د. موسى برهومة *
في روايته “طبل الصفيح” يختبيء غونتر غراس خلف شخصية طفل يدعى “أوسكار” مصاب بخيبة أمل من عقلية الكبار، وناقم على فوضى ما حوله، فلا يكون أمامه سوى أن يتسلح بطبل صفيحي وحنجرة فتاكة لها القدرة على تحطيم الزجاج، وتكدير صفو الزيف والاستبداد في سلوك احتجاجي مليء بالرموز، ومكتظ بالإشارات.
وإذ يضطر “أوسكار” لتبرير ما يفعله، يقول: “ليس هناك من يقوم بأعمال التخريب إلا من كان يعبث، لكنني لم أكن عابثاً، بل كنت أشتغل على الطبل. أما فيما يتعلق بصوتي، فإنه لا يستجيب إلا لنزعة الدفاع الذاتي المحض. كان الخوف والقلق هما ما دفعاني إلى استخدام أوتار حنجرتي استخداماً هادفاً”.
وسيكون على هذه الرواية، التي أنجزت في العام 1959 وتحولت إلى فيلم 1978 حاز جائزة السعفة الذهبية وجائزة الأوسكار، ونال بسببها غراس جائزة نوبل 1999، أن تطبع حياة الأديب الألماني، وتحدد مساراتها التي ظلت حتى رحيله في الثالث عشر من أبريل (نيسان) الحالي مضفورة بالاحتجاج، وهجاء الاستبداد، والانتصار للمظلومين المقتلعين من التاريخ والجغرافيا، والمطرودين من فسحة الضمير الدولي.
رحل غونتر غراس (87 عاماً) الذي نافح عن حقوق الشعب الفلسطيني، وعارض الحرب على العراق، وهجا إسرئيل، ووصفها بأنها “تهديد للسلام العالمي”، و”قوة نووية غير مسجلة” و”قوة محتلة”، حتى إن الرابطة العبرية للكتّاب في إسرائيل، دعت المثقفين في العالم إلى مقاطعة غراس، وقالت إن “العنصرية النازية مترسخة في حمضه النووي”، فيما ظل هو يهتف بلا هوادة: “لن أصمت بعد الآن، لأنّي سئمت من نفاق الغرب، مثلما لديّ الأمل بأن يتحرر الكثيرون من صمتهم”.
وفي سياق تحرره من صمته، راح صاحب رواية “الرقصات الأخيرة” يشدد: “سرقت إسرائيل أراضي على مدى سنوات، وطردت منها السكان، وعدّتهم مواطنين من الدرجة الثانية”. وقال: “هناك لحظات عنصرية في تاريخ إسرائيل”.
وبذلك ينضم غراس إلى قافلة طويلة من الناطقين بالحق، والمجاهرين بالصدق، والمنتسبين إلى روح الكتابة الحارة الخالصة المعافاة التي لا تنحاز إلا إلى الإنسان في توقه المستمر لتجسيد حريته، والحفاظ على كرامته، وصيانة روحه الجمعية من الخدش أو الانكسار.
لم يرتجف لسان غراس، ولم يتردد قلمه، ولم تخَفْ يده وهو يلوّح بها بغضب وأسى في وجه المجتمع العالمي الذي غضّ النظر عن مكابدات البشر المنفيين المهددين بالسحق والإبادة. لقد ظل بطبله الصفيح يهزّ يقينيات الاستسلام والتواطؤ، ويفضح زيف المدنية الأوروبية ونفاقها. وما انفك بحنجرته يكسّر ألواح الزجاج الذي يحجب أنّات الضحايا، ويعلن احتجاجه الذي لم ينقطع، ليس وحسب ضد إسرائيل وأوروبا المنافقة وأمريكا التي ترى بعين واحدة، بل طاول نقدُه بلاده ألمانيا، داعيا إلى تخليصها من ميراثها النازي.
لم يخشَ غراس إسرائيل وآلتها الإعلامية والسياسية التي وصلت حد المطالبة بسحب جائزة نوبل منه، فلم يكن وهو يدافع عن الحق التاريخي للفلسطينين، يصدر عن مناورة، أو موقف انفعالي، بل كان يعبّر عن روح المثقف الحقيقي الذي لا يتخلى عن التزامه الأخلاقي، ويدفع ثمن مواقفه، ولا يتراجع أو يتلكأ، ولا يبرر الاستبداد كما يفعل مثقفون عرب يحلمون بـ”نوبل” ومواقفهم مسربلة بالعار والخذلان، أو آخرون يكرسون ماكينتهم المعرفية لخدمة المستبد الذي يزهو بنياشينه التي لم يظفرها في حرب!
وداعاً غونتر غراس..
* موقع ذوات