متاهات بُرهان شاوي : سرديات وجودية تحفر بعمق لتحرر رواسب إنسانية ماضوية

(ثقافات)

متاهات بُرهان شاوي

سرديات وجودية تحفر بعمق لتحرر رواسب إنسانية ماضوية

عقيل هاشم

تشير هذه السلسلة السردية /المتاهات إلى أنه لا فكاك من المآلات التراجيدية. الكل في النهاية شركاء في صناعة الجحيم، الذي جعل الإنسان يصطدم بالحقيقة المرة: مافعله كاتبها هو إعادة إنتاج التراجيديا الدائمة. ربما من إبليس الذي أعاد إلى الواجهة هشاشة الإنسان الذي تأسره الرغبة بمعناها الأكثر اتساعاً: الجنس، القوة، الجريمة، التسلط، اليقين القاتل، وهو في النهاية لا شيء.
الحقيقة حال صدور تلك المتاهات توج عالم الأدب وعالم المكتبات بمؤلف سردي طويل وحديث تجاوز نمطية الكتابة وهي عبارة عن سلسلة من المطبوعات تصل إلى تسع متاهات كتبها كاتبها الروائي والمترجم السينمائي برهان شاوي، والتي تحدث تناصا مع جحيم دانتي تسرد سلسلة من الحكايات يتداخل فيها التاريخ مع علم النفس والاجتماع والفلسفة ، يُغلّب السرد على الأسلوب في عمومها ـ حيث شغف الحكاية ـ والأطروحات الفلسفية . من أسئلة الوجود والخطيئة والمدنس المقدس والمميز فيها انها مخطوطة «أعتنى بها» كاتبها بأنها إنجزت بالتوالي وحسب الاحداث..
فقد اختار الروائي لعبة الدمى الروسية التي كلما فتحتَ واحدة منها، وجدتَ في عمقها أخرى، وهكذا، من الأكبر حتى منتهى الصغر. تخترق القصة الكبيرة قصص صغيرة تؤثث المتاهات بقوة. كلما تمادينا في القراءة برزت الواحدة تلو الأخرى في تراتبية فائقة الدقة. ومن ذلك ما كتبه إبليس وأرسله لآدم الإكويني متحدثاً عن نظرية الخلق ومأساوية خروج آدم وحواء من الجنة، متماهياً مع خطابات الكتب السماوية.

برهان شاوي
برهان شاوي
والمتاهات التسع تضاهي في التقاطع والشكل والمآلات متاهات الجحيم التسع في «انفيرنو» في “الكوميديا الإلهية” لدانتي أليغري، الفارق الوحيد والأساسي هو أن المأساة في المتاهات أرضية، يصنعها البشر أنفسهم من خلال شهوة القوة والجريمة والظلم، في صراعهم المستميت واليائس أحياناً لتجاوز الشرطيات التي صنعوها بأيديهم، فهم يمضون حياتهم القصيرة في نصب الحبائل، وفي محو العوائق التي صنعوها لأنفسهم بأنفسهم.
أبطال برهان في المتاهات التسع يلتقون في أروقة الجحيم، يصطدمون وقد يشتهون، في محاولات يائسة لتخطي الوجود المتهالك المدمر الذي علقوا به كقدر ظالم وجائر يرزحون تحت وطأته. تعميهم رغباتهم وتقودهم نحو الجحيم. ما حدث مع آدم الشبيبي مع حواء ذات النورين، وآدم زباتو والهندية المسلمة الرشيقة مادهوري، ليس إلا صورة تجسيدية لمأساة الرغبة التي تقود نحو متاهات جهنم. كيف الخروج من جحيم أرضي يذلهم ويقتلهم كل يوم قليلاً؟ بدأ منذ بدء الخليقة واستمر في خلاياهم وجيناتهم دون الفكاك منه. جحيم اليقين الديني والعرقي والتقتيل المجاني والتهجير والطرد. وهم في النهاية لا يعيدون إلا إنتاج مأساة الفراق الأولى بين آدم وحواء، والجريمة الأولى التي سال فيها الدم لأول مرة على الأرض الخالية، بعد مقتلة الأخوين قابيل وهابيل.
ليست المظالم والحروب والفتن اليوم والخوف من الآتي المبهم وربما الدموي، إلا مؤشرات أولية لجحيم يتسع كل يوم قليلاً. فقد دخل برهان شاوي متاهاته محملاً بثقافة أسطورية ودينية ونفسية وفلسفية كبيرة، ساعده في ذلك اتساع أفقه الفكري، وثقافته الإنسانية، ولغاته المتعددة،
وهذا ما يتجلى واضحاً في متاهاته التي تنفتح على المتاهة البدئية التي تأسس فيها الإنسان الأول «متاهة آدم»، وتنتهي بـ»متاهة العدم العظيم» مروراً بـ«متاهة حواء»، «متاهة قابيل» و«متاهة الأشباح»، و«متاهة إبليس»، و«متاهة الأرواح المنسية»، و«متاهة العميان»، و»متاهة الأنبياء» التي تأسست على المحاولات شبه اليائسة للأنبياء لبناء مجتمع آخر من خلال أحلامهم النورانية التي تحولت في النهاية إلى حروب دينية وعرقية ولغوية قاتلة، حيث لا شيء إلا اليقين المرضي وسلطان الشهوة المقرونة بالقوة، ومتاهات الضياع.
وعلى الرغم من بعدها الزمني عنا وبنياتها الأسطورية، كم تشبهنا «الآدام» و»الحواءات» التي خلقها برهان بشكل يختلط فيه الواقعي بالغرائبي، ووضعنا في صلب مآسيها الأرضية. كم هي منا وكم نحن منها.
هذا الجهد «الأسطوري» ليس متاحاً لكل الكتاب، ولكن للذين جعلوا من «صبر أيوب» وجهتهم. فالرواية بهذا المعنى ليست فقط متعة ثقافية وفنية، لكنها جهد «عضلي» وعقلي/ معرفي حقيقي تتأسس من خلالهما رهانات الكتابة عند برهان شاوي..
اقول تبدأ السلسلة من متاهة ادم وحواء وابليس وقابيل…. الخ وكيف تحمس لها القارئ تواصل معها أذ جازت التشريف الأدبي معظم الكتاب من أدباء العرب والغرب معا.
وفي الختام أقول على الرغم من بعدها الزمني عنا وبنياتها الأسطورية، كم تشبهنا «الآدام» و»الحواءات» التي خلقها برهان بشكل يختلط فيه الواقعي بالغرائبي، ووضعنا في صلب مآسيها الأرضية..
وقد راهنت عليها دور النشر لحداثة المتناول بكسرها للتابو وكسبت الرهان وربما تم منعها في بعض الدول لحساسية الموضوع فيها.
هذا التفصيل يُعيد إلى الأذهان وقائع مُشابهة التي كادت ألا تجد طريقها إلى النور، والى القارئ، وكادت تظل في حكم المجهول.
وربما يعود المنع الى لحظة تلعب فيها العوامل السياسية دوراً في ذلك، بل المنع يتعلق بمزاج الرقيب، وهو عاملاً حاسماً في اتخاذ القرار، في ظل هذه التأثيرات الذاتية معاقبة الاخر المختلف.
أقول هذه السلسلة السردية كادت ألّا ترى النور ونحرم منها،في الزمن الحديث سوف نصادف أسماء معروفة أخرى يواجهها مقص الرقيب بالرفض، لم يكن سهلاً، بل دائماً ممزوجاً الحسرة.
نحن أمام تجربة متفردة عربياً وعالمياً لا تكتفي بالمتداول والسطحي، حيث يتقاطع الجهد الروائي بالأنثروبولوجيا، والفيزياء، والفلسفة، وعلم النفس، والآداب العالمية، والتفكير الإنساني، حيث يتداخل الواقعي العادي، بالتخييل، وبالفنتازيا في وحدة غير متنافرة لدرجة الضياع في المتاهة، وهو ما يفترض قراءة متفطنة يسكنها الفضول ورغبة المعرفة والاكتشاف.

يمكننا أن نقول إن برهان شاوي روائي معرفي، صاحب مشروع كبير

مثل كاتبنا المبدع برهان شاوي. اذن هي مخطوطة سردية، تحمل حمولات فكرية تحفر في منطقة ملغومة لا سيما عندما يتعلق الأمر بكاتب مثقف، يساري، يحمل أفكارا مناهضة للسلطات كافة هدفها المغايرة والتحرر من رواسب ماضوية مثل أديبنا برهان شاوي. وهذا ليس نهاية المطاف، بل سوف يضطر إلى بذل جهد ووقت مماثلين للجهد والوقت اللذين بذلهما في كتابتها، قصد الوصول إلى هذا العالم وإيصال رسالته وتلك لعمري الهدف الاسمى من هدف وفعل الكتابة.

شاهد أيضاً

الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة!

(ثقافات) الكتابة الخضراء.. الفلسفة والبيئة! ساسي جبيل   يقول الكاتب الأميركيّ ريتشارد لوف: «بوسع طفل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *