(ثقافات)
قراءة في فيلم ” قتلة زهرة القمر” لمارتن سكورسيزي
هادي ياسين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يأتي هذا الفيلم “قتلة زهرة القمر killers of the Flower Moonا ” كما لو كان رسالة تضامنية مع الممثل الأمريكي الشهير ” مارلون براندو ” ( 1924 ــ 2004 ) الذي رفض استلام جائزة الأوسكار ، عن دوره البارز في فيلم ( العرّاب Godfather ) ــ 1972 ، احتجاجاً على موقف السينما الأمريكية التي احتقرت الهنود الحمر و قدمت صورة سلبية عنهم .
و يقدم الفيلم رسالة تضامن و محبة مع هؤلاء الهنود و هو يتناول ( جانباً ) من غدر الأمريكان البيض بهم ، حين عملوا على قتلهم و الإستيلاء على أراضيهم التي ظهر فيها النفط أوائل القرن العشرين .
في مقابلة أجرتها معه مجلة ( نيويوركر ) ، يقول المخرج ” مارتن سكورسيزي ” أن فكرة معالجة موضوع السكان الأصليين ، سينمائياً ، راودته منذ نحو 50 سنة مضت ، و يحدد التاريخ بعام 1974 ، إذ يذكر أنه كان ــ في ذلك العام ــ قد قضى يومين عند عشيرة ( سويو ) ــ من السكان الأصليين ــ في داكوتا الجنوبية ، و لاحظ مستوى الفقر الذي يلف حياتهم ، و هو يختلف عن طبيعة الفقر الذي لف طفولته . و يوضح أنه كان يحتاج الى سنوات كي يدرك أن الأمر يتعلق بإهمال الحكومة المتعمد لتاريخ البلاد ، و الذي هو مرتبط ــ حتماً ــ بالسكان الأصليين .
ولكن ــ حسب تقديري ــ فإن الذي نبّه ” سكورسيزي ” الى ذلك هو موقف ” مارلون براندو ” غير المسبوق ، ولكن ” سكورسيزي ” لم يُشِـر إليه . غير أنه يبرر عدم معالجته الموضوع في ذلك الوقت بكونه كان مخرجاً شاباً في أول مشواره ، ما يعني أن الموضوع كان سيبدو أكبر منه .
يستند فيلم ( قتلة زهرة القمر ) الى كتاب بذات العنوان ، ، أصدره الكاتب ” ديفد جران ” عام 2017 ، و الذي استند بدوره الى الوقائع التي حصلت لقبيلة الأوساج الهندية في ولاية أوكلاهوما . و تدور الأحداث التي سلّط الضوء عليها في فلك الخيانات المتكررة و الغدر الصامت و القتل الغامض في ظروف مبهمة ، إذ وقف الطمع ــ وحده الطمع ــ خلف كل ما جرى . و تأتي هذه الجرائم كإمتداد صامت لجرائم الإبادة التي أقدم عليها بيض أمريكا ضد السكان الأصليين الأسلاف .
و هذا الفيلم تتويجٌ لرحلة ” مارتن سكورسيزي ” على مدى أكثر من ستين عاماً في الصناعة السينمائية التي كرّست إسمه عبر أفلام ذات طابع ملحمي ترسخت في ذاكرات مشاهدي السينما ، و كما نعرف فإن هذه الأفلام تتميز ــ عادةً ــ بطولها الذي يَعبرُ الثلاث ساعات ، لكنه لا يمط أفلامه من أجل الإطالة بل ليجعل المُشاهد يحيط الإحاطة الكاملة بموضوع الفيلم . فـ ” سكورسيزي ” يريد أن يقول للمشاهد كل شيء في كل فيلم من أفلامه ، و بذلك فهو يقدم للمشاهدين مجلداً من كتاب بَصَري عبر كل فيلم من هذه الأفلام . و بالتالي فإن أفلام ” سكورسيزي ” هي سرديات سينمائية .
و المُطّلع على تاريخ ” سكورسيزي ” الشخصي ، يجد أنه كان مولعاً بالسينما منذ أن كان في السادسة من عمره ، حين كانت عمته تصطحبه الى الصالات السينمائية ، و إذ يبلغ الثمانين من عمره ــ الآن ــ فذلك يعني أنه يستند الى سنوات طويلة من الخبرة السينمائية . فهو موسوعة سينمائية تمشي على الأرض في هيئة مخرج متمرس .. بات مرجعاً في تاريخ السينما ، على الرغم من محاربة تجار السينما و مافياتها له .
دائماً ، يلتقط ” سكورسيزي ” مواضيع أفلامه بعناية فائقة و يشتغل عليها بعناية فائقة . و قد عوّد متلقيه على فريق من الممثلين الذين يختارهم بعناية ، منهم ” روبرتو دي نيرو” و ” ليوناردو دي كابريو ” اللذين وظفهما في أكثر من فيلم . و في فيلم ( قتلة زهرة القمر ) جمعهما ” سكوركيزي ” كـ ( ندّين ) يتنافسان في براعة التمثيل : ” دي نيرو ” الطاعن في السن ، الذي لعب دور المزارع الغني ” وليام هيل ” المقيم بين أفراد قبيلة ( أوساج ) ، و ” دي كابريو ” الذي لعب دور إبن أخيه ” إرنست بوركهارت ” الذي يضمر نوايا طمعٍ لا تعير للأخلاق اعتباراً . فهو في النهار رجل أريحي متسامح و خدوم ، ولكنه مجرم قاتل لا يتوانى عن قتل أقرب الناس إليه .. في الليل .
و لو إننا استعرضنا جميع أفلام ” سكورسيزي ” فسنكتشف أنها خلاصة للتاريخ الأمريكي ( و هو المخرج ذو الجذور الإيطالية ) . لا نقول أنه غير راضٍ عن هذا التاريخ ، لكنه غربله ــ سينمائياً ــ و لخّصه في أفلام .
مشكلة المُشاهد مع ” سكورسيزي ” هي مطُّهُ للوقائع ، لكن هكذا مشاهد قد لا يدرك أن لهذا المخرج رؤياً بانورامية عن التاريخ الأمريكي الشامل يلخصها من خلال مِحَن الأشخاص التي تتناولها أفلامه .
كانت قبيلة ( أوساج ) إحدى قبائل السكان الأصليين التي هُجِّرت من أراضيها الى الغرب الأمريكي ، و كان نصيب هذه القبيلة أن استقرت في ولاية أوكلاهوما ، ولكن أثناء استقرارها ظهرت ينابيع النفط في أراضيها الجديدة ، فتدفقت عليهم الثروات التي غيّرت نمط حياتهم فراحوا يقتنون السيارات الفاخرة و ترتدي نساؤهم الفرو و المجوهرات النفيسة . الأمر الذي أثار حفيظة البيض ، ما دفعهم الى تحريض الحكومة عليهم ، و لعبت الصحافة دوراً في هذا التحريض حين صورتهم على أنهم كسالى و يهدرون الثروات التي يرى البيض أنهم أحقُّ بها فأصدر الكونجرس أمراً يقضي بتعيين أوصياء من البيض على ثروات أفراد قبيلة ( أوساج ) بحيث لا يستطيع أي فرد منهم التصرف بثروته إلا بما يوافق عليه الوصي ، حتى لو كان الأمر متعلقاً بشراء الدواء ، كما حصل لـ ” مولي ” ( لعبت دورها الممثلة الموهوبة ” ليلي غلادستون ” التي من المرجّح ترشيحها لأوسكار 2024 كأفضل ممثلة ) . و يقال أن سرقات كثيرة حصلت لأموال ( أوساج ) على يد الأوصياء . ولكن فيلم ( قتلة زهرة القمر ) أنصف القبيلة و أظهرهم كأفراد نشطين و فاعلين في المجتمع .
لقد كان ظهور النفط في أراضي ( أوساج ) كما لو كان نقمة على أفرادها ، حين باتوا يتعرضون للقتل بصورة غامضة ، في حين كانت السلطات بطيئة ، أو غير جادة ، في تتبع خيوط تلك الجرائم ، حتى دخل ( مكتب التحقيقات الفيدرالي ) على الخط فمسك بتلك الخيوط ليتم ، في شهر يناير/ كانونالثاني 1926 ، إلقاء القبض على ” إرنست بوركهارت ” و ” وليام هيل ” الذي استطاع محاموه إستئناف محاكمته أربع مرات ولكن حُكم عليه ــ في النهاية ــ بالسجن مدى الحياة .
في المشاهد الأولى من الفيلم ، يقدم المخرج بانوراما بصرية عن طبيعة الحياة العامة لقبيلة ( أوساج ) التي ظهر النفط في أراضيها فاغتنت عائلاتها ، الأمر الذي أثار حفيظة و أطماع البيض الذين تغلغلوا بين ظهرانيهم و راحوا يبطشون بهؤلاء السكان الأصليين عبر سلسلة من جرائم القتل الغامضة .. دون ضمير أو أي وازع أخلاقي . و يقدم الفيلم صورة عن ظهور المافيات الغامضة و عن لاحيادية القانون ، و بذلك فهو يقدم صورة عن التكوين الأمريكي ( الأبيض ) ــ اليهودي ــ الذي تعامل مع أراضي السكان الأصليين كغنيمة .
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
قتلة في بيوت الله*إبراهيم نصر الله على كثرة ما يرى المرء في زماننا هذا من مشاهد تدمي الروح،…
-
قمر في مدينة القمرزياد الجيوسي *( ثقافات ) أريحا.. مدينة القمر لأريحا في الذاكرة والروح مكانة كبيرة، فقد…