(ثقافات)
رواية “جبينة والشّاطر حسن” والموروث الشّعبي
صباح بشير
مقدّمة:
ندرك أنّ المراحل الأولى من حياة الطّفل تعمل على تشكيل شخصيّته، في هذه الفترة يتشكّل نمط حياته اليوميّ، وتترسّخ عاداته وتوجّهاته ومعتقداته وقيَمه، هي مرحلة حيويّة تتطلّب التّثقيف والتّعليم والتربيّة السّليمة، فالطّفل في حالة نموّ مستمرّ، وكلّ ما يتلقّاه من تأثيرات على مستوى العقل والقلب والرّوح يلعب دورا حاسما في تكوين شخصيّته المستقبليّة.
من هنا يأتي الدّور الحيويّ للأدب بشكل عام، وأدب الأطفال الجيّد المُعدّ والمدروس بشكل خاص، الذي يلعب دورا حيويا في إعدادهم للمستقبل، يؤثّر في سلوكهم وفي بناء القيَم التّربويّة الإيجابيّة لديهم، يطوّر لغتهم ويسهم في تثقيفهم وتلبية حاجاتهم المعرفيّة.
رواية “جبينة والشّاطر حسن” للأديب الشيخ جميل السّلحوت، صدرت هذا العام (2023) عن مكتبة كل شيء في حيفا، وهي رواية مُوجَّهة إلى الجيل الصّاعد من الفتيان والنّاشئة، تقع في (112) صفحة من القطع المتوسّط، يتداخل فيها السّرد الواقعيّ مع الخيال المشوّق ومع الحكاية الشّعبيّة والأسطورة على غرار حكايات ألف ليلة وليلة. وما بين الحقيقيّ والمتخيّل، يعيد الكاتب خلط الأوراق، يعيد تشكيلها برؤية جديدة، يستدعي فيها الحكايات الشّعبيّة والتّراثيّة؛ للتّفاعل معها وإعادة إنتاجها من جديد، وذلك لإعطاء النّصّ لمسة إبداعيّة من الحكايا المتجذّرة في تاريخنا الشّعبيّ. والأديب الشّيخ جميل معروف عبر مسيرته الطّويلة، حاز على جوائز عديدة، وفي رصيده الأدبيّ الكثير من الرّوايات، كتب للكبار والصّغار، وكتب في أدب السّيرة وأدب الرّحلات، ولنا في أدب المراسلات كتاب مشترك بعنوان: “رسائل من القدس وإليها”، بالإضافة إلى العديد من الأبحاث المختصّة في التّراث، وسنوات طويلة من الكتابة الصحفيّة وكتابة المقالات السّياسيّة، والاجتماعيّة والأدبيّة وغيرها.
الأحداث والشّخوص:
تحكي الأحداث قصّة جبينة التي ولدت بعد معاناة وطول انتظار، وكانت تتمتّع بذكاء حادّ وجمال واضح.
تسكن أسرتها في بلدة القدس القديمة، تطلب من والدتها “بثينة” إنجاب أخت لها، فيتعذّر الأمر على الأمّ التي تقترح على زوجها “كنعان” الزّواج بامرأة ثانية؛ لتحقيق رغبة ابنتها في الحصول على أخت، لكنّ كنعان يرفض ذلك، ويتّخذ قراره لاحقا بتبنّي الطّفلة “زينب”.
زينب هي ابنة لامرأة أرملة فقيرة جاءت إلى بقّالة كنعان بحثا عن فرصة عمل لطفلتها، وبدلا من ذلك قدّم لها كنعان اقتراحا بالاعتناء بزينب والاهتمام بها، وبعد موافقتها، أخذ الطّفلة لتعيش مع أسرته.
بهذا القرار الكريم، أصبحت زينب جزءا من الأسرة وأختا لجبينه، عاشوا سويّا في بيت واحد، ممّا منح زينب حياة أفضل وأكثر تلاحما مع العائلة.
في أحد الأيام، قامت الأسرة برحلة إلى البراري، وهناك أُغويت جبينة بفضولها لاستكشاف إحدى الكهوف، دخلت وجلست في زاوية الكهف وأسندت ظهرها على الحائط؛ لتنعم بالرّطوبة، نظرت إلى يمينها فرأت رقعة ناشزة في الحائط، تفحّصّتها جيّدا، وخرجت تخبر والدتها وزينب بما رأته، وقفت وأشارت لزينب إلى الرّقعة البارزة في الحائط، لم ترَ زينب شيئا وهي واقفة، وبحركة عفويّة منها ضربت المكان الذي أشارت إليه جبينه بقدمها؛ فانهارت الرّقعة، هرعت أمّ جبينه على صوتهما، وقفت مشدوهة أمام ما رأت، نظرت إلى الحفرة التي ظهرت فرأت جرّتين نحاسيّتين مزخرفتين، مدّت يدها وأزاحت غطاء إحداهما، وتوقّفت تتمعّنها وهي تتهيّب من إدخال يدها إلى باطن كل منهما؛ لترى ما فيها، لكنّ زينب مدّت يدها وغرفت ملء كفّها، فإذ بها تُخرج من الجرّة بعض القطع الذّهبيّة.
بعد ذلك بفترة اقتحمت المنطقة عصابة من اللّصوص، اختطفت زينب وجبينة، فأعلن الأب كنعان عن منح خمسين ليرة من الذّهب مكافأة لمن يجدهما ويعيدهما إليه، خرج “الشّاطر حسن” وشقيقه “حسين”، ابنا شاه بندر التّجار للبحث عن الفتاتين. انطلقا إلى مدينة أريحا، رافقهما سرب من الطّيور الذي ظلّ يحوم فوقهما ويتّجه شرقا، فهم الشّاطر حسن أنّ هذه الطّيور مرسلة إليهما؛ لتقودهما إلى مكان الفتاتين. وبالفعل قادتهما الطّيور إلى شمال أريحا، وهناك وجدا جبينة وزينب تستظلّان بظلّ دالية، عرفت جبينه الشّاطر حسن؛ فانشرح قلبها وقابلته بابتسامة، أردفها خلفه على الفرس في حين قفزت زينب خلف حسين، وأطلقا العنان لفرسيهما عائدين بجبينه وزينب.
أعلن الأب كنعان عن خطبة ابنته جبينة إلى الشّاطر حسن، وخطبة زينب إلى حسين، لكنّ الأخوين قرّرا تأجيل الزّواج إلى أن يتمّ القبض على اللّصوص ومعاقبتهم.
الخصائص الفنّيّة في الرّواية:
تصنّف هذه الرّواية ضمن الأعمال الأدبيّة التي تجمع بين الأسطورة والحكاية الشعبيّة بالواقع الحالي بشكل إبداعيّ، وربطها بالواقع الإنسانيّ بطريقة فنيّة وجديدة في أسلوب التّعامل مع الفكرة والحدث، وفي بناء الشخصيّة وتطويرها. احتوت على مجموعة وافرة من المعلومات التي تعرّف النشء على أماكن في بلادنا وجغرافيّتها وطبيعتها الغنيّة وأماكنها التاريخيّة، فمثلا تمّ ذكر معلومات وافرة عن “دير مار سابا” الموجود شرق مدينة بيت لحم، أيضا تمّ ذكر بعض أسماء الأعشاب والنباتات والحيوانات، وبعض المعلومات عنها، الأمر الذي أضفى على العمل طابعا تثقيفيّا خاصّا.
المفاهيم والقيَم التربويّة:
مع التقدّم التكنولوجيّ وتفجّر المعلومات والتّقنيات، نشهد اهتماما من المربّين بدراسة القيَم التي تحدّد مسار السّلوك الإنسانيّ، وتكوّن ثقافة المجتمع، من هنا يحضر الأدب كعنصر جوهريّ في عناصر الثّقافة المجتمعيّة وقيَمها، يتجلّى كمحور هام يعبّر عن القيَم، ينقلها ويعزّزها، وكما أسلفت في المقدّمة، أدب الأطفال وسيلة تربويّة ضروريّة، تساهم في تشكيل شخصيّة الطّفل منذ المراحل الأولى.
يتوجّه المؤلّف في هذا العمل إلى مراحل الطّفولة الأعلى سنّا – من العاشرة فما فوق- وذلك لإشباع حاجات هذه المرحلة الوجدانيّة والفكريّة، واستثارة خيال الفتيان وتحفيزهم على التّفكير، وتبصيرهم بتاريخ أجدادهم، وتعريفهم بالقصص التراثيّة، وبالتّالي تحقيق الفائدة والمتعة والتسليّة دون إغفال بعض المقاصد السلوكيّة والتعليميّة. وعن المفاهيم والقيم التربويّة التي جاءت في الرّواية:
تجلّت فيها مساعدة المحتاج والمعاملة الحسنة، وذلك من خلال المعونة التي قدّمتها عائلة كنعان لوالدة زينب، تجلّت كذلك علاقة الاحترام والتّآخي الإسلاميّ المسيحيّ القائمة منذ عهود طويلة، وذلك حين تبرّع الشّاطر حسن ببعض الحافلات لإرسال الأطفال وذويهم في رحلة إلى البراري، ثمّ اقترح على إمام المسجد التّنسيق مع بطريرك الكنيسة لتنظيم وترتيب الرّحلة.
هي رواية متعدّدة الأهداف، نجد فيها الأمانة والوفاء بالوعد، وذلك حين وعد كنعان زينب بحصّتها كاملة من الكنز الذي عُثر عليه في المغارة، نجد أيضا ما يعلّم الطّفل أهميّة التمسّك بالأرض والتّاريخ وتراث الأجداد، وكذلك الصّدق وحسن الضّيافة الذي تحلّى به الأب كنعان، والكرم الذي اتّسم به البدو، الذي شكّل جوهرا أساسيا في طابعهم الاجتماعيّ.
الأسلوب واللّغة والسّرد:
يقوم الكاتب بإعادة نسيج عالم متخيّل، وتقسيمه داخل الحبكة التي تجلّت فيها الحكاية التّراثيّة، والرّحلات والجولات التي قامت بها الأسرة، نقرأ ذلك عبر سلسلة من المشاهد التي تحرّكت بحيوية في النّص، وارتكزت على مجموعة من الصّور المخزّنة في ذاكرة المؤلّف، تلك التي استحضرها وتعامل معها بوعي الحاضر؛ ليخرج العمل بسرد مشبع للفضول، تتلاحم فيه العناصر الرّوائيّة في وحدة وانسجام، ضمن منطق التّضمين السّرديّ للحكاية الرئيسة، التي تتفرّع منها الحوادث والقصص؛ لتشكّل بذلك عنقودا من الحكايات القصيرة التي تتداخل وتتمحور حول الخيط الأساسيّ للقصّة الرّئيسة.
أمّا اللّغة فهي منمّقة ومتقنة، تميّزت بسلاستها وبساطتها وبعدها عن التّكلّف والتّعقيد، أبرزت حيويّة السّرد ودور الشّخوص وصفاتهم، خاصّة بطلة الرّواية جبينة والشّخوص المُقرّبة منها.
اعتمد الكاتب على الكلمة في عمليّة التّجسيد، حيث اتّخذت مفرداته مواقعها الفنيّة فشكّلت العناصر الرّوائيّة وكوّنت الأجواء والمواقف والحوادث، وعرضت المعاني والأفكار، وأثارت عواطف القارئ الصّغير وانفعالاته، وحرّكت العمليّات الذّهنيّة لديه؛ كالإدراك والتّخيّل والتّفكير.
الرّاوي:
يشكل الرّاوي جزءا من بنيّة النّص، فهو من يتولّى عملية الحكي أو القصّ، يعرّف بالحكاية وينقلها إلى القارئ، ويأخذ مهمّة السّرد والوصف والتّقديم والنّقل، والتّعبير عن أفكار الشّخوص ومشاعرهم وأحاسيسهم، وبذلك يعيد إنتاج الحكاية. في رواية جبينة والشّاطر حسن كان الرّاوي العليم يمسك بكلّ خيوط السّرد، كان على دراية بالشّخوص ومكنوناتها، ظواهرها وبواطنها، سلوكها وأفعالها وأقوالها، وحالاتها وما ستؤول إليه مصائرها، عبّر عن مشاعرها وأحاسيسها، تجوّل معها، وعرّف بالأحداث والمجريات والأمكنة، سرد أدقّ الأمور والتّفاصيل، وجال ودار في ذهن أبطال الرّواية وأفكارها.
المكان:
حضر المكان بأنماط متعدّدة، المكان الواقعيّ، المكان المتخيّل، المكان المغلق والمفتوح، وقد ساهمت جميعها في تشكيل فضاء النّصّ وكشفت عن طبيعة الأحداث، وفرضت الأساليب السّرديّة واللّغويّة، مع ذلك، احتلّت الأماكن الواقعيّة الحيّز الأكبر في النّصّ، فأضفت بذاك طابعها الحيّ، أمّا الأماكن الخياليّة فقد ظهرت كأماكن حقيقيّة، وذلك لإيهام القارئ بالواقعيّة. كشفت هذه الرّؤية عن قدرة الكاتب الّتصويريّة في نقل الأحداث والتّفاصيل والأمكنة، خاصّة وأنّ الأحداث دارت في مدينة القدس التي وُصِفَت أهميّتها الدّينيّة والمعنويّة.
هذا وقد رسم الكاتب بقيّة الأماكن، من خلال تجاربه وذاكرته وملاحظاته ومشاهداته، عمل على صياغتها فنيّا لتناسب الأحداث والوقائع، والشّخوص بحركتها وتفاعلاتها، ولا ننسى ثقافة الكاتب وأثرها العميق في تشكيل تلك الأمكنة ورسم أبعادها وأنماطها، لتتحوّل بذلك إلى رموز بدلالات جديدة مثيرة للفعل، يمكن إدراكها من خلال العلاقات الجماليّة والرّوابط التي كوّنت نسيج العمل وعناصره.
وبعد.. هو عمل أدبيّ مغاير، يحمل سمات الأدب المعاصر، ويرتدي ثوب الحكاية الشّعبيّة، والأديب السّلحوت له دوافعه في استدعاء التّراث في نصوصه الأدبيّة، ربّما لقناعاته أنّ التّراث مصدر إلهام يجب استحضاره في متون الأعمال الأدبيّة، أو لأنّه التفت إلى تراث أمّتنا الثّريّ بما يحمله من قيَم وتجارب إنسانيّة ومعتقدات وطقوس وملامح للهويّة، فاستلهم منه شخوصه وموضوعاته، منبها بذلك إلى أهميته وخصوبته.
نجده يحيك أعماله بإضافة الأمثال الشعبيّة المحفوظة في ذاكرة المكان الوجدانيّة والثّقافيّة، كما نلمس حرصه على استخدام بعض المفردات من اللّهجة المحلّيّة أحيانا، أو قد يوظّف بعض المرويات التراثيّة أحيانا أخرى. هو نموذج حيّ لاستثمار التراث والمحافظة عليه، وزرعه في نفوس أبنائنا من خلال الأدب والفنّ.
أبارك للأديب جميل السّلحوت هذا العطاء، وأتمنى له المزيد من التّألّق والإبداع.