(ثقافات)
في رواية مختار أمّودي (حمّودي) الأولى: فتىً يروي حياته الصّعبة في الضّاحية الباريسية بِطريقة خلّاقة
مبارك وساط
في الحياة الفعليّة، يحمل كاتب رواية “الظّروف المُْثلَى” اسم مختار حمّودي، لكنّه اختار لنفسه اسماً أدبيّاً مُختلِفاً قليلاً، إذ قام بحذف الحرف الأوّل من اسمه العائلي، ولذا نقرأ على ظهر غلاف روايته الاسم التّالي: مختار َأمّودي. الرّواية مكتوبة بالفرنسيّة، وصادرة عن دار غاليمار في شهر غشت 2023، وعنوانها الأصليّ هو: Les conditions idéales. وفي حوارٍ أُجْرِيَ مع صاحبها، قال إنّ ما ابتغاه مِن إدخال هذا التّغيير الطّفيف على اسمه هو إقامة تمايز بين “حَمّودي”، الشّخص الواقعيّ، و”أَمّودي”، الرّوائيّ المُبْدِع، فما علينا سٍوى أنْ نحترم اختياره.
وُلِد الكاتب سنة 1988، ونما وترعرع في الضّواحي الباريسية. وتُشير قرائن عِدّة إلى أنّه جزائريّ الأصل. لقد قضى شبابه الأوّل لدى ما يُنعَتُ ب”عائلات استقبال” – وهي عائلات تتكفّل بأطفال أو فتية لا يمكنهم أن يعيشوا في كنف عائلاتهم الأصليّة، لسبب ما، فتتولّى أمرهم مؤسّسة “الرّعاية الاجتماعية” التي تُعيّن للواحد منهم عائلة يعيش لديها لفترة ما. وفي هذا النّطاق تنقّل الكاتب، منذ الثّانية إلى الثّامنة عشرة، بين مقاطعات مُتاخمة لباريس، وعاش في مساكن غير صِحّية أحياناً، وجرّب السّرقات الصّغيرة وبَيْع المُخَدّرات، لكنّه، كما يُقال، لَمْ يَبِع روحه للشّيْطان، بل نمّى عِشقه للقراءة وأحبّ الكتب، وبعد أنْ حصل على البكالوريا، دَرَس قانون الأعمال والقانون الأوروبي ونظام الضّرائب في جامعة باريس وجامعة باريس الأولى، وأصبح ذا وظيفة جيّدة، وها هو قد أصدر روايته الأولى عن دار غاليمار !
لن نُجازف كثيراً إذا قلنا إنّ الطّابع السّيرذاتي لهذه الرّواية أكيد، حتّى لو كان للخيال ضِلع في صَوغ بعض وقائعها. فالكاتب نفسه قال أنّه لم يخترع وقائع هذه الرّواية، بل استحضر الكثير منها مِن الذّاكرة. وبالفعل، فَجُلُّ ما يعيشه اسْكنْدَر بطل الرّواية، طِفلاً ومراهقاً، كان قد خَبِره مختار أمّودي قبله. في حوار معه، يقول الكاتب عن بطل روايته: “إنّ مساره شديد التّقارب مع مساري”. وقد قال أيضاً إنّ السّيّدة داﭬيرْ، وهي من شخصيّات روايته، موجودة فِعلاً في الواقع، بل إنّها اتّصلتْ به هاتفيّاً، إثر صدور “الظّروف المُثلى”، وأكّدتْ له أنّها قرأتْها وأنّ وجودها بين شخصيّاتها قد سرّها كثيراً.
* الظّروف المُثْلى
منذ الفقرة الأولى في هذا العمل، نكتشف شخصيّة السّارد المأزومة، المتوتّرة، التي تعتمل في داخلها شحنات المعاناة ولا تنعم دائماً بنوم هادئ: فالسّارد الطِّفل (سنعرف أنّ اسمه اسْكندر)، قد دَخَل مستشفى كْلامارْ ليُخاط له جُرْح في رأسه، إلّا أنّه يُسْتبقَى في المستشفى، “أسيرا” على حدّ تعبيره، ويُفَسِّر ذلك بقوله: “كانوا يبحثون عن مرضٍ ما في رأسي”. إنّ جُرحَه قد نَجَم عن ارتمائه الإراديّ مِن علوّ مُعَيّن، مَحدود، وسقوطِه على رأسِه. وحين يسأله الطّبيب الذي قام بتغريز جرحه عن السّبب الذي جعلة ينقذف في الفراغ، ولوْ مِن عُلُوّ مَحدود، وبعد أنْ يَفرِض عليه أن يُجيب، ينتهي اسكندر إلى”الاعتراف” بِما يلي: “إنّه الكابوس، وهو يَسعى إلى قتلي!”. يتعلّق الأمر بكابوس يُطارده، أيْ أنّ ظهوره في نومه يتكرّر كثيراً. الكابوس رهيب حقّاً، خاصّة بالنّسبة لطفل، فهو يرى فيه أنّ “الكارثة الكونِيّة” تجيء في كلّ مرّة، وهي “تَعْدو” مُتتبِّعة إيّاه، وتُطْلق أطناناً من الفولاذ لتَهويَ من السّماء صَوبه، أمّا هو، ففي لحظة توقُّعه أنّ جسده سَيُسْحَق وأنّه سَيفارق الحياة، يشرع في الصّراخ، وإثر ذلك يستيقظ. وهذا ما يسبّب له نوبات شَقيقة فظيعة.
ثمّ يُتابع الطّفل- السّارد: “كان يُريدُ أنْ يَعْرِف كلّ شيء، أعني الطّبيب، حتّى عن صديقي الخياليّ، ذاك الذي كنتُ أتحدّث إليه في غرفتي. وهذا رغم أنّي كنتُ مُتَكتّماً. لكنْ ليس بما فيه الكفاية. إذْ يَبدو أنّ مُمَرِّضةً كانت قد رأتني وأنا أُحَرّكُ يديّ في كلّ اتّجاه وأَصيح: “لِماذا تفعلُ هذا؟ توقَّفْ! أنتَ لا تفهم شيئاً! لا تُكَرِّرْ ما فَعلت!” وكان الطّبيب يستزيدني مُستمِرّاً في التّفرّس فيّ. حينئذ قُلت: “لا أُحِبّ أن أعيش، وقد أردتُ أنْ أكسرَ رأسي”. ذلك كان أوّلَ انفعال لي غيرَ ذي علاقة بالمدرسة. فقد حسبتُ أنّي كنتُ سيّئاً وغيرَ ذي نَفع إذْ ليس من المعهود أن يتخلّى أحدٌ عن طفله في زَمن السِّلم. لقد لُعِنت مُنذ أنْ وُلِدْت”.
كيف حاقت هذه “اللعنة” بذلك الطّفل التّعِس؟ لقد نجمتْ عن الحياة غير المستقرّة لوالدته. وستظهر والدتُه لاحِقاً – فالسّرْدُ ليس خَطِّيّاً في الرّواية – ووقتها سنعرف أنّها تُحِبّ ابنها بالفِعل، لكنّ ظروف عيشها لا تمكّنها من الاحتفاظ به في مسكنها. “ذلك أنّه كانت لي أمُّ، وذلك ما أَكَّدَتْه لي نيكولْ”، يقول اسْكندر. أمّا نيكُولْ هاته، فهي ربّة بيت تكفّلتْ بِاسْكندر لفترة، في نطاق “الرّعاية الاجتماعيّة”. يُشير اسْكندر إلى أنّ أمّه توجد “وإنْ كانت تنسى أنْ تجيء”، بمعنى أنّه لم يكن بعد يعرفها في الواقع. لكنّها ستحضر في أحد الأيّام، بدمها ولحمها وشعرها الأسود الطّويل المُجَعّد. يقول اسكندر: “لقد بدا لي أنّها تُحِبّني أكثر مِن أيّ شيء في الدّنيا واشترتْ لي أشياء كثيرة. وعادتْ مرّات عديدة، وأخذتني معها في القِطار الذي تستقلّه عادةً وأيضاً في المِتْرو كي نذهب إلى باريس، عند مبروك، الذي يشتغل صبّاغاً وهو أكبر منها سِنّاً. هو ليس أبي”. والأمّ لا تعيش دائماً مع هذا الشّخص المدعوّ مبروك، بل يَحدث أنْ تذهب أحياناً بابنها إلى غُرْفة بفندق، حيثُ يكون مطلوباً من الابن أن يَقضي أوقاتاً في الخارج، بعيداً عن الغرفة… والأب؟ تَتعاقب الصّفحات تحت نظر القارئ وهو لا يعرف شيئاً عنه، ثمّ تأتي لحظة يَعلم فيها أنّ اسكندر سمع مِن أُمّه مرّات أنّ والده كان قد اغتصبها، وسنقلّب صفحات أخرى عديدة قبل أن يظهر والد اسكندر بشكل عابر، فقد جاء ليرى ابْنَه، لكنّ البرود العاطفيّ هو ما يُخَيّم على لقائهما، والجديد الذي نعلمه هو أنّ والد اسْكندر يُسَمّى بِدوره اسْكَندر!
لا يستقرّ اسْكندر لدى عائلة استقبال واحدة. هكذا سيجد نفسه، في أحد الأيّام، في كُورْسِينْ، وهي بلدة مُتخيّلة، شكّلها الكاتب منْ ملامح بلدات واقعيّة كان قد عاش فيها. هذه البلدة تُوجَد (أو أَوجَدها الكاتب) في الضّاحية الباريسية، وفيها يحلّ اسْكندرْ الصّغير لدى السّيّدة خديجة التي ستتكفّل به لِفترة ستستمرّ ثماني سنوات، وذلك بعد أنْ كان لدى عائلة أُخرى. لكنّ التّكفّل هو بِمقابل، فالسّيّدة خديجة، وهي مغربيّة، تتلقّى مالاً من الرّعاية الاجتماعيّة مُقابل أن يعيش اسكندر في بيتها. ورغم عنايتها به، لا يطمئنّ اسكندر، في قرارة نفسه، إلى أن تلك العناية ناجمة عن عاطفة خالصة. إنّه بالطّبع في حاجة إلى العاطفة الأموميّة، لكن هيهات أن تتوافر له. في كورسينْ هاته، يكتشف اسْكندر الصّغير عالمأً يبثّ فيه أحلاماً، ولا يبخل عليه بالكوابيس. وفي هذا المناخ، يتعلّق بطلنا الصّغير بالقراءة، وينصبُّ عِشْقه، بشكل خاصّ، على المُعجَم: “في مُعجَم لارُوسْ، كنّا نجد العالَم كُلّه مُفَسَّراً. كانت هنالك تلك العِبارات اللاتينيّة ذات المعاني الخَفيّة، التي يَتمّ دائماً تَحْديدُها”. لكنّه يَحلم، طبعاً، بِحياة أفضل. وفي مرحلة ما، سيجتذبه الكَسب السّريع الذي يحسب أنّه سيجنيه مِن بيع المُخدّرات والسّرقات… لكنّ الرّواية ستنتهي بحصول اسْكَندر على البكالوريا ومغادرته لبيت السّيّدة خديجة بعد أن قضى فيه ثمانية أعوام، فقد بلغ سنته الثّامنة عشرة. لن تكون هنالك عواطف جيّاشة لحظةَ مُغادرته البيت المذكور، وكلّ ما سيأخذه معه من ذلك البيت هو جواز سفره، إضافة إلى ملابسه طبعاً. ثمّ يمضي إلى باريس فيتسجّل بالجامعة، ويُسلَّم له ملفّ “الرّعاية الاجتماعية” الخاصّ به، فقد أصبح “بالغاً شابّاً”، وهو بدوره يُسَلِّم هذا الملفّ لِأمّه، كجواب عن سؤالها إيّاه إن كان سيختار في الحاضر أن ينام في مسكنها. والجُمل الثّلاث الأخيرة في الرّواية هي التّالية: “لقد تجاوزتُ محكمة الأطفال دون أن ألتفت إليها. لم أكنْ أُفَكِّر في النّقود، كنتُ هانِئاً. فلنْ نمتلك منها ما يكفي، على أيّ حال. وهذا يصِحّ بالنّسبة للحُبّ. ينبغي التّأقلم”.
لقيت رواية أمّودي استقبالاً نقديّاً إيجابيّاً، وأُدْرِجت على اللائحة الطّويلة للأعمال المُرَشّحة لجائزة غونكور وكذا على لائحة جائزة رُنودو الطّويلة… في هذه الرّواية، يعتمد مختار أمّودي، لغة تمزج بين عامّية (رطانة) الضّواحي الباريسية (حيث للمهاجرين حضور قويّ)، وبين لغة أدبيّة عالية. كما أنّه يُقَدّم لنا رواية تَخْييل ذاتيّ، في ثناياها تفكّه رائق ومرير أحياناً، وصِدقٌ ومغامرات، عن طفل يُشَكِّل نفسه بنفسه في عالم قاسٍ حقّاً، لكنْ لا يَخبو فيه ضوء الأمل. والرّواية مكتوبة بأسلوب حيويّ نلمس من خلاله تداخل المرارة والقسوة والأمل والفُكاهة والحلم والضّياع والتّشبّث بالحياة. أمّا اسْكندر نفسه، فقد يُذَكّرنا بأتراب له قرأنا عنهم مِن قبل في روايات من الماضي، وبواحد منهم على الخصوص، أعني مُومُو، “بطل” رواية رومان غاري “الحياة أمامك”، التي كان صاحبها قد وقَّعها باسْم مُستعار: إميل أَجَارْ. ورواية مختار أمّودي مُتميّزة وهامّة، لكاتبها تفرّده، وننتظر منه أن يُتحِفنا بِأعمال أخرى.