كواليس نوبل للأدب: رشاوى… ضغوط… تآمر وصفقات
باسم مرعبي
بعد أيام ستشخص أبصار المعنيين بالأدب وبجائزة نوبل إلى الباب الشهير في مبنى الأكاديمية السويدية في استوكهولم، حيث منه يطل، الساعة الواحدة من بعد ظهر الخميس، 10 أكتوبر/تشرين الأول، السكرتير الدائم للأكاديمية لإعلان اسم الفائز.
حتى هذه اللحظة، يكون الاعتقاد أن لا أحد يعرف إلى من ستذهب الجائزة، سوى ثمانية عشر شخصا، هم أعضاء الأكاديمية السويدية. غير أن الوقائع «السرية» لسيرة هذه الجائزة، تقول غير ذلك، ليس الأمر يتعلق، هنا، فقط بفضيحة المصور جان ـ كلود أرنو، الذي عُطّلت بسبب تداعيات قضيته (تحرش واغتصاب)، جائزة العام الماضي، لهذا ستُسمّي «نوبل» هذه السنة فائزَين. ولم تكن، على خطورتها وما تُنبه إليه من فساد، فضيحة أرنو، المدعوم مالياً من الأكاديمية السويدية، الذي كان يستخدم معرفته بأسماء الفائزين بالجائزة، قبل إعلانها الرسمي، للابتزاز والمساومة، ممارساً بذلك نوعاً من نفوذ، عبر تسريب زوجته كاترينا فروستينسون الشاعرة التي أُجبرت على الاستقالة من الأكاديمية، سوى ملمح من ملامح «جوانيات» جائزة نوبل، فالأمر يتعلق قبل كل شيء بطبيعة وسياسة الجائزة ذاتها من جهة، وفي تعرضها لضغوط وإملاءات من الأنظمة والحكومات، وحتى الكتّاب أنفسهم من جهة أخرى، بدون التعفّف عن التجاوب مع مثل هذه الضغوط، كما سيبين هذا الاستقراء لبعض خفايا الجائزة، بالاستعانة بشهادات وأقوال عضوين من أعضاء لجنة نوبل، هما الشاعر شيل أسبمارك، والكاتب بير فيستبيري، ترد ضمن موضوع للصحافي والناقد ليونيداس آرتاكيس في صحيفة «داغنز نيهيتر»، السويدية، كما سيأتي تفصيل ذلك في موضعه من هذا المقال.
وإذا كان أحد أهم المآخذ على الجائزة هو تسييسها، كما يتضح في أجلى صوره إبّان الحرب الباردة، حين جعل القائمون عليها، منها، أداةً للمناكفة والمكافأة، وهو ما تجسد في مكافأة الكتاب المنشقين، وفي ذلك مناكفة لبلدانهم، كما هو الحال مع الاتحاد السوفييتي، في وقته، أو الصين، أو أي بلد آخر، تستدعيه الظروف. وقد ظلّ التسييس سارياً عبر «مواقف» الجائزة الكثيرة وهو ما ينطبق على مكافأة كثير من الكتاب، لدواعٍ غير أدبية، كأن يكون لانتمائه الأقلّوي. كما ثمّة التوقيتات غير البريئة في منح الجائزة للبعض ممن يستحق من الكتاب، وهو ما حدث في أكثر من مناسبة.
ويضيق المجال هنا لاستقصاء وسرد كل حالات الخروقات، فسيرة الجائزة في مجملها سيرة مثيرة للجدل. وغني عن القول أن تجاوب الجائزة مع ضغوط أو مغازلات الساسة والدول هو بدوره لا ينفصل عن التسييس، أيضاً، والأكاديمية غير غافلة عن هذه الحقيقة، لكأنها بذلك تُمارس، عن قصد، شيئاً من لعبة نفوذها، وإرباء رصيدها. وهنا يمكن القول إن الجائزة تكون بذلك فاعلة ومنفعلة في واقع التسييس هذا. أن الحديث عن الضغوط، والمغريات، هنا، ليس من باب التكهّن، بل هو مما كان يدور واقعاً وراء كواليس الجائزة، فمن بين الأساليب المستخدمة للتأثير على أعضاء الأكاديمية، على حد قول شيل أسبمارك، دعوات رحلات باذخة. وقد أورد مثالين عن الضغوط والإغراءات التي واجهها أثناء فترة عمله، يقول، حين كنا في التسعينيات، في زيارة للبرتغال، وصل رئيس الوزراء ماريو سواريز مع الكاتب خوسيه ساراماغو وقال: «أعتقد، أنكم ستمنحونه الجائزة». وهو ما آذى ساراماغو وأحرجه، حتى كاد أن يغوص في الأرض». أن التساؤل فيما إذا كانت الأكاديمية قد استجابت لمثل هذه الضغوط، أم تجاهلتها يغدو نوعا من عبث، حين تَحقق لاحقاً حصول ساراماغو، بالفعل، على الجائزة عام 1998. المثال الآخر من أساليب التأثير على أعضاء لجنة نوبل، يتم من خلال دعوات السفر، فقد دُعي أسبمارك إلى زيارة كوريا الجنوبية، عبر السفير الكوري في ستوكهولم، وقد قيل أن الغرض من هذه الدعوة وبنص صريح، هو: «جائزة نوبل بالطبع». وقد رفض أسبمارك العرض. في السياق ذاته، يقول بير فيستبيري: مبدئياً، تأتي «اللوبيات» النوبلية، حالياً، من دول آسيوية، مثل: الهند، الصين، كوريا الجنوبية، اليابان وباكستان. وهو يردّ هذا الاهتمام بالجائزة، في هذه البلدان، إلى ما يسميه الهيبة والبريق، اللذين تمتلكهما الجائزة في هذه المنطقة، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي سابقاً، لكن فيستبيري لم يكن دقيقاً، أن لم يكن منحازاً، في جعل البلدان الآسيوية وحدها من يسيل لعابها لبريق وهيبة الجائزة، وكأنّ أوروبا، محصّنة ضد هذا البريق، فوفقاً لأسبمارك أيضاً، وفي ملاحظة ذكية، فإنّ الدول التي حققت تقدماً صناعياً سريعاً، ترى في ذلك، إضافة إلى إحرازها الجائزة، علامة على مواكبة الروح للتكنولوجيا، ويضيف استكمالاً للمعنى، تعتقد هذه البلدان أنها يجب أن تمتلك قنبلة ذرية ومن ثمّ فائزاً بنوبل. وفي المنحى ذاته من كشف الأسرار يُذكر أن بيير فيستبيري نفسه، أجاب دعوة الشاعر بابلو نيرودا في الستينيات له في بيته في أيسلا نيغرا، خارج سانتياغو، عند الساحل، بغرض إبعاد غونار إيكلوف، الشاعر المعروف، من الأكاديمية السويدية، لأنه كان وراء انتشار فكرة أن نيرودا حينما كان قنصلاً لتشيلي في مكسيكو، منح الشخص الذي قتل ليو تروتسكي سمة دخول إلى المكسيك. وقد شغل نيرودا منصب القنصل العام لتشيلي عام 1939 حتى 1943. (قُتل تروتسكي في أغسطس/ آب 1940). ومن المثير للاهتمام، أن يحصل نيرودا على الجائزة، بعد ثلاث سنوات فقط من وفاة إيكيلوف عام 1968. يتذكر فيستبيري أيضاً كيف أن الكاتب ز. رهنيما من اتحاد الكتاب الإيرانيين، أرسل ثمانية عشر صندوقاً من الفستق إلى الأكاديمية. صندوق لكل عضو. يقول إنه شخصياً وأمين مكتبة نوبل أندرس ريبيري، أكلا الفستق عدا صندوق واحد ذهب إلى عضو الأكاديمية الآخر أرتور لوندكفيست. حول هذا الأمر كتب فيستبيري، أيضاً، في مذكراته: سألني رهنيما لاحقاً، عن هديته وكيف أستُقبلت، فأجبته: لاتزال تكفي لبعض الوقت.
إن حملات الضغط على الأكاديمية لم تتوقف على مدار السنين من الجهات الرسمية، أو سواها، كما في حالة الكاتب والشاعر البلجيكي الناطق بالهولندية هوغو كلاوس، حين أرسلت حكومة بلاده مقترحاً يقضي بوجوب تقاسمه الجائزة مع آخر ناطق بالفرنسية. أو حين دعا ونستون تشرشل عام 1951 تاغه ايلاندر، رئيس الوزراء السويدي، إلى منتجعه الريفي لإقناعه بأن تمنح الأكاديمية، الجائزة للمؤرخ البريطاني جورج تريفيليان. وقد كان مخيباً للآمال أنه لم يكن لرئيس الوزراء مثل هذه السلطة، كما كتب المؤرخ السويدي، ديك هاريسون في صحيفة سفينسكا داغبلاديت. لكن من المفارقة أن يحوز تشرشل نفسه الجائزة، عن مذكراته، بعد عامين من هذا اللقاء، وهو ما يدعو بدوره للتساؤل. هناك أيضاً حملات الكتاب أنفسهم، كما في مثال توماس مان (نوبل 1929) عندما شجّع شخصياً زملاءَه الكتاب على تشويه سمعة منافسه الكاتب والناقد الأدبي آرنو هولز، وهو ما يكشف عنه كتاب «عائلة مان»، السيرة التي أنجزها الكاتب الألماني تيلمان لامه.