الحمار الذي يرفض مغادرة الكاش مِمُري

(ثقافات)

الحمار الذي يرفض مغادرة الكاش مِمُري

قصة قصيرة

د. موسى الحالول

عاد ديبو القَنّاص من تسكعه اليومي، فأعدَّت له زوجته عشاءه البائس المعتاد. بعد ذلك جلس على الأريكة المهترئة وراح يدخن بشراهة. قالت له زوجته بغنج بروليتاري رخيص: “نسيت أن أخبرك أن رجلاً جاء يسأل عنك في غيابك.”

  • رجل؟ ماذا يريد؟

  • قال إنه من أمن الدولة، وإن عليك أن تراجعهم في صباح الغد.

تهللت أساريرُه، واشتعلت حُمَّى الشهوة بين حنايا جسده المَعروق، وأشاعت شيئًا من الدفء في عظامِه المَقرورة. جرَّها من يدها إلى السرير الحديدي المتهالك – وكان قد هجر كلَّ نشاطٍ زوجيٍّ على متنه منذ أسابيع لشدة البرد والأهم من ذلك لانعدام الحافز الوطني – ثم أسمعَ الجيرانَ من صريره ما يوجب الاتصالَ بشرطة مكافحة الشغب لو أنه كان يعيش في بلاد الكفر. لكن في بلادنا، لله الحمدُ والمِنَّة، “هذي ما هي من سْلُوم العرب” Oh mon Dieu, no way!. فعادةُ القوم عندنا أن يتسامحوا في مثل هذه التجاوزات اللذيذة التي تطرد الكَرى من أعين الجيران الوَسْنى وتنفُث الأملَ في رَميم عِظامِهم العطشى.

 لم تقل له إن رجل الأمن قد قرص مؤخرتها بعد أن أبلغها ضرورةَ مراجعة زوجها للفرع في اليوم التالي، لأنها خمَّنت أن كتمان هذا الأمر حتى عن ديبو من ضرورات الأمن وأن القَرْصة، مهما تَقَوَّل المُتَقَوِّلون ونَعَقَ المُرْجِفون، ليست إلا تعبيرًا عفويًا بريئاً عن “التلاحم المصيري بين القيادة والشعب.” كما أنها لم ترغب في إفساد نشوته بعد تلك القادِسية التي أيقن أنه أخيرًا انتصف فيها من جاره اللئيم نوفل شِحْدة، الحاقد على الدولة الذي يهدد أمنها بفكره الضال. وإلا فما سبب استدعائه من جهاز الأمن؟ أليس لمكافأته وشكره على صنيعه الذي “يَخُرُّ” وطنيةً؟ نام ديبو ليلتها كما لم يَنَم منذ شهر العسل.

كان جارُه نوفل شِحْدة قد انتقل إلى الحارة قبل أسابيع معدودة. وبعد أيام من ذلك تعطَّل جهاز حاسبه المحمول، وسمع من الجيران أن جارهم ديبو لديه خبرة في إصلاح مثل هذه الأجهزة. تحمَّس نوفل أكثر حين عَلِم أن جارهم هذا كان يعمل دلّالاً في مكتب عقاري، لكن بسبب ظروف الحرب، وكساد السوق، أصبح عاطلاً عن العمل، فأراد أن “يُنَفِّعه” بكم قرش. وبالفعل طرق بابَ جاره، ففتحت زوجة ديبو الباب، وهي ترتدي بلوزةً لا يدري أيهما أدقُّ وصفًا لها: أهي تُخفي وراءها رُمَّانتين نافرتين أم تكشف عنهما؟ أغضى نوفل عنها، وسألها: “أين جارُ الرِّضا، يا أختي؟” تورَّد خدّاها خجلاً من هذا الشاب الثلاثيني الملتحي الخلوق، ثم نادت زوجها. أتى متثائبًا، أشعثَ الشَّعْر واللحية. عرَّفه نوفل شِحْدة بنفسه وبالغرض الذي طرق بابَه من أجله. أمهله ديبو إلى عصر اليوم التالي. أدى ديبو واجب الجِوار بإصلاح الجهاز، كما أدى واجب المواطنة بإبلاغ السلطات المعنية بما اكتشفه فيه. بل إنه رفض أخذ أجرةٍ من جاره، زاعمًا أنه لا يَحْسُن به أن يأخذ منه أجرًا لعملية إصلاح بسيطة. وَلَوْ، يا رجل، عيب!

***

استيقظ ديبو متأخرًا بعد “موقعة القادسية” المشهودة، وكان من شدة حرصه على مراجعة الفرع في أقرب وقت ممكن أنه لم يغتسل صباحًا مخافةَ أن يتأخر تأخُّرًا يَخْرُم حِسَّه الوطني عند من يعنيهم الأمر، ولا سيما أنهم تأخروا في التجاوب مع بلاغه، على غير المعتاد. في الطريق إلى فرع أمن الدولة، استأنف ما انقطع الليلةَ البارحةَ من سلسلة الأحلام. راح يُمَنِّي النفس بوظيفةٍ حكوميةٍ (ولو بصفة مُخْبِرٍ سِرِّيٍ) بعد أن أيقن أنه اصطاد صيدًا ثمينًا يستحق مكافأةً مُجْزيةً. عند بوابة الفرع، أعطى اسمه للحرس باعتداد وشموخ يليقان به في تلك الربوع.

  • أنا المواطن ديبو القَنَّاص. أنا مطلوب لمقابلة سيادة العميد، رئيس الفرع.

  • من قال لك إن سيادة العميد سيقابلك؟

  • وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

  • ماذا تقول، يا حمار؟

  • عفوًا، سيدي، أعتذر عن زلَّة اللسان تلك. أنا تحت تصرفكم.

  • المساعد شَكُّوح ينتظرك في أول غرفة على اليسار بعد الصالة.

***

حاول أن يُخْرِج “الحمارَ” من أذنيه قبل أن يصل إلى مكتب المساعد شَكُّوح، فوجد أنه قد استقر في الكاش مِـمُـري. راح يستعين بخبرته في الحاسبات ليعزِّي نفسه ويقول إنها ذاكرة مؤقتة، ولا بد أن يخرج “الحمارُ” منها من تلقاء نفسه، والزمنُ كفيلٌ بمداواة كل الجراح. “والوطنُ غالٍ، والوطنُ عزيز،” ولا بد من التضحية في سبيله.

استقبله شَكُّوح بوجهٍ كالحٍ أيضًا.

  • تفضل، ماذا لديك؟

  • سيدي، أودُّ أن أبلغكم أنني اكتشفت أن جاري إخوانيٌّ خطير…

  • وكيف اكتشفت ذلك؟

  • لقد جاءني قبل أسابيع وطلب مني أن أُصْلِح له جهاز حاسبه المحمول…

  • أين جاءك؟

  • في بيتي!

  • وهل لديك محل مرخَّص في السوق لإصلاح هذه الأجهزة؟

  • بصراحة لا. هل من مانع في ذلك؟

  • طبعًا. ألا تعلم، يا حمار، أنك بهذا تخالف أنظمة الأمن المرعية في البلاد؟

  • لقد سمعت كلمة “حمار” مرتين خلال دقائق هنا. لا بد أنني كذلك بالفعل، لكن أقسم لكم إنني حمار وطني.

  • لنعُد إلى موضوعنا الأساسي. كيف اكتشفت أن جارك إخوانيٌّ خطير؟

  • لأنني وجدت على جهازه مقالة بعنوان “كذبة الإصلاح الإداري والاقتصادي في عهد…” سيدي، اعذرني، لساني لا يُطاوعني على قول الاسم المقدس الذي ذكره ذلك الفاسق الزنديق، ولكن أكتبه لكم كتابةً.

  • يا حمار، “الفاسق” والزنديق” ليسا من مفردات جهازنا.

  • عفوًا، سيدي، أردت أن أقول إنه عميلٌ مأجورٌ مُنْدَسٌّ. ولكن “الحمار” الذي استوطن ذاكرتي منذ دقائق راح يعبث بالإعدادات لدي، فتخرج على لساني ألفاظٌ لا أتحكم بها.

  • وكيف عرفت من خلال تلك المقالة أنه إخوانيٌّ؟

  • وهل يعارض رمزَ عِزَّتنا إلا إخوانيٌّ حقيرٌ مأجورٌ؟

  • طبعًا، لا. لكن المقالة المذكورة ليست من تأليف جارك. إنما هي من تأليف صحفي ألماني وقد نشرها قبل أشهر في صحيفة “ألغِماينه تسايتونغ،” ثم ترجمتها ونشرتها بعض الصحف والمواقع الإلكترونية العربية المعادية لنهج بلادنا المقاوم. ونحن مُطَّلِعون على محتواها.

  • ما شاء الله عليك، سيدي، “تترغل بالأجنبي تَرْغَلة!” لكن حتى لو لم يكن جاري هو من ألَّف تلك المقالة المسمومة، ألا يعني احتفاظه بها على جهازه أنه إخوانيٌّ حقيرٌ مأجورٌ وأنه يستحق العقوبة الرادعة؟

  • لا بد من التأكد من انتمائه أولاً. أعطني عنوانك الوطني.

أدخل شَكُّوح بيانات ديبو القَنَّاص في جهاز الحاسب، ثم طلب منه اسم جاره ورقم شقته. عرض عليه الصورة الظاهرة على شاشة الجهاز، وطلب منه أن يتأكد إن كانت تلك صورة جاره موضوع البلاغ. فأكد له أنها بالفعل صورته. طَبَعَ شَكُّوح نسخة من عقد الإيجار، وقرأ بيانات المؤجِّر والمستأجِر. اتسعت عيناه، وقهقه ملء رئتيه. خطَّ على قُصاصةٍ بضع كلمات تقول: “السيد أمين المستودع. يرجى تسليم حامل هذه القُصاصة المكافأةَ المتعارفَ عليها أصولاً.” اشرأبت أُذُنا ديبو القَنَّاص شوقًا لمعرفة مكافأته التي لا بد أنها ستكون من جنس العمل.

ذهب إلى المستودع، وعاد حاملاً بردعةً مزركشةً تخجل من ألوانها سترةُ رومل، ثعلبِ الصحراء، العسكرية الباهتة. سأل المساعدَ شكُّوح عن مغزى هذه المكافأة. فقال له: “بهذه البردعة، أصبحت مسجَّلاً لدينا رسميًا بأنك حمار. وأنت مُلْزَمٌ بلبسها على ظهرك مدة ستة أشهر، وإن ثبت لنا عكس ذلك بعدها، فقد نعيد النظر في وضعك القانوني.”

  • ولماذا، يا سيدي؟ ما هي الجناية التي ارتكبتُها؟ أهذا جزاء وطنيتي؟

  • اقرأ اسم جارك، يا حمار، في عقد الإيجار وستعلم سبب مكافأتنا لك.

  • نوفل شِحْدة، ابن جورج وكرِستين. أين المشكلة، يا سيدي؟

  • ألا ترى، يا فهمان، أن الرجل مسيحي؟

  • ألا يمكن أن يكون من الإخوان المسلمين حتى لو كان من المسيحيين؟

  • بلى، هذا ممكن فقط في عالم الحمير!

  • ألا يكفي دليلاً على إخوانيته أنه يقرأ منشوراتٍ معاديةً لوطننا الحبيب؟

  • سينال جزاءه، بلا شك. أما أنت فإيّاك أن تنزع البردعة عن ظهرك قبل انقضاء المدة والنظر في وضعك. وستظل تحت أنظارنا!

وضع ديبو القَنَّاص البردعةَ على ظهره، ونَهَقَ مودِّعًا صاحِبَه. ولما وصل إلى بيته، أحس أنه نَبَتَ له ذيلٌ وأذنان طويلتان.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *