الرضيع الذي أكلني

*مها حمدي

كنا ثلاث نساء، مجتمعات لمداواة طفل مريض، يصرخ بشدة. لست متأكدة: هل كان مريضاً أم غاضباً؟ لكننا حوله نحاول تهدئته. جميلات جداً، أنا في جلابية بيضاء منقوشة بورد صغير كجلابيات أمي، وفتاة سمراء موفورة الصحة، طويلة، ولها مفاتن عظيمة، وامرأة أخرى تشبه الشوام في بياضها. لا أتذكر ماذا كانتا ترتديان، لكن السمراء كانت كثيرة الألوان. كنا نشبه النساء في الصور الفوتوغرافية التي تنشد تعريفك بالأعراق المختلفة. كساحرات، كل واحدة تستحضر تراثها في معالجة الأمراض وتهدئة الأطفال، كأن الطب لم يُعرف بعد، كأننا وحيدات في هذا العالم، وحيدات مع طفل يصرخ.
هناك حزن أسطوري يلف الغرفة الصغيرة التي في خارجها كل ما أعرفه وتعرفانه عن العالم، لم يندثر… لم يختف، لكن الغرفة تبدو لا باب لها نستطيع الخروج منه. فقط شباك يطل على شارع يمشي فيه كل من نعرفهم ثلاثتنا، كل المشاهد التي مررن بها تتجسد أمامنا مرة أخرى.
الطفل ما زال يصرخ، السمراء واثقة مما تصنعه من خلطات، شبيهة الشوام غير مهتمة أو تريد أن تبدو هكذا. أما أنا فلم أكن أكثر قلقاً مما أكون عليه دائماً، وأنا دائماً قلقة.

كنت أتصرف كأني صاحبة الغرفة، آتي بأشياء وأذهب بأشياء، شاعرة بالراحة في جلباب أمي، أنتظر أن تنجح إحداهما في تهدئته لألاطفه قليلاً، أحكي له حكاية، لا أتذكر أين نمت، وهل كان هناك مكان للنوم؟ وكيف تتسع لنا الغرفة وهي صغيرة هكذا؟
هدأ الطفل في يد المرأة الشديدة البياض، بدت دائماً حيلتها واسعة، خشنة كالرجال، لو لم تكن معنا لكانت في رحلة صيد.
أكاد أصرخ من الجوع، أبكي من الجوع. نامت الامرأتان والطفل يلعب معي، أعطيه ثديي، وأزداد جوعاً، يكبر الطفل فتتسع الغرفة أكثر. كلما لقم ثديي، ينمو أكثر، تتسع الغرفة أكثر، وأنا أتألم بشدة وأصرخ. كبر الطفل حتى أصبحت محمولة على كتفيه بدلاً من حمله. أصبحنا على فراش أخضر، يمزق جلابية أمي، يحاول معاشرتي لا أمنعه، لكن أصرخ من الألم، فيبتعد. تسعة أشهر يحاول، أصرخ فيبتعد، لم ننجح إلا قبل زفافي المزعوم الذي لم يحدث قط.
كما ظهر فراش أخضر وظهرت أماكن في الغرفة، يظهر باب فأخرج. أصحو من النوم في بيتي، اليوم زفافي، أمي جالسة ترتب ما ستطبخه، وبجوارها زوجة خالي. مشهد يتكرر في كل فرح ومأتم و«سبوع طفل».
لا معازيم، لا أصدقاء، فستان أبيض متّسخ كبير جداً عليّ، حتى إنني ارتديته على ملابس البيت. أظن أيضاً أن أبي قد مات، فقد ركضت هاربة من الزواج غير عابئة بالنتائج، والعريس يطاردني بطائرة كأنه غراب سيختطفني. أراه ينظر إليّ بحقد وأنانية، لم أر مجنوناً مثله قط.
لا بد أن أبي قد مات، أخي يركض ورائي يحاول إعادتي إلى حفل الزفاف، الطفل الذي أرضعته يظهر ويحاول أيضاً إعادتي إلى الزفاف.

____________

كلمات

العدد ٣٢٠٣

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *