُبّ بغيابها ، أحتاج السكينة أيها المارّون ، وأحتاج لأروي ظمأ سنين من العطش ، وليس سواها من يسقي العطاش .
ألهذا كان يطمع بها الغزاة على مرّ الأزمان والعصور ؟ ألهذا كانت الجيوش تأتي من مختلف بقاع الأرض للاستيلاء عليها ؟ أتُراها الرغبة الأزلية في السلام والسكينة والبحث الإنسانيّ عن العطاء والحبّ ، والذي لا تجده إلا في القدس؟ ليس هذا تبريرا للغزاة بقدر ما هو محاولة للفهم ، لماذا القدس دائما؟
إذن هل نحن نحبّ القدس لقداستها ؟ أم لسرّ آخر فيها بل أسرار ؟ جرّبوا عشقها مرّة ، فلن تتوبوا عن هذا العشق جرّبوا عناقها مرّة، ولن يحلو لكم بعد حضنها أي حضن ، جرّبوا البوح لها مرّة ، وستجدوا لذّة السفَر في عطر الحرف ، إنها القدس قِبْلَة القلوب النقيّة ، وبوصلة تأخذ بيدك إلى السلام .* قاصة وأكاديمية من الأردن