اللغة وصناعة الخبر

(ثقافات)

اللغة وصناعة الخبر

د. يوسف الكوفحي

أذكرُ أنّني في أثناءِ الحرب على غزَّة سنة 2008 وأنا أقلِّب القنوات الإخبارية، عراني الدّهش والاستغرابُ من خبرين مختلفين لحدث واحد في قناتين فضائيتين مختلفتين، والخبران هما: “قصف عنيف على غزة”، والآخر “قصف عنيف على مواقع لحركة حماس”، وعراني الدهش أكثر وأنا أقلب القنوات الفضائية حين لم أجد قناة إخبارية –تقريبا- خرجت بصيغة تختلف عن هاتين الصيغتين.

طبعا لأول وهلة  فإنَّ الخبر طبيعي، وهذا ما يؤمن به أغلب الجماهير وعوام الناس، وذلك لأنَّه يصف حدثا هو كذلك، “قصف عنيف على غزة أو على مواقع لحماس”، فلا يوجد خِيار ثالث، بهذا العموم. فعلى الرغم من دقة صياغة الخبرين إلا أن الخبر الثاني أكثر دقة ودهاء من الآخر.

ولكن في الحالتين فإن لغة الخبر تدل على أن الصراع –تقريبا- بين دولتين أو كيانين، لا يظهر فيهما الظالم من المظلوم، ولا القوي من الضعيف، ولا يدل أيضا على المقام الحقيقي للحدث، ليقف المشاهد على تصور صحيح لما يجري. عدا عن أن الخبر الثاني قد يدل على عدالة العدو الصهيوني في الحرب، وأنه لا يقصف المدنيين والبنى التحتية، كالمستشفيات والمدارس والأسواق وغير ذلك.

من هنا، فإن صياغة الخبر يجب أن تكون -مثلا- على النحو الآتي: “قصف عنيف على المدنيين في غزة”، ويختلف أيضا لو كان: “قصف عنيف على النساء والأطفال في غزة”، أو”الكيان الصهيوني يقصف النساء والأطفال في غزة بعنف”، أو”الكيان الإرهابي المحتل يقصف النساء والأطفال في غزة بعنف شديد”. وعلى هذا الأساس، تظهر خطورة اللغة، وتتجلى أهميتها الإعلامية في بناء تصور معين للحدث وحقيقة ما يجري في غزة، أو في غيرها من أماكن وأحداث… وهكذا، فإن اللغة هي مرآة الواقع الحقيقي وهي مرآة الواقع الزائف الكاذب أيضا، وخطورتها-أيْ اللغة- في أنها تتعامل بالنهاية مع واقع بالنسبة للمتلقي، وتستطيع أن تموه على المتلقي بذلك الواقع بوصفه واقعا، بغض النظر عن حقيقتة أو تزييفه.

وقِس على ما سلف، حديث الإعلام، مثلا، عمّا يجري من أحداث في إحدى دول الصراع، مثلا: “قتال عنيف في كذا بين قوات الحكومة أو النظام ومسلحين”، فالصورة الذهنية لهذا الخبر هو أنَّ الصراعَ الدائر في تلك الدولة، هو صراع بين فئتين متقاتلتين، بمعنى آخر، بين جيشين، وفي هذه الحالة فإنَّ حضور هذه الصورة سيؤدِّي حتما إلى غياب الصورة الحقيقية، وهي أنَّ الصراع بين مسلحين غير معتدين وقتلة مدججين بأقوى الأسلحة وأقذرها، ومدنيين حملوا السلاح مدافعين عن أنفسهم وأعراضهم ودينهم وأرضهم، وقد يكون العكسُ، كذلك، صحيحا، إذا كانت مصلحة الذي دفع للزمّار تقتضي ذلك.

خبر إعلامي: “مقتل 20 مدنيا في معارك كذا وكذا”، في اليوم التالي، “مقتل 10 مدنيين”، وفي كل يوم يقتل عدد من المدنيين 10 -20-30 مدنيا، مع مرور الشهور والأعوام يصبح هذا الخبر خبرا يوميا عاديا جدا، سواء على المستوى الإعلامي أو الإنساني أو الحقوقي أو الدولي، ليأتي يوم فيقتل به 100 أو 200، ليتحول إلى حدث صادم صاعق “تلك الجهة ترتكب مجزرة بحق المدنيين في كذا راح ضحيتها 100 قتيل”، فتحدث ضجة إعلامية واستنكار وإدانة، وينشر لها صور وفيديوهات لتأجيج العواطف والمشاعر، فتبلغ عواطف المشاهد الذروة ثم تنطفئ تدريجيا وتتلاشى، وهكذا يتحول القتل اليومي بأعداد قليلة إلى مشهد عادي مقبول، وذلك لغياب مفهومه الحقيقي؛ وهو أن القتل من حيث النوع هو مجزرة وجريمة لا تغتفر قلَّ أو كثر، أيْ يستوي بالقتل قتل النفس الواحدة وقتل الناس جميعا، ليتحول إلى صورة مرتبطة ليست كذلك، بل مرتبطة بعدد كبير من القتلى، وفي آن واحد فقط، وهي ما تعرف إعلاميا بالمجزرة.

وقلْ مثل ما ذكر، عندما يتناول الإعلام موضوع الانقلابات العسكرية، أو أي انقلاب لا يستند لأي دستور أو قانون أو شرعية دينية أو عرفية أو سياسية، إننا عبر الإعلام نجد الشخص الذي وصل إلى سدة الحكم بهذا الانقلاب اللاشرعي إنسانيا ودوليا وقانونيا وأخلاقيا، منقلبا به على الحق والحقيقة والشرعية، يوضع له لقب زعيم، قال الزعيم وذهب الزعيم وصرح الزعيم… وقل مثل ذلك فيمن انتهت ولايته من سنين وما زال في وسائل الإعلام زعيما، والأمثلة كثيرة… فاستخدام تلك اللغة، وإسقاطها على واقع زائف غير حقيقي، ينم عن متكلم يؤمن برئاسة هذا الشخص وشرعيته سواء أكان  بالوعي أم باللاوعي.

في هذه الحالة مثلا، فإن الحقيقة والواقع ينفيان عن هؤلاء صفة زعيم ولا بأي معيار من المعايير، ولكنك لا تستطيع إنكارهم بوصفهم زعماء؛ لأنهم كذلك بإنتاج اللغة وممارستها، فباللغة تخرج الأشياء من العدم إلى الوجود، فالصورة الذهنية للمشاهد العربي لا تنفك عن تصور هؤلاء إلا زعماء، وذلك لغياب التصور المناقض عند الأغلبية الساحقة بوصفهم ليسوا زعماء، لغياب ذلك لغويا، فالعقل لا يبني تصوره إلا باللغة، إن استطعنا الفصل، أصلا، بين العقل واللغة، وعلى هذا التصور، وهو الأمر الحتمي والطبيعي، تُبنى الأفكار والآراء؛ ليتأسَّسَ بذلك خطابٌ مضاد لخطاب الحقيقة والمنطق.

هذا غيض من فيض، فالأمثلة على ذلك لا تحصى، إن للغة سلطة تفوق أي سلطة، سلطة لا تسمح للعقل البشريّ أن يفر منها بأي حال من الأحوال، وذلك لأنها تتماهى معه، فيصبح هو هي، تفكيرا وسلوكا، ولا يرى نفسه خارج هذه اللغة، فتصور ما يحدث والواقع وعمليات القياس والنمط التفكيريّ لا ينفك عن تلك اللغة؛ وبهذا، فإنه لا يشك مطلقا في أنه حادَ عن الحقيقة والمنطق والصواب، فاللغة تصنع تصورا في ذهن المتلقي هو الأساس الذي ينطلق منه لأي فكرة ورأي ووجهة نظر.

من هنا، فالسلطة الحقيقية هي للغة لا للإعلام، فالإعلام هو آلة فقط لصناعة القالب اللغوي المناسب لقلب الحقائق أو تبيانها أو شرحها او تشويهها. وبالتالي، فإن المدرك لحقيقة اللغة وأسرارها وخطورتها لا يعوزه أن يعمل عقله أو تفكيره؛ ليكتشف، ببساطة شديدة، أن القالب اللغوي كفيل بأن يفضح أو يكشف له الإعلام الزائف المُضَلِّل والمُنحَطّ من الإعلام الحقيقي والمتين، ويستطيع أن يكشف أيضا حقيقة نوايا المتكلمين من الساسة والمسؤولين وغيرهم.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *