التونسي آدم فتحي في «نافخ الزجاج الأعمى»: تخييل الحياة/الموت

التونسي آدم فتحي في «نافخ الزجاج الأعمى»: تخييل الحياة/الموت

منصف الوهايبي

في مدوّنة كلّ شاعر أو «أعماله الكاملة» أو غير الكاملة، كما دأبنا على القول، كتاب أو نصّ، أشبه ما يكون بـ»البيت المقلّد» (من القلادة) أو حجر الزاوية؛ سواء أكان من بواكير أعماله أم بعدها، نظلّ نعود إليه ونستأنف قراءته دون أن نملّ، وكل قراءة تكشف لنا ناحية في النص لم نكن قد انتبهنا إليها.
وهذا الكتاب في سيرة آدم فتحي الغنية هو «نافخ الزجاج الأعمى: أيامه وأعماله». ولا أتردّد في القول وأنا أفتتح هذا «المقال/ النصّ» على غير المنهاج المعهود المعقود في مجرى العادة، على افتتاح المسائل بالتأصيل المفهومي لأظهر مصطلحاتها، إنّ هذا الكتاب الشعري (ولا أفشي سرّا إذا ذكرت أنّي أوّل من رشّحه للفوز بجائزة أبي القاسم الشابي للشعر) هو أحد قصائد النثر الأبقى، أي تلك التي تستطيع أن تغالب الزمن، في ثقافة تدين لغتها الرياضية القائمة على «الجذر التربيعي» للوزن شعرا وصرفا ومعجما ونحوا. أمّا لماذا؟ فلأنّ نافخ الزجاج الرائي أو آدم الشاعر يعرف كيف يصلُ بين نصه ونص أسلافه من غير أن يحتذيهم أو يقلدهم، فقد حرّر آدم نصّه من القافية والوزن؛ لكنّ شعره «يضج بالوزن المنبثق من ذاته، وله في الأذن جرس قويّ، وإن أفلت من إدراك العين». ولا سبيل إلى اكتناهه إلاّ في ضوء التناسب الإيقاعي، حيث الزمن عديم الشكل في قصيدة النثر. على أنّ «نافخ الزجاج» ليس منذورا لهذه المفارقة، إذ يستخدم زمنا لا شكل له، أو زمنا تخيّليا يدرك بالبديهة والاستبصار. هو «النصّ الثاقب» أي المضيء كما يقول العرب عن الكوكب أو النجم القرآني الثاقب؛ حتى إن وقع الشاعر في «الثقب: «تسأل الطفلة أباها: كيف تكتب؟/كان أعمى/ ـ انظر في نفسي طويلاً إلى أن أرى ثقبا في الصفحة. أضع على الثقب كلمة. أنفخ في الكلمة كي تكبر قليلاً/ هكذا أحصل أحيانا على قصيدة./ ـ ثم ماذا؟
– لا شيء سوى أنّي قد أقع في الثقب فلا أعود».
أي في نسيج نصّه حيث الكلمة «ثقب» أو «لؤلؤة مثقوبة» أو «خرْق نافذ» صورة تنطوي على صورة، سواء انبنت العلامة بين الكلمة والصّوت على قانون المشابهة والمطابقة والرمزية، أو على ترابط المجاورة والاستبدال الكنائيّ. فالكلمة في هذه الحال أو في تلك، طقس سحريّ أو «سحر تعاطفيّ» سواء اتّخذ هيئة «التعاطف المثلي» القائم على المشابهة، أو هيئة «السحر التجاوري» القائم على المجاورة، حيث الأبيض مساحة للقارئ الذي عليه أن يملك «إبرة» قارئ حصيف يعرف كيف يحسن «خياطة» العناصر المرئيّة؛ ويثقب الصمت:
«تعرَّ قبل أن تفجعني فيك قالت، تجرد من قماش الحياة انغمس في مياهها الخاطئة، أنصت إلى جسدك يغرّد.
تعرَّ تماما قبل أن تفجعني فيَّ، اتبع صوتك كما تتبع فراشة في الحقل.
انتظر أن يحطّ الصوت على حلم جاف، اغرس الحلم في قلبك وغنّ.
اعزف على أوجاعك داعبها بغصن الحلم غنّ، يخضرّ الحلم من جديد.
عندئذ أعود إليك».
أيّ فضاء شعريّ هذا الذي يعرف آدم فتحي كيف يصوغه؟ إنّه «أرض مجهولة تقع خارج الزمن» أو «زمن لا زمن له». وهو عنده «وعي الكتابة في الكتابة» في سياق محاورة بين «الأب» و»البنت». هناك اسم لا شكّ، لكنه لا يمتلك سلطان التسمية. وتنويعا على فيليب جوليان، أقول إنّ الاسم الشخصي للأب «نافخ الزجاج» الذي يعلن عنه النصّ منذ عنوانه «ثقب» في اللغة، تسدّها أسماء ليست له. فهويّة «الأب» مثل هويّة الإله مخفيّة لأسباب غامضة، وإذا كان الإله لا يكشف عن اسمه، فليس مردّ ذلك، إلى أنه يحظر على الإنسان أن يسمّيه فحسب؛ وإنّما لأنّ كشفا كهذا هو من «الاختلاق الإحالي» أو «الاستحالي» باصطلاح حازم القرطادنّي؛ حتى لو اعتبرناه سرّا، والسرّ يُفشى لكن باعتباره سرّا. وقد بين كونتينو أنّ أغلب الأسماء الربّانية عند كثير من الشعوب القديمة، تنشدّ إلى عرف أساسيّ مفاده، أنْ لا شيء يوجد، ما لم يكن له اسم. فالتسمية تقتضي وجود الشيء، واندماج هويته في التسمية، بل إنّ التسمية ضرب من الخلق. يقول: «فإذا عُرف اسم إله، فذكر اسمه استدعاء له. وبما أنّ قدومه عند استدعائه، نوع من الطاعة؛ فيتبع ذلك أن يكون في مقدور الإنسان أن يتسلّط على إله، إلى حد ما». ولتلافي مثل هذا التسلط؛ كان لا بد من إخفاء اسم الإله، أو إخفاء اسم الشاعر في السياق الذي أنا فيه؛ إمّا في هيئة جملة أو تركيب بالإضافة «نافخ الزجاج الأعمى» وهذا التركيب صورة والصورة شكل، والشكل يدمى عندما يشرخ؛ ومن حقّ الشعراء أن يشرّحوا اللغة، وأن يستخرجوا خباياها وخفاياها، لكن من حقّنا عليهم أن ينفخوا فيها حياة أخرى لهم أو لنا؛ على أن يعيدوا خياطة أحشائها بخيوط اللغة. وهذا ما يفلح فيه آدم فتحي. والشعر، وتاريخه خير شاهد، ليس عماء وفوضى، أو تدوير الماس في فرن أفقي؛ حتى إن حوى قدرا من ذلك قد يكون علامة على جهد الشاعر في قول شيء جديد بطريقة جديدة، أو إيهامنا بأنّ الصورة لديه غريزيّة، أو بأنّه يكتب كما يكتب الأطفال بعيدا عن أيّ تأثير فنيّ أو مدرسيّ؛ فلا اعتراض على هذا، إذ كلّنا يسلّم بالذاتيّة في الفنّ عامّة، وأنّ الشعر في ما نرجّح لا يخرج عن سلطان الاستعاري/ الكنائي؛ لكنّ الشاعر/ الشاعر هو الذي يعرف كيف يستخدم قوانين هذين، ويوجّههما الوجهة التي يشاء ويريد، أو يعرف كيف يخونهما شعريّا. وهل الشعر غير خيانة اللغة وسفاح القربى؟
«دودة القزّ تخرج من شرنقتها.
تطير فراشة صغيرة. تدقّ بألوانها
على باب الصباح.
وعليها أن تموت
قبل الصباح القادم.
حين يدقّ الصباح القادم على بابها
ويطالبها بالموت،
تكون الفراشة الصغيرة
كبرت قليلاً
عشقت أثاثها الجديد
تأرجحت على غصن الخرّوب
تعلّمت السباحة في الهواء.
لا أحد يعلّم الفراشة
أن
الحياة أحيانا،
ولو ليوم آخر
خيانة».
إنّ «نافخ الزجاج» دالّ ليس له من «الواقعي» إلا الاسم «الأب الشاعر». لأقل هو دالّ ينهل من دالّه» أو أن الدالّ هنا هو المدلول نفسه أو المدلول الذي ليس له سوى صورة سمعيّة لا بصريّة. لأقل هو استعارة أبويّة أكثر منه أبوّة استعارية؛ والاستعارة بنية تداخل بالمطابقة، تمّحى فيها الحدود والماهيات والفواصل بين الأشياء؛ فلا غرابة في أن تحلّ «البنت» في «الأب» وأن يكون هي هو.
ومن هنا يتسنّى القول إنّ القصيدة «لا موضوع لها» سوى القصيدة نفسها، أو هي تلغي الموضوع من حيث هو قادح معنى أو حامل دلالة. والشعر بهذا المعنى نشوء وتكوين وحركة حرّة أو «نفخ في الزجاج». وفي هذا ما يؤكد أن القصيدة لا تسعى إلى عرض موضوعيّة عالم، يمكن اقتسامها؛ وإنّما تكابد العمق المرن لسؤال ما بكل أصدائه. وهو تقريبا ما يقوله باديو في «ما الذي تفكّر فيه القصيدة» من أنّ قسما كبيرا من القصيدة «يهدف تحديدا إلى نبذ الموضوع، وإلى أن يكفّ الفكر عن أن يكون في علاقة بالموضوع»؛ والموضوع في السياق الذي نحن به هو ما يقابل الذات. ذلك أنّ القصيدة عند آدم فتحي مزاوجة بين عمليّة طرح بالمعنى الرياضي للكلمة، حيث القصد هو التلفظ بالكائن أو بالفكرة، إلى الحدّ الذي يتلاشى فيه الموضوع ويتبدّد الثاني. وهو في تقديري أشبه بالمجموع غير المتناهي في الرياضيات، أي الذي يكون عدد عناصره غير محدود. على أنّ محو الموضوع أو تذويبه، ليس دليلا ولا قرينة على عدول شعري عن «القول» أو عن «التفكير»؛ وإنّما هو محصّلة نزوع إلى تسمية «ما هو كما هو». والمقصود هذا الكائن أو هذا الكون، أو هذا الوجود الذي يتعذّر حدّه عند «نافخ الزجاج» إلا انطلاقا من فرضية طرحيّة، بالمعنى الرياضي كما سلف؛ أو إخراج شيء من شيء (الثقب/ الكلمة).
بل نحار ونتساءل ما إذا كان هذا النصّ الممتع نوعا من تدوين الحياة، أم من تخييلها، بل لعلّه هذا وذاك، بل لعلّه تخييل الموت ناهضا بين ذؤابة الريشة ومضاء النظر الثاقب:
«أنام مع جسدي منذ سنين بعين مواربة،
الأخرى تتلفت.
تسقط حبة من عنقود الأحبة. يوقظني الدوي في لحمي. أرى يدي تتفقد مفجوعة ضواحيها العزلاء. أذني ترتجف مثل رأس قطة مرعوبة.
لعل الدوي سقوط قريب أو شبيه.
أنام مع جسدي منذ سنين بعين مواربة،
الأخرى تتلفت»
لا تعرف الضربة من أين تجيء؟ من الدماغ، من الرئتين، من القلب، من الكبد، من الكلية، من المثانة؟».

كاتب وشاعر تونسي

  • عن القدس العربي

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *