أهوال الحرب في قصيدة ( من أب إلى ابنته ) للشاعرة برناديت جالاجر

(ثقافات)

أهوال الحرب في قصيدة ( من أب إلى ابنته ) للشاعرة برناديت جالاجر

د.سلوى جودة

أكاديمية ومترجمة مصرية

 

الشاعرة الأيرلنديةِ برناديتْ جالاجرْ ( 1959 ) ، واحدةً منْ ثمانيةِ أطفالٍ ، ولدتْ على شاطئِ البحرِ في دونيجالْ ( أيرلندا ) ، وتعيشُ الآنَ على أحدِ التلالِ في مقاطعةٍ كوركْ ، وهيَ في الثانيةِ والعشرينَ ، قبلتْ عرضا للعملِ في بغدادَ، حيثُ عاشتْ وعملتْ لمدةِ عامينِ . ومنذُ ذلكَ الحينِ ، ربطتها صلةً خاصةً واهتمام باللغةِ العربيةِ وبشعوبِ الشرق الأوسطِ . وتتناولَ قصائدها ما يتبقى منْ منمنماتٍ في الذاكرةِ ، التي تمثلُ تاريخا منْ الخبرةِ الإنسانيةِ الكونيةِ في اكتمالها وتعقيدها وتصالحها ، فهيَ تكتبُ عنْ الحياةِ والحبِ والإنسانيةِ والطبيعةِ واللاجئينَ والحربِ ، ولا تنتمي برناديتْ إلى أيديولوجيةٍ خاصةٍ، ولا تؤمنُ بالنظرياتِ ولا التصنيفاتُ التي لا تحققُ للإنسانِ الكرامةَ والسلامةَ والطمأنينةَ .

تم نشر أعمالها في العديد من المجلات والإصدارات الأدبية العالمية منها: Crannóg، Agenda، The Stinging Fly، The North، Stony Thursday، The Frogmore Papers، Dreich، Southword 41، Irish Examiner، Boyne Berries، ROPES، Stanzas، وفي مجلة السلام الأمريكية Dove Tales، Cork Words ، Tabula Rasa، In the Cinnamon Corners، Ó Bhéal Five Words، In Dappled Shade وفي العديد من المجلات الأخرى بما في ذلك: Picaroo  Poetry، ، The Incubator، Live Encounters، Backstory، Other Terrain، Shot Glass Journal، The Galway Review

وهيَ عضوُ مؤسسٍ في مجموعةِ الشعراءِ في الخارجِ ،وقد نظمتْ القراءةُ الأولى لأعضاءِ هذهِ المجموعةَ في    Books Up ستيرزْ في دبلن عامَ 2016، كما حصلت على جوائز من مجلس الفنون الأيرلندي ومجلس مقاطعة كورك.  تم تسجيل مجموعة مختارة من أعمالها في أرشيف الشعر بجامعة كلية دبلن، كما تمت إضافة قصيدتها “Coming Home” إلى بودكاست Words Lightly Spoken. كما أنه قد تمت دعوة برناديت أيضا لقراءة أعمالها في أيرلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وفي أكاديمية ساهيتيا في نيودلهي بالهند.

تناولتْ برناديتْ جالاجرْ في قصيدتها ( منْ أبٍ إلى ابنتهِ ) حياتها في العراقِ في أثناءَ الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ التي بدأتْ عامَ 1980 م وانتهتْ 1988 م ، بلا انتصارِ لطرفيْ الصراعِ وقبولهما لوقفِ إطلاقِ النارِ . على الرغمِ منْ ذلكَ خلفتْ الحربُ نحوَ مليونِ قتيلِ وخسائرَ ماليةٍ بلغتْ 400 مليارِ دولارٍ أمريكيٍ ، ودامتْ لثماني سنواتٍ لتكونَ بذلكَ أطولَ نزاع عسكري في القرنِ العشرينَ ، وواحدة منْ أكثرِ الصراعاتِ العسكريةِ دمويةً ، والتي في حقيقتها كما يقولُ الروائيُ العراقيُ علي بدرٍ ( 1964 ) في روايتهِ ( أساتذةُ الوهمِ ) 2011 م ، كانتْ الحربُ ” لجوءً إلى الموتِ كوسيلةٍ لتعريةِ الواقعِ ، لكنْ ليسَ ذلكَ الموتِ كحالةٍ فسيولوجيةٍ وإنما الموتُ في حالتهِ الإبداعيةِ . ” فعراقُ علي بدرٍ لمْ يعانِ منْ المشهدِ السياسيِ والعسكريِ فحسبَ ، وإنما منْ واقعهِ الاجتماعيِ وحراكهِ الثقافيِ ، فأبطالُ الروايةِ شعراءُ والشعراءِ همْ أسرى الوهمِ حينَ يموسوقونْ  ويشعرنون كلَ واقعهمْ ويلجأونَ للغةِ للتعبيرِ عنْ رؤيتهمْ للحياةِ والشعرِ والحبِ.  لكنَ هذهِ اللغةِ أيضا فتكتْ بها سنوات الحربِ الخبيثةِ ” لقدْ ماتوا . . . نعمْ ، ماتوا ولمْ ينشروا شيئا ولمْ يسمعْ عنهمْ أحدٌ ، ولكنهمْ موجودونَ في الهناكُ .. “

استدعتْ هذهِ الأحداثِ ما عاشتهُ برناديتْ جالاجرْ التي ولدتْ في مقاطعةٍ دونيجالْ التي تقعُ في شمال غرب أيرلندا وبالقرب من أيرلندا الشمالية ، والتي كانتْ لسنواتٍ عديدةٍ موضعَ صراعٍ عنيفٍ ومريرٍ بينَ الطوائفِ ، سببهُ الخلافُ بينَ القوميينَ ، الذينَ يرونَ أنهم هم الأيرلنديون ، لكنهم في الغالبِ منْ الرومانِ الكاثوليكِ ، والاتحاديينَ الموالينَ للتاجِ البريطانيِ الذينَ يعتبرونَ أنفسهمْ بريطانيينَ وهمْ منْ البروتستانتِ في الغالبِ ،  (بالإضافةِ إلى ذلكَ ، هناكَ فئةً منْ كلا الجانبينِ منْ المجتمعِ يصفونَ أنفسهمْ بأنهمْ أيرلنديونَ شماليونَ ) .الاتحاديونَ يريدونَ أنْ تبقى أيرلندا الشماليةُ جزءا منْ المملكةِ المتحدةِ ، في حينِ أنَ القوميينَ يريدونَ إعادةُ التوحيدِ معَ بقيةِ أيرلندا والاستقلالِ عنْ الحكمِ البريطانيِ ، ومنذُ عامِ 1998 أوقفتْ معظمَ الجماعاتِ شبهٍ العسكريةِ التي شاركتْ في الاضطراباتِ حملاتها المسلحةَ ، ولقدْ أشارتْ الشاعرةُ منْ طرفٍ خفيٍ إلى المعاناةِ الإنسانيةِ وتقلصِ حيزِ الحريةِ والأمنِ والسلامِ الاجتماعيِ لدى الشعوبِ جراءَ هذهِ النزاعاتِ ، ولقدْ سبقها في ذلكَ الشاعرِ والمسرحيِ الأيرلنديِ شيموسْ هيني 1939 الحائزُ على جائزةِ نوبلْ في الآدابِ 1995 ، والذي كانَ يرى أنَ غايةَ الشعرِ هوَ ” تحقيقُ السلامِ ” ، إلى التنديدِ بكلِ التصنيفاتِ التي تدعمُ التشرذمَ والفرقةَ والعداوةَ داخلِ المجتمعِ الواحدِ ، فهوَ يرى أنَ ” الولاءَ ، أوْ النقابيةِ ، أوْ البروتستانتيةِ ، أوْ أيا كانَ ما تريدُ تسميتها ، في أيرلندا الشماليةِ – لا تعملُ كنظامٍ طبقيٍ ، بلْ كنظامٍ إقصائيٍ استبداديٍ ” ، وفي ذاتِ الإطارِ تساءلَ الكاتبُ والصحفيُ الأمريكيُ  باتريكْ رادينَ كيفيٌ (1976 ) منْ يجبُ أنْ يتحملَ المسؤوليةَ عنْ التاريخِ المشتركِ للعنفِ ؟ لقدْ كانَ هذا السؤالِ يطاردُ أيرلندا الشماليةَ ككلٍ ” .

 وفي هذا الإطارِ السياسيِ والاجتماعيِ المضطربِ يلعبُ الأدبُ عامةً والشعرُ خاصةٌ دورا منْ أدوارهِ الفاعلةِ التي لمْ يتخلَ عنهُا رغمَ كلِ المحاولاتِ والنظرياتِ التي حاولتْ تحييدهُ وإقصاءهُ في بنياتٍ لغويةٍ وصورِ جماليةٍ مبتكرةٍ ورموزٍ لا تترجمُ الواقعَ ولا تحاكيهُ وتتفاعل معه ، في التسجيلِ والإشارةِ لوقائعَ تهددُ الوجودَ الإنسانيَ المأمولَ ، وتنخر في ثباتهِ واستقرارهِ ، وتعبثَ في رسالتهِ الرئيسةِ على الأرضِ . ولقدْ حاولتْ برناديتْ جالاجرْ في قصيدتها أنْ تربطَ بينَ مشاهدِ العنفِ المعتادةِ والقيودِ الأمنيةِ في وطنها الأمَ وتداعياتِ الحربِ العراقيةِ الإيرانيةِ ، فلقدْ خرجتْ منْ بوابةٍ للعنفِ – والعنفُ تبدو مفردةً مخففةً للجحيمِ – إلى بوابةٍ أخرى ، وفي الحروبِ والصراعاتِ المآسيَ تتشابهُ والقصصَ واحدةٌ وحقيقيةٌ ، فالخيالُ يسقطُ صريعٌا في دواماتِ الفزعِ ، فتطرحُ الشاعرةُ منْ خلالِ سلسلةٍ منْ الصورِ المتتاليةِ المضغوطةِ والمتناثرةِ مشاهدَ سينمائيةً متحركةً داخلَ البيوتِ وأماكنِ العملِ والطرقاتِ والمساجدِ ، والتصويرخلالْ الأحداثُ ليلا و نهارا ، معَ حوارٍ دراميٍ مشفرٍ بينَ أبِ وابنتهِ وبينَ الشاعرةَ وأصدقائها ، لا يخلُ منْ استهجانٍ لآلةِ الحربِ الغاشمةِ ورفضَ للتمييزِ وللطائفيةِ والدوجماطيقية والجمودُ بكلِ صورها وأشكالها ، ليسَ ذلكَ فحسبَ ، بلْ تظهرُ اعتياديةً مشاهدَ الحربِ التي تمثلُ إنذارا لأصحابِ القرارِ والصلاحيةِ بخطورةِ ذلكَ على حاضرِ ومستقبلِ العالمِ الذي يربي وحوشا يسكنونَ الغابةُ وليسَ بشراُ متمدينينْ في رباطٍ طبيعيٍ مشتركٍ يتبارى فيهِ الجميعُ لصنعِ حضارةٍ ومصيرٍ مشتركٍ فتقولُ  : ( إن أصواتُ القصفِ والحربِ لا تلجمُ منْ همْ في الثانيةِ والعشرينَ ). ورغم انسيابيةِ الحركةِ بينَ مقاطعِ القصيدةِ والبدايةِ اللامباليةِ والعبثيةِ التي تبدأُ بها براناديتْ القصيدةُ والتي تشبهُ عبثيةَ الوجودِ لدى صمويلْ بكيتُ في مسرحيتهِ ( في انتظارِ جودو ) 1953 وهؤلاءِ الصعاليكِ ال ينتظرون منقذِا لأزمتهمْ التي يصعبُ تشخيصها ، لتشابكِ أسبابها وانعدامِ حيزِ الثقةِ بينَ الفردِ وعوالمهِ المرئيةِ واللامرئية ، فالارتباكُ والفزع والحيرةُ والتوتر وأصواتَ القصفِ والخوفِ يحكمُ إيقاعها ويحركُ أحداثها .

وفي حوار معَ الشاعرةِ برناديتْ جالاجرْ ، أشارتْ إلى أنها أهدتْ هذهِ القصيدةِ إلى الشاعرِ الكشميريِ ( رفيقُ كاثورايْ ) في أكتوبرَ 2016 الذي التقتْه في قراءةٍ شعريةٍ في كوركْ قبلٌ سنواتٍ ، فهيَ لمْ تكتبْ عنْ الفترةِ التي أمضتها في العراقِ لأنها كانتْ مؤلمةً للغايةِ بسببِ الحربِ ، ولكنها وبعد أنْ قرأتْ تدوينهُ لرفيقْ كاثوارىْ عنْ إمكانيةِ محاكمةِ توني بليرْ رئيسُ وزراءَ بريطانيا بتهمةِ ارتكابِ جرائمِ حربٍ ، استدعتْ الأحداثُ التي عاشتها في أثناءَ الحربِ وجاءتْ هذهِ القصيدةِ:

منْ أبٍ إلى ابنتهِ

( إلى رفيقِ كاثواري )

 

هلْ تدركينَ أنَ هناكَ حربا دائرةً ؟

 – لا أعلمُ

فلقدْ اعتادتْ أنْ يتمَ إيقافهمْ عندَ نقاطِ

 التفتيشِ الأمنيةِ في سترابانْ — اوجناكلوي .

 أصواتُ القصفِ والحربِ

لا تلجمُ منْ همْ في الثانيةِ والعشرينَ

تطفأ الأنوارُ ، وتسدلَ الستائرُ

نتظاهر بأننا غيرُ مرئيينِ

كأنَ طائرتنا تستعدُ للهبوطِ .

 في العملِ أحمدْ يصبُ الشايُ الحلوُ

— في كوبٍ صغيرٍ ساخنٍ جدا لا يمكنُ حملهُ .

 صديقةً عربيةً تنتفِ بلطفَ

شعرا طائشٍا منْ وجهي باستخدامِ الخيطِ والأصابعِ .

الأنيقات اللاتي ترتدينَ آخرٌ صيحاتِ الموضةِ

– بصناعةٍ يدويةٍ منْ تصميماتِ مجلةِ البردةِ –

 يسرنَ مخفيات بالعباءةِ إلي المسجدِ .

نحن خمسُ نساءٍ قد ارتدينا اللونُ الأسودُ

وفي طريقنا إلى مسجدِ الجيلاني .

 رسالةٌ تضلُ طريقها إلى طهرانَ

لكنَني بأمانٍ في شارعِ حيفا ببغداد .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *