زياد الجيوسي *
( ثقافات )
أريحا.. مدينة القمر
لأريحا في الذاكرة والروح مكانة كبيرة، فقد ارتبطت في ذاكرتي منذ الطفولة قبل هزيمتنا في العام 1967 وسيطرة الاحتلال على كل فلسطين ومناطق عربية أخرى، حين كان والدي يأخذنا أحياناً في زيارات إلى أريحا ومتنـزهاتها، ورحلة مدرسية أثناء دراستي في إعدادية البيرة الجديدة، وكانت جولة في أريحا عامة وقصر هشام خاصة، فبقيت أريحا في الذاكرة وهذا ما دفعني لسلسلة زيارات للمدينة يدفعني الشوق أن أزور معظم معالمها البارزة والتاريخية، فهي المدينة الأقدم بين المدائن؛ فقد بناها وسكنها الكنعانيون أجدادنا قبل عشرة آلاف وخمسمائة عام، فهي تعتبر أقدم مدينة حضرية في التاريخ، إضافة إلى تميزها أنها تقع في أخفض بقعة على الأرض تحت سطح البحر، ما منحها مزايا جغرافية ومناخية خاصة بها.
منطقة الخان الأحمر
تأخرت الأمطار عن الوطن عامة وعن رام الله أيضاً، فمرتفع جوي قام بحرف كل الجبهات الباردة والماطرة لأوروبا، فاتفقت مع صديقي العميد فايز رفيق من جهاز الارتباط العسكري على زيارة أريحا تنفيذاً لاتفاق جرى بيننا إثر حوار دار بيننا حول أمكنة لم أزرها من قبل، وهكذا كان صبيحة الاثنين 20/1/2014 حيث تحركنا من رام الله في حدود العاشرة صباحاً باتجاه مدينة القمر، ومررنا من جوار الخان الأحمر والذي عرف باسم الخان السامري وباسم “نزل السامري الطيب” أيضاً، والخان عبارة عن مبنى من فترة الحكم العثماني ويعود للقرن السادس عشر، وبني كي يكون نزلاً للتجار المارين بالمنطقة بين الأردن وبيت المقدس، وسبب التسمية أنه كان مقابل الخان آثار كنيسة سان يوثيموس والتي بنيت في القرن الخامس تمجيداً لقصة السامري الطيب الذي ساعد سيدنا المسيح عليه السلام أثناء عودته من القدس، وحسب بعض المصادر فإن الكنيسة بقيت حتى القرن 13 ميلادي، حتى هدمها السلطان المملوكي الظاهر بيبرس لأنها تقع في طريق الحجيج لمقام سيدنا موسى عليه السلام، وأذكر أننا حين كنا نمر باتجاه أريحا أو العودة منها، كان توجد بجوار الخان خيمة بدوية، وكان هناك مطعم واستراحة في الخان ومحل يبيع التحف التذكارية للسياح، إضافة إلى بدوي وناقة لمن يرغب بالركوب والتقاط الصور، لكن الاحتلال هدم الخيمة وطرد الناس ووضع سلكاً شائكاً حول المكان في محاولة لضمه للمستعمرة، وقد حاولت الحصول على معلومات عما آل إليه المكان وإن كان قد ضمه الاحتلال أم ما زال هناك إمكانية للدخول للخان ومن أي اتجاه، من العديد من المسؤولين في السلطة الفلسطينية، ولكن بكل أسف لم أحظَ على جواب شافٍ، ومن وعدوني أن يبحثوا الأمر ثم يتصلوا بي.. لم يتصلوا أبداً.. فصرت على قناعة أن الخان تم ضمه والسيطرة عليه بصمت، ومن اتجهت إليهم إما أنهم لا يعرفون شيئاً أو أنهم لا يتابعون الأحداث بحكم مواقعهم، وبالتالي هم كما يقول المثل الشعبي: (غايبين فيله).
مقام موسى
أكملنا الطريق باتجاه النقطة التي اعتاد السياح الوقوف بها وهي نقطة سطح البحر، حيث من هناك تبدأ الرحلة للنـزول تحت مستوى سطح البحر، حيث أريحا والبحر الميت أخفض بقعة على الأرض، وكانت بداية جولتنا مقام النبي موسى، وهو يقع على اليمين لمسافة ليست بعيدة كثيراً عن الشارع الرئيس قبل الوصول إلى الطريق الذي يتجه يساراً باتجاه أريحا المدينة، وما أن انحرفنا يمينا وتجاوزنا أول تل رملي حتى كان المقام واضحاً أمامنا فتوقفنا للتصوير الشامل من البعيد للمنطقة وأكملنا الرحلة حتى باب المقام، فنـزلنا وبدأنا جولتنا في داخل المقام وغرفه وأقسامه وقبابه وأسطحه المتعددة، حريصا أن لا أترك زاوية بدون توثيقها بالصور كعادتي في جولاتي في عبق الأمكنة.
مقام سيدنا موسى عليه السلام بني في الفترة المملوكية وبالتحديد في فترة السلطان المملوكي الظاهر بيبرس حين ذهب للحج ومر باتجاه القدس لزيارتها، ضمن مفهوم عام عرف بـ (تقديس الحجة) أي زيارة المسجد الأقصى، بعد انتهاء شعائر الحج وزيارة المدينة المنورة حيث الحرم النبوي الشريف وقبر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والاعتقاد الإسلامي أن سيدنا موسى عليه السلام قد دفن هناك، حيث كان يوجد قبر ساد الاعتقاد أنه قبر سيدنا موسى، حيث أن المنطقة يوجد بها الحجارة الحمراء المسودة، وهي حجارة مشبعة بالقطران كان الحجاج والزوار يشعلونها ويستخدمونها للتدفئة وإعداد الطعام، واستناداً إلى حديث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ، لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ”، وتشير مصادر أخرى إلى أن الكثيب الأحمر الذي قصده الرسول محمد عليه السلام هو جبل نبو، بينما الاعتقاد اليهودي أنه لم يدخل فلسطين وتوفي في جبل نبو المطل على أريحا في أطراف مدينة مأدبا في الأردن شرق نهر الأردن، حيث نجد في التوراة: (صعد النبي موسى من أرض مؤاب إلى جبل نبو إلى قمّة الفسحة تجاه أريحا فأراه الرّب جميع الأرض, وقال له إلى هناك لا تعبر (سفر تثنية الإشتراع، الفصل 34 والله أعلم.
بينما نجد أن الاحتفال بموسم النبي موسى كان قبل بناء المقام وفي عهد القائد صلاح الدين الأيوبي، حيث كان الصليبيون وحسب اتفاق الرملة يسمح لهم بزيارة القدس في أعيادهم، وكان الموسم يتطابق مع مرورهم باتجاه القدس لزيارتها، فكان الاحتفال بموسم النبي موسى إظهاراً للقوة والوحدة أمامهم، ومعروف أن صلاح الدين عرف عنه الاهتمام بالمقامات كي يثير الحمية الإسلامية لدى المسلمين لتوحيدهم عقائدياً من أجل طرد الصليبيين نهائياً من بلاد الإسلام، ونجد في فلسطين العديد من المقامات التي يعود الاهتمام بها لفترة صلاح الدين الأيوبي، وقد استمر الاحتفال السنوي بموسم النبي موسى حتى العام 1937 حيث قمع ومنع الاحتلال البريطاني هذا الاحتفاء السنوي بقوة، بعد أن ظهر الدور السياسي القوي للجموع المشاركة في الوقوف ضد الانتداب البريطاني وضد الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية من قبل اليهود الصهاينة في تلك الفترات منذ العام 1920، وتم إعادة الاحتفال بالمواسم في العام 1987 بمرة واحدة منعها الاحتلال الصهيوني بعدها، حيث حضر الاحتفال ما يزيد عن 50 ألف مواطن، وبعد ذلك مرة واحدة في العام 1997 بعهد السلطة الفلسطينية، ولا أعرف إن تمكنت الأوقاف الإسلامية بعدها من تكرار الاحتفال أو منع من الاحتلال كالعادة وإن علمت أنه سيتم إقامة الموسم باحتفال ضخم يوم 11/4/2014.
ضريح موسى
وعودة إلى مقام النبي موسى عليه السلام فهو بناء ضخم، فقد بني من ثلاثة طوابق يعلوها عدد من القباب، والبناء مقام حول ساحة واسعة وكبيرة في متصف المقام وحولها أكثر من 120 قاعة وغرفة كانت تستخدم لأغراض كثيرة، ومنها قاعات علم وإقامات جنود ونزل للحجيج بالطريق لبيت المقدس والعودة منه، ومقابل الحائط الغربي للمقام نجد المسجد وهو من قسمين للرجال والنساء، وحين الدخول من البوابة الرئيسة له نجد على اليمين ما هو متداول أنه قبر سيدنا موسى عليه السلام، وهو ضريح ضخم جداً ومغطى بالقماش الأخضر، وما زال في واجهات المقام من الخارج حجارة منقوش عليها تاريخ البناء بالعهد المملوكي يقول إحداها: (تم بناء هذا المقام على قبر النبي الذي تكلم مع الله سبحانه وتعالى وهو موسى عليه السلام بناءً على أمر من صاحب الجلالة السلطان طاهر ابو الفتاح بيبرس سنة 668 هجري)، بينما الحجارة الأخرى تشير إلى عمليات ترميم عبر مراحل زمنية مختلفة، بينما المئذنة مقامة مقابل بوابة المسجد وهي على شكل منارة مطلة على المنطقة بأكملها، والمقام في هذه الصحراء الملحية يشكل حالة من الجمال للمنطقة بأسرها ومقابل جبل نبو ومدينة مأدبا على الجبال الشرقية لنهر الأردن.
مقام حسن الراعي
بعد أن انهينا التجوال في المقام والصعود للطوابق العليا، خرجت وصحبي إلى خارج المقام، حيث التقى صديقي العميد الركن فايز مع أحد أصدقائه فسبقته باتجاه المقبرة الواقعة خلف المقام، وهي مقبرة قديمة جداً وضمت العديد من جثامين الحجاج الذين توفوا أثناء المرور بالمنطقة، إضافة لمن كانوا يرغبون أن يدفنوا هنا نظراً لقدسية المكان، وقرأت الفاتحة على أرواح من سبقونا في الرحيل، ويوجد بالمنطقة مقامين آخرين هما مقام حسن الراعي وهو الحارس للمقام في القرن 19 وإن كان البعض ينسبه أنه كان راعي أغنام عند سيدنا موسى، ومقام عائشة وهي سيدة صالحة عاشت في المنطقة ودفنت فيها، وتم ذكرها أول مرة في العام 1920 في الأوراق.
أضرحة قديمة
وجلت وصحبي المكان ملتقطاً الصور لبعض الأضرحة القديمة جداً، ملتفين في مسيرنا حول المقام من جميع جوانبه حتى عدنا للمدخل والسيارة، متجهين للخطوة الثانية في الرحلة وهي زيارة مكتبة بلدية أريحا التي تأسست في العام 1975م، وكانت بانتظارنا مديرة المكتبة السيدة مي هلال، والتي سبق أن خاطبتني عبر البريد الإلكتروني أكثر من مرة تدعوني فيها لزيارة أريحا والمكتبة أيضاً، حيث الصرح الثقافي الذي تطور وكبر كثيراً خلال السنوات الماضية، فتحولت المكتبة من مجرد أرفف تضم الكتب وتعيرها، إلى مركز ثقافي رائع سيكون الحديث عنه في الحلقة التالية.
صباح جميل في رام الله بعد أيام كنا نشعر بها أننا في مطالع الصيف، فانخفضت درجة الحرارة وظهرت بعض الغيوم مع النسمات الباردة، فدعوت الله الغيث الذي تأخر كثيراً، فقد بدأنا نعاني الخوف من سنة قحط، فهذه الأجواء لم نعرفها منذ أكثر من 160 عاماً، فأقف إلى لنافذتي في هذا الصباح المبكر أنظر للسماء ولرام الله، أستذكر زيارتي الأخيرة لأريحا مدينة القمر، أحتسي قهوتي وطيفي يرافقني كما العادة وكما رافقني في مدينة القمر، فكان قمر في مدينة القمر، ومع طيفي أستمع لشدو فيروز: (أنا كلّ ما بشوفك… كأنّي بشوفك لأول مرة حبيبي أنا كل ما تودّعنا… كأنّا تودّعنا لآخر مرة حبيبي).
فأهمس: صباحك أجمل يا وطن.. صباحك أجمل يا أريحا يا مدينة القمر.. وسأواصل بوح روحي في الحلقة القادمة.
* شاعر من فلسطين